أجنحة من ضوء النجوم ٢٠
هبطت إلفينا عليهم كنجمة شهاب، يتوهّج نورها بقوة غضبها.
لم يُفلت ميلوري يد كلاريون فورًا؛ بل ظلّت أصابعه ملتفّة حول ذراعيها العلويتين وكأنه يحميها. ورغم امتنانها لذلك، كانت تفضّل لو أنها اختفت تمامًا. أن تذوب وتتناثر في الهواء مثل بذور الهندباء في مهبّ الريح.
هذا لا يمكن أن يحدث.
حينما حطّت إلفينا على حافة ضفة النهر، كادت كلاريون أن تدير وجهها عنها.
على مرّ السنين، رأت كلاريون وجوهًا كثيرة لإلفينا؛ ورغم أنها جنّية هادئة، فقد تعلّمت كلاريون أن تلاحظ وتفهم تغيّرات مشاعرها الدقيقة. كثيرًا ما رأت خيبة أملها، لكن لم ترَ شيئًا كهذا من قبل. كان وجهها مشوّهًا بغضب مكبوت بالكاد، وكل تفصيلة فيه غارقة في ظلّ داكن وضوء برتقالي.
لكن ما آلم كلاريون أكثر كان رؤية بيترا وآرتميس خلفها. كانت بيترا تطفو على مسافة قصيرة، نصف مختبئة خلف شجيرة توت. ومع ذلك، استطاعت كلاريون أن ترى كم كانت مضطربة: يداها مشدودتان معًا، شعرها مفكوك من تسريحته الأنيقة، وشفتها مثقوبة من كثرة العضّ.
نظرت كلاريون إلى آرتميس، التي هزّت رأسها بخفة. وفهمت كلاريون ما تعنيه: "لم يكن لي يد في هذا."
لم يكن لدى كلاريون شكّ فيما حدث. بعد شجارهما في الحفل، أخبرت بيترا إلفينا بمكان كلاريون. شعور بالخزي بدأ يغلي داخلها، لكن الآن، كان الخيانة تحرق كل إحساس بالإهانة أو الغضب. ورغم الألم، لم يكن الأمر مفاجئًا لها.
كل ما استطاعت قوله هو:
"ما الذي تفعلينه هنا؟"
كان واضحًا أن هذا الرد لم يكن ما تنتظره إلفينا أو ترغب فيه. فقد لمعت هالتها بغضبٍ شديد.
"هل أفهم أن هذا هو ما شغلك طوال الأسابيع الماضية؟ هذا هو سبب فضولك تجاه الشتاء؟ كنت أتوقع منك أفضل من ذلك، يا كلاريون."
تدخّل ميلوري بصوت خالٍ من البرود، بل مليء بالجدية التي يصعب احتمالها:
"أنا المسؤول عن ذلك."
نظرت إليه كلاريون بدهشة. بالطبع، سيحاول أن يتحمّل غضب إلفينا وحده.
"ليس الأمر كذلك..."
لكن ميلوري تابع دون أن يتأثر:
"طلبت مساعدتك لإصلاح خطئي. كل ما فعلتهِ كان بطلب مني. سامحيني، يا جلالة الملكة."
حدّقت فيه إلفينا وكأنه لا يساوي شيئًا، كحشرة لا تستحق النظر. وكان الاشمئزاز على وجهها كافيًا لإشعال غضب كلاريون.
كانت تعرف الآن ما تظنه إلفينا عن جنّيات الشتاء، وتدرك أن الجدال معها لن يغيّر شيئًا. مهما قالت، فلن تُقنعها.
ومع ذلك، لم تستطع كلاريون أن تسمح لميلوري بتحمّل اللوم وحده. لقد ضحّى بما يكفي، بطرق لا تُحصى. وكان يستحق أكثر من ذلك بكثير.
لقد تم تجاهل جنّيات الشتاء والتقليل من شأنهنّ لوقتٍ طويل، رغم أنهنّ تطوّعن بشجاعة لحمل عبءٍ ثقيل.
لم تعد كلاريون قادرة على الوقوف مكتوفة اليدين.
فحرّاس غابة الشتاء حملوا عبئًا هائلًا عن ملكات الجنيات، ويستحقون التكريم لا التوبيخ.
وقفت كلاريون أمام ميلوري، وكأنها تحميه من احتقار إلفينا العلني.
"أنتِ مخطئة بشأنه. أكثر من أي أحد آخر. غابة الشتاء ليست كما كنا نظن."
قالت إلفينا من بين أسنانها:
"سنتحدث في المنزل. تعالي معي. الآن."
لكن صوتًا حاسمًا ردّ عليها:
"لا."
تردّد صدى الكلمة في الصمت، وكأن النجوم نفسها أضاءت أكثر لتؤكّدها.
تراجعت إلفينا قليلًا، بدت وكأنها لا تعرف ما تفعل، أو من هذه المتمرّدة التي حلّت محل كلاريون الهادئة المتزنة.
وحتى كلاريون نفسها لم تكن تعرف من أين جاءتها هذه الجرأة.
قالت إلفينا بحدة:
"ليس لديكِ خيار."
ردّت كلاريون:
"لقد كان يعمل معي لإيقاف الكوابيس! لو أنكِ فقط استمعتِ إليّ..."
قاطعتها إلفينا بتحذير:
"كلاريون..."
لكن كلاريون لم تتراجع:
"كل ما فعلته كان لحماية مملكتنا. هل يمكنكِ أن تقولي الشيء نفسه؟"
تراجعت إلفينا وكأنها تلقت صفعة.
"عذرًا؟"
كانت يدا كلاريون ترتجفان من اندفاع الأدرينالين. بالكاد تعرف نفسها.
شعرت وكأن غضبها العادل سيحرقها، لكنه كان كالنار المشتعلة، ولم تعد قادرة على إيقافه.
"لم تُظهري أي اهتمام برعاياكِ في الشتاء. كنتِ تنوين التخلي عنهم وتركهم يواجهون مهمة مستحيلة!
سحر موهبة الحكم هو الوحيد القادر على إيقاف الكوابيس، لكنكِ لم تهتمي بذلك إطلاقًا..."
ضحكت إلفينا ضحكة قصيرة بلا أي دفء.
"أنتِ لا تعرفين عمّا تتحدثين."
لكن كلاريون أصرّت:
"بل أعرف. والآن بعد أن بدأ الأمر، لن أصمت.
لقد عانى جنّيات الشتاء طويلًا بسبب فهمنا الناقص للتاريخ، ولن أسمح باستمرار ذلك.
حارس غابة الشتاء، ليس كما كنتِ تظنين."
قالت إلفينا بوجه قاتم:
"لا. إنه لا يزال صغيرًا. لم تتح له الفرصة بعد ليصبح ما يمكن أن يصبح عليه: طموحًا مثل من سبقه، أو فاسدًا بفعل تلك الوحوش التي تسمّم كل ما تلمسه. أنتِ لستِ بأمان معه."
إلى جانبها، تجهّم وجه ميلوري.
هل هذا كل شيء؟ هل ستتجاهل كلاريون كل ما قالته؟
"لم أشعر بالأمان في أي مكان كما أشعر به الآن."
تقدّمت إلفينا نحوها، ونظرة عينيها توحي بأنها مستعدة لسحب كلاريون بالقوة من فوق الجسر.
"لقد جعلكِ تنقلبين ضدي."
"لا، أنتِ من جعلني أنقلب عليك!"
خرجت الكلمات من فم كلاريون قبل أن تتمكن من كبحها، فتوقفت إلفينا في مكانها.
ارتجف صوتها، لكنها كانت الحقيقة التي لم تكن تريد الاعتراف بها.
"حاولت أن أكون على قدر المعايير التي وضعتها، فقط لأكون جديرة بالتاج.
حاولت جاهدًا أن أكون مثلك. لكنني لست كذلك. هذا ما علّمني إياه الشتاء."
بدأ غبارها يتوهّج من داخلها، يرتفع مع موجة مشاعرها.
أصبحت تتلألأ بقوة قناعتها. حتى من خلال فرائها، أضاءت أجنحتها وجه إلفينا المذهول بضوء أبيض باهت.
قالت إلفينا، دون أن يبدو عليها الذعر:
"لا، بالتأكيد لستِ كذلك. وهذا أمر مدهش."
تحدثت بيترا بصوت خافت، وهي تخرج من خلف الشجيرات التي كانت تختبئ فيها.
كان وجهها شاحبًا:
"لا أريد أن أقطع حديثكم، لكن أعتقد أن هناك شيئًا خاطئًا."
أشارت بيدها، فتتبعت كلاريون اتجاه إصبعها نحو السماء.
وبالفعل، شعرت أن هناك أمرًا غير طبيعي.
في الدقائق الأخيرة، بدا أن الليل قد أصبح أكثر ظلمة.
كانت الغيوم منخفضة ومخيفة، تتجمّع فوق القمر المكتمل والنجوم المحيطة به.
الهواء كان مشحونًا بالطاقة، يلسع ذراعيها.
لم يذكر أصحاب مواهب الطقس شيئًا عن عاصفة، لكن... لا، لم يكن هذا مجرد برق.
كان الأمر أسوأ، وكأن شيئًا شريرًا يقترب.
ارتجفت.
ثم اندفع شيء عبر السماء: خط ذهبي من غبار الجنيات، يلمع بشكل غير طبيعي وسط الظلام المتزايد.
وحين اقترب أكثر، أدركت كلاريون أنه أحد كشّافي الشتاء، مندفعًا نحوهم بسرعة.
رغم أن الرجل العصفور كان لا يزال يرتدي أفضل ما لديه، إلا أنه كان يمسك بقوسه بقوة،
وصدره يعلو ويهبط، وعيناه زائغتان وكأنهما لا تزالان تحدّقان في شيء لا يُرى.
وأخيرًا، قال بصوت مختنق:
"ميلوري... لقد وقع هجوم."
تحطّم تعبير ميلوري الهادئ فجأة.
"ماذا؟"
لهث الكشّاف:
"كوابيس... لقد اجتاحت المهرجان، أكثر مما رأينا من قبل.
وحدتي تحاول إنقاذ أكبر عدد ممكن من الجنيات ونقلهم إلى قاعة الشتاء، لكن..."
توقّفه كان كصفعة على وجه كلاريون.
شعرت وكأنها تسقط في فراغ، غارقة في دوامة من الحيرة والذنب.
لم يكن هذا من المفترض أن يحدث.
ما فعلته هي وميلوري لم يكن سوى حفنة رمل في وجه موجة عاتية.
لم ينجحا في شيء.
وهمس صوت الشك في داخلها:
هذا كله خطؤك.
كم عدد من فقدوا هذه المرة بسبب تعويذة الكوابيس؟
استفاقت من صدمتها وسألت:
"كيف تمكّنوا من التحرر مرة أخرى؟"
أفاقت إلفينا من ذهولها، وقد أدركت الحقيقة:
"لقد حاولتَ أن تغلق عليهم."
هزّ ميلوري رأسه، مرتبكًا:
"أنا... لا أعلم."
لم ترَ كلاريون ميلوري بهذا التوتر من قبل، لكنه جمع ما يكفي من القوة ليقول بحزم:
"يجب أن أذهب."
أمسكت كلاريون بمرفقه، ونظرت في عينيه بثبات:
"سأذهب معك."
الامتنان الذي أضاء عيني ميلوري جعلها تكاد تفقد أنفاسها.
نادتها إلفينا بصوت يحمل رجاءً:
"كلاريون... لا تفعلي هذا."
لكن كلاريون لم تلتفت إلا للحظة، ونظرتها وقعت على بيترا، التي كانت تحدّق بها بعينين واسعتين يملؤهما شعور لا يمكن وصفه.
ربما كانت بيترا وإلفينا محقّتين: مشاعرها تجاه ميلوري جعلتها متهوّرة.
لكن مع هذا الغضب النبيل الذي يشتعل داخلها، لم تشعر يومًا بأنها أقرب إلى هدفها كما تشعر الآن.
قالت بهدوء:
"أنا آسفة. يجب أن أذهب."
ثم أدارت ظهرها لأصدقائها ولمعلمتها، وتبعت ميلوري نحو برد الشتاء القارس.
-----------------
**رجاءً، لا نكن قد تأخرنا.**
تعلّقت كلاريون بهذا الرجاء وكأنه طوق نجاة، كما تعلّقت بميلوري نفسه.
أمسك بلجام "نوكتوا"، تقودهم عبر العاصفة المتجمّعة.
في الأعلى، كانت الغيوم سوداء تقريبًا، تحجب رؤيتها وكأنها دخان حريق غابة.
الثلج الكثيف كان يضرب وجهها، يتراكم على رموشها، ويؤلمها كأنّه شظايا جليد.
كل هبّة ريح كانت تخرجهم عن المسار، وكلاريون أقسمت أنها سمعت صوتًا يرافقها.
همس الصوت **سقطوا،** .
لأول مرة منذ عبوره الحدود، بدا الشتاء عدائيًا.
لمحت ظلًا خاطفًا في زاوية رؤيتها.
استدارت لترى شيئًا يندفع نحوهم: كائن مجنّح، يلمع بضوء بنفسجي، يحمل طاقة الكوابيس.
صرخت:
"ميلوري! انتبه!"
أدار رأسه نحو الكابوس، وفي لحظة، شقّ البرق السماء، كاشفًا عن الوحش في مشهد مرعب.
شدّ ميلوري اللجام، فانقضّت "نوكتوا" مبتعدة عن طريق الكابوس.
انبطح ميلوري على ظهر البومة ليحافظ على توازنه، وسحب كلاريون معه، في اللحظة المناسبة تمامًا لتفادي مخالب الوحش.
ألصقت جبينها بجناحي البومة، وأطلقت نفسًا مرتجفًا، مرعوبة من مدى قربها من السقوط، ومن فقدان عقلها.
التحليق العادي على ظهر "نوكتوا" شيء، لكن القتال؟ شيء آخر تمامًا.
رفعت نظرها لترى الكابوس يدور حولهم من جديد.
كان قد غيّر شكله ليبدو كالبومة، لكن بشكل مشوّه ومقزز، وكأنه نسخة ساخرة من "نوكتوا".
منقاره كان منحنيًا فوق مجموعة من الأسنان البشرية، مكشوفة في ابتسامة فارغة.
والأسوأ، خلف ظل جناحيه، رأت سحابة مظلمة تتجه نحوهم بسرعة مخيفة.
صرخة بعيدة بدأت ترتفع تدريجيًا حتى تحوّلت إلى عويل حادّ يهزّ عظامها.
لكنها لم تكن سحابة... بل مجموعة من الكوابيس، تطير بأجنحة حشرية.
حتى من هذا البُعد، شعرت كلاريون بجوعهم.
سيطر عليها الخوف.
لن ينجوا أبدًا إذا وصلت إليهم ذلك السرب.
كان هناك المئات منهم.
هل تم إطلاق كل الكوابيس؟
صرخت كلاريون وسط هدير الرياح:
"علينا أن نهبط... الآن!"
حدّق ميلوري في الكوابيس القادمة، وانقبض فكّه.
"حسنًا. تمسّكي جيدًا."
أطاعت كلاريون، فسلّم ميلوري اللجام إلى "نوكتوا".
طوى البومة جناحيه وانقضّ رأسًا نحو الغابة في الأسفل.
امتلأت عينا كلاريون بالدموع، بينما كانت مخالب الرياح والبرد تمزّقها.
تطاير شعر ميلوري خلفه، يصفع وجهه، وهما يهبطان بسرعة.
وفي ثوانٍ، اخترق "نوكتوا" سقف الغابة، تاركًا خلفه أثرًا من الثلج وشظايا الجليد الحادّة.
تعلّقت الأغصان بفراء كلاريون وشعرها بعنف، لكنها بالكاد شعرت بشيء وسط اندفاع الأدرينالين.
وقبل أن يلامسوا الأرض، رفرف "نوكتوا" بجناحيه ليخفّف من سقوطه.
حينما هبطوا، كان قلب كلاريون يخفق بقوة حتى شعرت به في حلقها.
لم تتبعهم الكوابيس إلى هنا، لكنّها شعرت بها، تتحرّك خلف شبكة الأغصان فوقهم.
ظلّت واقفة بلا حراك حتى خفّ صوت الطنين المرعب لأجنحة الحشرات.
السماء التي ظهرت من بين الأغصان كانت لا تزال رمادية قاتمة، لكن لم يكن هناك شيء يحدّق بها.
أنفاسها كانت متقطّعة ومرتعشة، والخوف بدأ يتلاشى، ومعه اختفى ذلك الإحساس البارد بوجود الكوابيس.
لقد نجوا... مؤقتًا.
نزلت هي وميلوري عن ظهر "نوكتوا".
وحينما أصبحا على الأرض بأمان، التفتت لتنظر إليه.
كان قد فقد عصابة رأسه أثناء الطيران، وعلقت قطع من البَرَد والأغصان المكسورة في شعره.
لكن لحسن الحظ، بدا سليمًا إلى حد كبير.
كان هناك خدش صغير على جانب وجهه.
وضعت يدها على فكّه، ومسحت الدم بإبهامها:
"هل أنت بخير؟"
أجاب ميلوري:
"أنا بخير."
ثم نظر إليها، يبحث عن أي إصابة.
وحين لم يجد شيئًا، رأت بعض التوتر يزول من ملامحه.
"وأنتِ؟"
قالت بصوت مرتجف:
"أعتقد ذلك."
ثم استدارت ببطء، تحاول أن تتعرّف على المكان.
لكن لا شيء بدا مألوفًا.
"علينا أن نستمر."
أومأ ميلوري، وقاد الطريق في المسار المظلم، أعمق داخل الغابة، وأعمق داخل العاصفة.
كان وهجه الخافت يضيء طريقه وسط الظلام.
كان تضع خطواته بعناية في نفس آثار أقدامه السابقة.
وسط الرياح المتزايدة والظلام، بالكاد كانت ترى يدها أمام وجهها.
كل غصن يخترق ستار الثلج كان يمتد نحوهما كالمخالب، ومع ازدياد قلقها، بدت أنياب الجليد المتدلّية من الأشجار وكأنها تبرز بتهديد.
كم كانت تكره أن ترى غابة الشتاء الحبيبة وقد تحوّلت إلى مكانٍ مسكون.
كان المكان دائمًا هادئًا، وكل صوت يُخنق تحت الثلج الكثيف.
لكنها كانت سكينة غير طبيعية، وكأن الغابة كلها تحبس أنفاسها، خائفة من الحركة.
خطواتهما كانت تصدر صوتًا عاليًا فوق طبقة الجليد التي تلمع ببرودة فوق الثلج.
ثم سمعت: **صرخات.**
تجمّد دم كلاريون.
لم يتبادل أي منهما كلمة؛ لم يكن هناك حاجة.
وبدافع من ذلك الصوت المرعب، ركضا.
وحين اخترقا غطاء أشجار الزان والصنوبر، توقّفت كلاريون فجأة.
كان أمامهما أنقاض الحفل.
الأكشاك التي مرّوا بها سابقًا كانت مدمّرة تمامًا، لم يتبقَ منها سوى هياكل خشبية محطّمة.
شظايا منحوتات الجليد الحادة تناثرت فوق سطح النهر، تلمع وسط فوضى من بتلات الزهور والزنابق الممزّقة.
لكن كلاريون لم تستطع أن تُبعد نظرها عن الأشكال الداكنة للجنيات النائمات المستلقيات فوق الجليد.
كنّ يبدين كتماثيل، ساكنات تمامًا وسط هذا الدمار.
وكان الثلج قد بدأ يتراكم فوقهنّ.
هنا، كانت الحقيقة المؤلمة لفشلها مكشوفة أمامها.
تجمّعت الكوابيس حول الجنيات مثل بقع زيت، تغلي وهي تحاول أن تتشكّل.
كانت تدور في الهواء، سوداء كالدخان.
وبعضها كان يتربّص بأشكاله الحيوانية، مثقلة بالسهام.
بشكل غامض، رأت كلاريون سهمًا آخر يغوص في عين دبّ مشوّه.
زمجر بغضب، وبدا أنه يبصق... لا، أدركت أنه يفرز سمًّا من أطراف أنيابه القاتلة.
وهذا أعاد كلاريون إلى وعيها.
كان الكشّافون يطيرون فوقهم، أقواسهم مشدودة، وأصواتهم ترتفع بنداءات الحرب.
ورغم أنهم لا يستطيعون قتال الكوابيس مباشرة، كانوا يخاطرون بحياتهم لإنقاذ أكبر عدد ممكن من الجنيات.
بعضهم كان يشتّت الكوابيس، يتفادى خطوط الظلام، بينما يقود الآخرون المدنيين نحو قاعة الشتاء.
غصّ قلب كلاريون عند رؤية هذه الشجاعة النبيلة.
ثم دوّى زمجرت خلفها.
شهقت كلاريون، واستدارت بسرعة.
لتجد نفسها وجهًا لوجه أمام نسخة مشوّهة من "فينريس": ذئب، فمه مليء بأسنان كثيرة، وعينان إضافيتان فوق العينين الأصليتين.
قبل أن تتحرّك، وقبل أن تصرخ، سقط الوحش أرضًا وسط رشقة من الثلج وظلال ملتوية.
ظلّ ساكنًا على جانبه، وقد اخترقته سهام.
سائل أسود كثيف بدأ يتسرّب من الجرح، والدخان يتصاعد منه ببطء وكأنه احترق.
وهالة ذهبية خافتة أضاءت أطراف الجرح.
استدارت كلاريون ببطء، وما رأته كاد أن يُبكيها.
كانت بيترا تقف على بُعد خطوات، تحمل سلاحًا لم تره كلاريون من قبل.
وتعبير وجهها كان مزيجًا من النصر والرعب.
كان شعرها أحمر كالدم تحت غطاء الليل، والثلج يتجمّع في خصلاته كنجوم صغيرة.
وكانت آرتميس تقف بجانبها، كخطّ من الظلام وسط البياض، ويدها على خاصرتها.
قالت آرتميس:
"تصويب رائع."
بدت وكأنها مندهشة رغمًا عنها.
"وردّة فعل ممتازة."
لم تصدّق كلاريون أنهما هنا.
ولو لم يكن عقلها مشغولًا، لربما قلقت من أن يصيب أحد الأبرياء سهم طائش.
لم تكن تظن أن بيترا سبق لها أن استخدمت سلاحًا في حياتها.
لكن في تلك اللحظة، لم تشعر بشيء سوى امتنانٍ عميق.
قال ميلوري بهدوء:
"اذهبي. سأساعد الآخرين في الوصول إلى قاعة الشتاء."
ردّت كلاريون وهي تمسك بنظراته، وقد اجتاحها خوف مفاجئ:
"سأكون خلفك مباشرة."
لو حدث له شيء... لا، لا يمكنها حتى التفكير في ذلك.
"كن حذرًا."
أومأ ميلوري بقوة:
"وأنتِ أيضًا. سأراكِ قريبًا."
ثم استدار، ورفرف ردائه خلفه، وانطلق في الطيران.
لم تستطع كلاريون أن تبتلع كتلة القلق في حلقها، بينما بدأ وهجه يخفت تحت الثلج الكثيف.
لكنها طمأنت نفسها:
ميلوري يعرف كيف يحمي نفسه.
سيعود إليها.
بعد أن اختفى ميلوري عن الأنظار، حولت كلاريون نظرها بعيدًا وركضت وسط الثلج نحو آرتميس وبيترا.
"ما الذي تفعلانه هنا؟"
وبعد لحظة، خطر له سؤال أكثر أهمية:
"كيف وصلتُما إلى هنا؟"
ألقت بيترا سلاحها بجانبها، وكأن الأمر بديهي تمامًا، وقالت:
"لم نكن لنتركك تخوضين هذا وحدك. أما كيف... فمعاطفي التجريبية قد تكون قبيحة، لكنها تؤدي الغرض."
نظرت إليهما كلاريون، وهما يبدوان مضحكين للغاية، غارقين في طبقات من القماش.
كانت المعاطف ضخمة، مرقّعة بشكل عشوائي، ومن الواضح أنها صُنعت من أي شيء وجدته بيترا في زاوية المخترعين.
ضحكت كلاريون رغم الدموع التي بدأت تلسع عينيها.
قالت آرتميس وهي تحدّق في سلاح بيترا بشغف:
"وأردتُ أيضًا تجربة النموذج الآخر الذي صنعته."
رفعت سلاحها، الذي بدا مشابهًا تقريبًا، لكنه كان وكأنه مصنوع من حلم أكثر من كونه شيئًا ملموسًا.
في نظر كلاريون غير الخبيرة، بدا وكأنه قوس حربي مغروز في قطعة خشب رفيعة، وفي وسطها أخدود طويل لوضع السهم.
وكان الوتر يُثبت في مكانه عند سحبه، ويُطلق عبر آلية مرتبطة بزناد.
"على الأقل، سلاحي ما زال نموذجًا أوليًا."
ابتسمت بيترا بمكر وقالت:
"لهذا عليكِ أن تبقي قريبًا مني. كل جهودي بدأت تؤتي ثمارها أخيرًا."
تمتمت آرتميس، دون أي دفء في نبرتها:
"جهودك في تخريب قوس وسهم مميزين."
"لقد أفسدتِ الفن كله."
أشارت بيترا إليها بإصبعها، وكأنها تتهمها:
"هناك فن! أنتي فقط لا تراينـ..."
لكن كلاريون قاطعتها، وقد انقبض قلبها فجأة:
"انتظري... هل هذا ما كنتِ تعملين عليه؟
أليس هذا السيف؟"
ساد الصمت بين آرتميس وبيترا، وتلاشى التوتر بينهما.
قالت بيترا بابتسامة مترددة:
"بالطبع. كنت سأخبركِ، لكن لم تتح لي الفرصة أبدًا."
ارتجفت كلاريون وهي تتذكر شجارهما، لكن قبل أن تتكلم، تابعت بيترا:
"كنت أعمل على سيف إلفينا أيضًا. لكن بعد نقطة معينة، قضيت معظم وقتي في جعله يبدو مقنعًا."
عبست كلاريون:
"مقنعًا؟"
انفجرت بيترا بالكلام، وكأنها لم تعد تحتمل الكتمان:
"السيف لا يعمل! إذا اكتشفت ذلك..."
تدخّلت آرتميس، بنبرة متعبة:
"لن تكتشف شيئًا."
وكان واضحًا أنهما خاضا هذا الحوار من قبل.
صرخت بيترا:
"لكن هذه المرة سأُنفى فعلًا!"
"لا يعمل؟"
توقفت بيترا لتفكر، تحاول أن تهدأ:
"أعتقد أنه يعمل جزئيًا، فحجارة الشمس تنقل ضوء الشمس، لذا من المنطقي أن تنقل ضوء النجوم أيضًا، خاصةً إذا كان المستخدم يملك موهبة التحكم..."
لكن ذكر المواهب ذكّرها بما هو أهم الآن.
"المهم أنه لن يفعل ما تريده إلفينا. كنت سأخبرها بذلك، لكنكِ بدا أنكِ تعرفين ما تفعلينه، و..."
تلاشت بقية الجملة في همهمة غير مفهومة.
لكن كلاريون لم تستطع التركيز إلا على سؤال واحد:
"هل كذبتِ على إلفينا؟"
شحب وجه بيترا حتى صار أقرب إلى الأخضر.
"أعتقد... نعم."
لكن بيترا لم تكن تكذب أبدًا.
كلاريون بالكاد استطاعت أن تستوعب الأمر.
"لماذا فعلتِ ذلك؟"
"لا أعرف." وضعت بيترا يدها على وجهها.
"حين فعلتُها، كان الوقت قد فات. والآن، عندما تكتشف الأمر..."
تنهدت آرتميس، وقالت بنبرة دبلوماسية:
"كنا نؤمن بكِ، كلانا."
ثم نظرت إلى بيترا.
"حتى عندما كنا قلقين عليكِ."
قطّبت بيترا وجهها بأسى.
"أنا آسفة لأنني أشركت إلفينا، رغم أنني كنت أعرف أن هذا آخر ما كنتِ تريدينه.
ارتبكت، كما أفعل دائمًا.
كنت خائفة أن ترتكبي شيئًا أحمق.
لم أرد أن تتأذي."
قالت كلاريون وهي تضحك بخفة، تكاد تختنق بكلماتها:
"أعرف. وأعتقد أنكِ لم تكوني مخطئة تمامًا."
كانت على وشك البكاء، لا تدري إن كان من الراحة أو الندم.
لا يزال هناك الكثير بينهنّ، لكن في هذه اللحظة، هذا يكفي.
لا بد أن يكون كافيًا، وهي لا تعرف إن كنّ سيبقين على قيد الحياة حتى نهاية الليل.
"أنا آسفة أيضًا. لم يكن عليّ أن..."
قالت بيترا بهدوء:
"سنتحدث لاحقًا."
"لاحقًا إذًا."
حاولت كلاريون أن تبتلع موجة المشاعر التي اجتاحتها فجأة.
وأشارت نحو السلاح الذي كانت بيترا تحمله.
"ما هذا الشيء بالضبط؟"
أضاء وجه بيترا بالحماس.
"آه، هذا؟"
اتضح أنه نوع من الأجهزة المصممة لهزيمة الكوابيس.
على الأقل، هذا ما فهمته كلاريون من شرح بيترا المتحمّس والمليء بالتفاصيل التقنية.
"قررت أن أُسميه "قوس تي" أو ربما قوسًا متقاطعًا؟ ما زلت أعمل على التفاصيل الدقيقة،
لكن يمكن تحميله بسهام مشبعة بغبار الجنيات.
طبعًا، ليس بقوة غبار مواهب الحُكم ، لكنني افترضت..."
توقفت بيترا فجأة، وبدأ وجهها يشحب.
قُطع كلامها بصراخ حاد.
استدارت كلاريون لترى الكابوس الذي أطلقت عليه بيترا سابقًا، وقد بدأ يتشكّل من جديد.
انكمش ضبابه وتفجّر وهو يحاول الوقوف.
لم يكن لديهنّ وقت كثير قبل أن يهاجم مجددًا.
سألت آرتميس : "ما الخطة؟" ، كعادتها عملية وواضحة.
أجابت كلاريون:
"معظم جنيات الشتاء احتمين في قاعة الشتاء.
علينا أن نضمن سلامتهنّ أولًا.
سنلتقي ميلوري هناك، نؤمّن المدخل، ونعيد تنظيم صفوفنا.
هل هذا واضح؟"
قالت آرتميس بتحية رسمية:
"واضح، يا صاحبة السمو."
قامت بيترا بتحميل سهم آخر، وسحبت الوتر.
توهّج طرف السهم، وانعكس الضوء الذهبي في عينيها.
كان وجهها قد اتخذ ذلك الهدوء الغريب المألوف؛
نفس الحالة التي تدخلها حين يقترب موعد التسليم ولا يبقى مجال للذعر.
"سننجح في هذا."
بينهنّ وبين قاعة الشتاء بحر من الكوابيس.
لن يصلن إليها دون قتال.
لكن كلاريون، وهي تنظر إلى آرتميس وبيترا، وعيناها تلمعان بالإصرار،
قررت أنها تشعر وكأنها واحدة من أولئك الذين يمكنهم الانتصار.
تعليقات
إرسال تعليق