أجنحة من ضوء النجوم ٢١
شقّوا طريقهم نحو "قاعة الشتاء"، يتقدّمون ببطء بين الأشجار الكثيفة المعتمة ، ووسط الثلوج التي وصلت إلى الركب.
كانت الرحلة سيرًا على الأقدام بطيئة بشكل يثير الجنون. العاصفة الثلجية لم تهدأ، تلطّخهم الثلج وتصفعهم الرياح الحادة.
خدش الجليد جلد وجهها المكشوف، وتسرّبت برودة قاسية كالسكاكين إلى عظامها.
لم تكن "كلاريون" تعرف إن كان هذا الطقس بفعل كوابيس الليل، أم أن الشتاء نفسه يصرخ بنداء حربه.
قالت "إنها ليست بعيدة الآن"، موجّهًتا كلامها إلى "أرتميس" و"بترا".
كم تمنّت أن يكون ذلك صحيحًا. لم يكن من السهل معرفة وجهتهم بدقة، لكن أصوات الاشتباكات وصلت إليها: صرخات وزئير بدأت تتلاشى مع اشتداد العاصفة.
رغم أنها بالكاد ترى أو تسمع، إلا أن أثر الكوابيس ظلّ يخيّم كضباب منخفض، يزحف على جلدها ويشعل أعصابها بالخوف.
من حين لآخر، لمحت كوابيس تطير فوقهم: خيوط من الظلال الملتوية تحجب حتى سواد الغيوم. لم تُعر الثلاثي أي اهتمام، وهم يلاحقون بجَلَد الجنيات الشتوية الهاربة. شعرت "كلاريون" بانقباض في صدرها.
فكّرت أن السماح لـ"ميلوري" بالذهاب وحده كان خطأً.
وحين لمحت أخيرًا "قاعة الشتاء"، بأبوابها المنحوتة من الجليد والمتوهجة بضوء أزرق ناعم ، اشتعلت بالشوق.
وقفوا على قمة تلّ، ينظرون إلى الوادي حيث نُحتت القاعة في جانب الجبل.
من هناك، رأت "كلاريون" الفوضى تتكشّف أمامها.
كانت "قاعة الشتاء" محاصرة بالكامل من قبل الكوابيس.
كان الكشّافون يدفعون الجنيات المرعوبات إلى داخل الأبواب نصف المفتوحة، يحاولون السيطرة على ضغط الحشود الهائجة.
مجموعة أخرى كانت تحلّق في الهواء، تستفز الكوابيس وتبعدها عن القاعة. وهناك، في قلب المعركة، محاطًا بصفّ من الكشّافين، كان "ميلوري".
قفز قلبها من مكانه، وقد اختلط في داخلها الإعجاب والارتياح.
لم تره يتحرك بهذه الطريقة من قبل—بكفاءة وقسوة أنيقة.
كان يطلق موجات من البرودة الخالصة، والهواء امتلأ ببلورات الثلج بينما كان يجمد الكوابيس في لحظة هجومها.
كانت الوحوش ترتجف وتزمجر تحت الجليد، تحاول التحرر، بينما كانت المزيد منها تهبط من السماء.
في الوقت الحالي، كانوا صامدين. لكن إلى متى يمكنهم الدفاع عن أنفسهم؟ أعادت أرتميس تعبئة قوسها، وعيناها الداكنتان تلمعان وهي تراقب المشهد من الأعلى. قالت:
"عددهم كبير."
وكانت كلاريون تفهم تمامًا ما لم يُقال: عددهم **أكثر من اللازم**.
قالت:
"علينا فقط أن نصمد حتى الفجر. حينها سيضطرون للاختباء من ضوء الشمس."
لكن الفجر لا يزال بعيدًا بساعات.
كانت النقوش السحرية على أبواب قاعة الشتاء تتوهج كلما ضرب كابوس الجليد.
القاعة محمية بقوة، لكن أمام هذا الهجوم الوحشي...
قالت أرتميس ببرود وثبات:
"حتى الفجر إذًا. ما هي الأوامر؟"
ردت كلاريون:
"غطي تحركاتي. سأتجه نحو البوابات. بعد ذلك، ساعدي الكشافة في إشغال الكوابيس.
لا تقومي بأي مخاطرة."
وعندما ابتسمت أرتميس نصف ابتسامة ساخرة، أضافت:
"فقط ابقي على قيد الحياة."
اندفعوا نحو المعركة. أصدقاؤها بجانبها: بيترا، بشعرها الأحمر المتطاير كذيل مذنب، وأرتميس، بشفتيها المنفرجتين في زمجرة وحشية.
في الوادي، كان الجو خانقًا كما كان في السجن. كل السلبية التي تنبعث من الكوابيس كانت تضغط عليهم كي تخنقهم.
عرق بارد تسلل إلى عنقها، ورائحة الخوف الحامضة حرقت حلقها. حولها، كانت الكوابيس تتحرك كأنها أقمشة مظلمة ممزقة.
مرّ الكشافة بجانبها، ووجوههم المعذبة تتحول إلى جماجم في ضوء توهجهم البرتقالي.
كانت جحافل الوحوش لا تنتهي. تظهر من الظلال، وتتشكل وسط تساقط الثلج كأشباح.
كلاريون وأصدقاؤها قضوا على كل كابوس اعترض طريقهم.
سقطت الوحوش تحت سهامهم . وتحت حرارة غبار كلاريون، بدأت بعض الكوابيس بالتلاشي، لكنها انسحبت إلى ظلال الغابة.
فكّرت:
"جبناء."
ومن بين ستار الثلج، ظهر شكل مظلم. غزال ضخم وقف خلف أرتميس، وقرونه تقطر بالسموم الظلية. صرخت كلاريون:
"أرتميس!"
ارتبكت أرتميس، وبردة فعل سريعة سحبت سيفها وطعنت ساق الوحش. لكن جسده تموّج كالماء، ومرّ السيف من خلاله دون أن يؤذيه.
ببطء، تجمعت الظلال حول سلاحها وانتزعته منها. وعندما رفع حافره ليسحقها، تفادت الضربة بأنفاس خفيفة.ثم ظهر سيف ثانيتاً في يدها.
كانت تدور به بين أصابعها استعدادًا للهجوم مجددًا، لكن بيترا سبقتها وسددت إليه سهمًا يلمع بغبار الجنيات.
صرخ الغزال، وتراجع مترنحًا، والدم الأسود اللزج يتدفق من جرحه.
قالت أرتميس بجفاء:
"شكرًا."
راقبت كلاريون الاثنتين. خطٌ قرمزي رفيع امتدّ على خدّ أرتيميس، وعلى الرغم من هدوء بترا الظاهري، كانت ذراعها ترتجف من ثقل القوس.
حتى كلاريون شعرت بالإرهاق، وغبارها بدأ يتلاشى.
قالت بترا: "اذهبي. لا تقلقي علينا."
أومأت كلاريون بتردد، ثم ركضت نحو قاعة الشتاء. وسط ضجيج المعركة وغليانها، وجدت بوصلتها الحقيقية: ميلوري.
اندفعت مجموعة من الكوابيس من قلب العاصفة الثلجية وهجمت عليها.
تراجعت متعثرة، وكادت أن تسقط. دون تفكير، مدّت يدها وأطلقت شعاعًا من ضوء النجوم. ارتبكت الوحوش من قوتها، وتلوّت لتتفادى الاحتراق. وبمجرد أن تفرّقت، اخدت كلاريون تلهث من شدة التعب. لم تكن تعرف كم من الوقت يمكنها أن تصمد.
صرخ أحد الكشافة من الأعلى: "الملكة هنا! استمروا بالقتال!"
تعالت صيحات الحرب في الوادي. نظرت كلاريون إلى يديها المرتجفتين، ثم قبضتهما بقوة. كانت قوتها رمزًا للأمل. وربما كان ذلك كل ما يحتاجونه الآن.
ركضت بقية الطريق نحو قاعة الشتاء، وأطلقت شعاعًا آخر على كابوس كان على وشك الانقضاض على ميلوري. طار بعيدًا وهو يصرخ من الألم.
التفت إليها، والدهشة والامتنان بادية على وجهه.
ركضت نحوه، وفي لحظة من الهدوء، تأملته. "أنت بخير."
مرّت أصابعه على فكّها بلطف، للحظة فقط، قبل أن تعود يده إلى جانبه. قال: "تمامًا مثلك."
لم يكن لديها وقت للرد، فقد عادت الكوابيس التي أربكتها. اقتربت أكثر، وبدأت زمجرتها ونقر مخالبها على الجليد يتردد صداه في الجبال.
كانت مترددة في الاقتراب منها، ولم يستعد أي منها شكله الكامل. بعضها انزلق نحوهم بتردد، والبعض الآخر ارتفع كالدخان من حريق غابة، محيطًا بهم بستار من الظلام.
تبادلت كلاريون وميلوري النظرات، ثم الصقا ظهريهما ببعض.
تدافعت الثلوج حولهما، وتجمّع الضوء الذهبي في راحتيهما. ومع اندفاع الكوابيس نحوهما، انسجما في إيقاع المعركة.
استخدمت كلاريون غبارهت كالسكاكين، تقطع بها الكوابيس وهي تهجم. لم تكن تقاوم كثيرًا؛ فقد اخترق نورها الظلام بسهولة. لكنها لم تستخدم قوتها بهذا الشكل من قبل؛ وكلما أسقطت وحشًا، كلما ضعفت أكثر.
ضربها أحدها، وكان يشبه الجرذ، بذيله، فاصطدمت بجانب الجبل بقوة. انقطع نفسها، وامتلأت رؤيتها بالبياض. تعافت في اللحظة التي دفعها فيها انفجار جليدي بعيدًا.
سحبها ميلوري ونهض بها، ولم يترك يدها. كانت عيناه مليئتين بالقلق، وأصابعه تشبثت بذراعها.
قال: "لقد فعلتِ ما يكفي، كلاريون. يجب أن تدخلي."
قالت من بين أسنانها المشدودة: "لا. يمكنني الاستمرار. علينا أن نصدّهم حتى الفجر."
رأت في عينيه شيئًا يشبه الاستسلام. أدركت الحقيقة: لم يكن يتوقع أن يصمد حتى الفجر، لكنه لم يكن ينوي التراجع.
عقدة من المشاعر شدّت داخلها. لم تستطع إنكار أنه بدا يائسًا. ومع العاصفة التي كانت تزمجر خلفهم، كانت الكوابيس تتوافد أكثر فأكثر.
وضعت كلاريون يدها على يده، ونظرت في عينيه بثبات.
"لن أتركك. لا تطلب مني ذلك."
رأى اللحظة التي انهار فيها تماسكها. تكسّر تعبير وجهه، ولبرهة مؤلمة، أسند جبهته إلى جبهتها. بصوت منخفض، قال:
"أجلينا كل من استطعنا. علينا أن نستدعي من تبقّى في الخارج ونستعد للمعركة الأخيرة."
المعركة الأخيرة. ارتجف جسدها عند سماع تلك الكلمات. لكنها أومأت.
"معك الكشافة. سأبحث عن أرتيميس وبترا لأتأكد من عودتهما سيرًا."
انطلق في السماء، يصرخ بأمر الانسحاب. أما كلاريون، فبدأت تبحث عن صديقتيها وسط الفوضى.
وبعد وقت، رأتهما تقاتلان وحشًا يشبه الوشق، كابوسي الشكل.
ركضت نحوهم عبر الساحة. ملأت صرخات الكوابيس أذنيها. انقلبت على الأرض لتتفادى هجومًا، وانطلق برق ذهبي من يدها، أسقط الوحش أرضًا.
بقلب يخفق، نهضت بسرعة، لتشهد الوحش يغرس أنيابه في ساق أرتيميس التي صرخت من الألم، وهي تتلوّى بعنف، وجسدها يهتز كدمية ممزقة.
صرخت بترا: "أرتيميس!"
أطلقت سهمًا نحوه، لكنه مرّ بجانب كتفه. التفت الوحش نحو بترا، وعيناها اتسعتا من الرعب.
انقضّ خفاش كابوسي على كلاريون. جمعت ضوء النجوم في يدها وأسقطته، لكن وحشًا آخر أطاح بها أرضًا.
ضغط عليها بجسده الثقيل. قاومت بجنون، حتى انفجر الغبار من داخلها، فاندفع الوحش بعيدًا، محررًا إياها.
زحفت قليلًا، ثم نهضت بصعوبة. كانت عظامها تؤلمها، وشفتها تنزف من عضّتها، ويداها ترتجفان بشدة، بالكاد تستطيع إطلاق أي غبار سوى دفعات بسيطة.
لكنها لم تتوقف. على بُعد خطوات، رأت وميضًا خافتًا لغبار الجنيات يسقط من السماء—جنية أخرى سقطت. شعرت بوخز مؤلم في قلبها، لكنها لم تستطع فعل شيء لها الآن. كان عليها التركيز على أرتيميس، التي أصبح وجهها شاحبًا كالأشباح، يتلألأ بالعرق، وساقها ملتوية بشكل غريب، تتوهج بلون أحمر حيّ ومؤلم.
كان الوحش الكابوسي يقترب من بترا. مخالبه مغطاة بالسم، تتوهج بلون بنفسجي في الظلام.
وبينما كانت بترا تحاول وضع سهم جديد في قوسها، هاجمها الوحش.
طارت في الهواء، ثم ارتطمت بجذع شجرة. صوت تحطّم مروّع مزّق الصمت.
سقط سلاحها على الأرض، وانزلق بعيدًا عن متناولها. تمددت بترا بلا حراك، وشعرها الأحمر انتشر على الثلج كأنه بقعة دم. كانت عيناها مغلقتين، ووجهها متجمّد في تعبير مرعب.
اصبحت أسيرة لظلال الكوابيس.
"لا"، فكّرت كلاريون. "لا، لا، لا."
كم جنية سقطت اليوم؟ وكم واحدة ستسقط بعد؟ لقد فقدت الكثير.
والآن، فقدت بترا.
اندفعت مشاعرها بقوة، ثم انفجرت في قوس من الضوء الساطع. انعكس ضوءها على الجليد والثلج، حتى أضاء الوادي وكأنه نهار وسط الليل.
عوت الوحوش المحيطة بقاعة الشتاء من الألم. كان هروبهم مثيرًا للشفقة. تلوّوا وتغيّروا بألف شكل، يائسين للفرار من وهج قوتها القاسي.
في وسط ذلك ، انكشفت كل الكوابيس على حقيقتها: صغيرة، مرتجفة، وضعيفة، عارية أمام ضوئها، لا شيء سوى مجرد أشياء تافهة.
انسكب الضوء منها بلا توقف، محرقًا تلك الكوابيس تمامًا. وعندما خفت الضوء أخيرًا، تنهدت الريح عبر الوادي. وما تبقّى من الكوابيس تلاشى، متبعثرًا في الهواء كحبّات رملٍ سوداء.
ثم انهارت كلاريون على ركبتيها.
تعليقات
إرسال تعليق