أجنحة من ضوء النجوم ٢٢

 

شعرت كلاريون وكأنها جوفاء، كما لو أن أحدهم قد انتزع أحشائها. ذلك البريق الذي كانت تشعر به في صدرها، كوميض النجوم، صار بارداً كرماد المدفأة بعد انطفائها.


رغم أن الإرهاق كان يسحبها نحو الأرض، ورغم أن رؤيتها كانت تتلاشى حفت نحو بيترا.

 وعندما وصلت أخيراً، أطلقت شهقة مختنقة. بدا أن النمش على وجه بيترا قد تلاشى في شحوب بشرتها الشمعي. كانت عيناها تتحركان خلف جفنين مغلقين، تطاردان شيئاً لا تراه كلاريون، شيئاً لا تستطيع إنقاذها منه. لم تستطع الاحتمال. لم تعد تحتمل ثقل الفشل. أرادت أن تنكمش بجانبها في الثلج وتستسلم. أرادت أن تنام إلى الأبد.


كان النوم يبدو سهلاً جداً.


لا تدري كم من الوقت ظلت راكعة هناك، قبل أن تسمع صوت خطوات في الثلج بجانبها. أمالت رأسها نحو الصوت. كان ميلوري ويارو واقفين فوقها، نظراتهما التوأمية مليئة بالقلق. شعرت ببرودة لا تحتملها حتى أطول ليالي الشتاء قسوة. برودة وصلت إلى أعماق روحها. جعلت دمها يتباطأ، وأفكارها تتثاقل. بدا كل شيء غير واقعي، حتى أنها لم تكن متأكدة من وجودهما فعلاً.


همست كلاريون بصوت بالكاد خرج من بين شفتيها: "اذهبوا إلى أرتميس أولاً."


أجاب ميلوري بهدوء: "المعالجون يعتنون بها."


"حسناً." أغمضت عينيها ببطء. "الجو بارد جداً."


وفي البعيد، أدركت أن ميلوري كان يتحدث إلى يارو بصوت منخفض. لم تسمع سوى شذرات: "... شاحبة جداً... يجب أن نفعل شيئاً..."


فكرت أنه كان يتحدث عنها، فحاولت كلاريون أن تركز على رد يارو...


"لا يمكنني فعل شيء إن لم يكن هناك جرح أعالجه. الضغط الذي أرهقت نفسها به..." سكت المعالج. "الوضع سيئ، يا ميلوري. إنها منهكة تمامًا. يجب أن تعود إلى مواسم الدفء فورًا. هناك، سيعرف معالجوها كيف يتعاملون معها."


"هل أنا أموت؟" سألت نفسها. كانت تشعر بانفصال تام عن جسدها، حتى أن فكرة الموت بالكاد أخافتها.


قال ميلوري: "لا أحد من أصدقائها قادر على إعادتها. يمكنني إيصالها إلى أطراف الربيع."


سأل يارو، ويداه مشدودتان بجانبه: "وماذا لو لم تجد جنّيات الدفء هناك؟ لقد حذرهم الكشافة من الهجوم. لا أظن أن أحدًا ينتظر عند الحدود."


تغيرت ملامحه. لم يعجب كلاريون ذلك التصميم في فكه، ولا ذلك الاستسلام المنعكس في وقفة كتفيه. بدأ شعور بالخوف يتسلل إليها، أعمق من أي كابوس عانته من قبل. 

"سأفعل ما يجب علي فعله."


قال يارو بتحذير: "ميلوري..."


أجاب: "أنا مدرك للتكلفة."


– حقًا؟


رأت كلاريون ومضة الألم في عيني يارو، وكيف أنه لم يعارض أكثر حين ركع ميلوري بجانبها. مرر ذراعه تحتها ورفعها بين يديه.


أشار إلى أحد الكشافة وصفّر لنوكتوا. وفي لحظة، هبطت البومة من مكانها. بمساعدة الكشاف، رفع ميلوري كلاريون على ظهر نوكتوا، ثم صعد خلفها. وأخد دفء ريش البومة يبعث في جسدها بعض الطمأنينة.


و بينما كانوا يحلقون في سماء الشتاء، بدأت رؤية كلاريون تتلاشى. بالكاد استطاعت أن تميز ملامح وجهه، المتوهج بضوء القمر، وشعره الأبيض كثلج الذي ينساب في السماء المرصعة بالنجوم.

 "العاصفة انقشعت"، فكّرت بذهول.

 بدا كل شيء جميلًا... وحزينًا. وعندما شعرت بنظراته، نظرت إليها. كان القلق في جبينه يمزق قلبها. أكثر من أي شيء، أرادت أن نزيل عنه ذلك العبء.


لكن في هذه اللحظة، كانت عاجزة.


لم تشعر بشيء سوى الفراغ. خدر غريب اجتاح جسدها بالكامل. لو استسلمت، شعرت أنها قد تختفي ببساطة. وكان ذلك مغريًا. جفناها ثقيلان جدًا. ومن بين الثلج المتشابك على رموشها، رأت النجوم تخفت. كأنها تناديها.


كلاريون...


أم كان ميلوري؟


قال بصوت حازم: "كلاريون، ابقي معي."


كانت متعبة جدًا. لكن إن طلب منها ميلوري أن تبقى... فليس هناك شيء في هذا العالم سترفضه له. فكل ما تملكه، هو له. 

تمتمت بكلمات متعثرة: "حدّثني..."


ساد صمت للحظة، ثم أطلق صوتًا متقطعًا، وكأنه لا يصدق ما سيقوله: "هل تعلمين أنني رأيت نجمك يسقط؟"


عند سماع ذلك، اشتعل في داخلها شرارة دفء صغيرة. ابتسمت ابتسامة خافتة، وقالت: "حقًا؟"


" حقًا "


اتسعت عيناها عند سماع رقّة صوته. كان محاطًا بضوء سماوي، بدا وكأنه من عالم آخر. نظرت إليه بشغف يائس، مزيج من التقدير والألم، شعور غريب بدأ يتفتح داخلها، كزهرة تنمو من عمق أفكارها الغائمة، دون أن تعرف له اسمًا.


قال بصوت خافت، وكأنه يسترجع لحظة بعيدة: "لم أكن أعلم حينها أنها كانت تجلب لنا ملكة جديدة. لم أكن قد رأيت نجمًا ساقطًا من قبل؛ إنها تسقط بسرعة. لكنني التقطت اللحظة التي ارتفعت فيها عبر السماء. أتذكر ذلك الإحساس..."

 تلاشى صوته، وارتسمت على وجهه ابتسامة حزينة دافئة. 


"لم أشعر بالأمل منذ وقت طويل، لكنني شعرت به تلك الليلة. حتى أنني تمنيت أمنية."


أمنية؟ كانت تعرف أن الأمنيات لا تُقال، لأن ذلك يسلبها قوتها. لكن، إن كان قد تمنّى أمنية على نجمها الخاص، فربما يمكنها أن تحفظ أمنيته له.


وكأنه شعر بما دار في ذهنها، همس: "تمنّيت أن يكون لي مستقبل مختلف في مملكة الجنيات... مستقبل لا أكون فيه أسير للكوابيس. حيث ربما لا تكون عوالمنا بهذا الانقسام."


يا لها من أمنية جميلة. وعندما سمحت لنفسها بتخيّلها، امتلأ قلبها بالشوق. شبكت أصابعها بأصابعه، وطبع ميلوري قبلة خفيفة على ظاهر يدها.


همست: "سيكون هناك مستقبل كهذا. أعدك."


وإن كان ذلك آخر ما ستفعله، فسنجعل أمنيته تتحقق.


تألقت النجوم أكثر. امتلأت ملامح ميلوري بالدهشة، وهو يرى ضوءها يرتفع مع الثلج المتطاير حولها.

 وعندما التقت نظراته بنظراتها من جديد، نست كيف تتنفس. يا لها من لحظة جميلة، أن ترى اللحظة التي وقع فيها في حبها. ربما كان يحبها منذ البداية، منذ تلك الليلة التي سمح فيها لنفسه أن يأمل من جديد. لكن مع الظلام الذي يزحف، ومع ذهنها الذي يسبح بعيدًا ، لم تستطع أن تقنع نفسها بأنها لم تتخيل كل ذلك.


لا بد أن شيئًا بهذا الجمال... كان حلمًا.


               ---------


حين عادت رؤيتها للوضوح، كانوا قد هبطوا بالفعل.


كانت كلاريون متكوّرة على جانبها، ما تزال آمنة بين ريش نوكتوا. لم يستغرق الأمر سوى لحظة لتدرك أنهم توقفوا عند الحدود بين الشتاء والربيع، وأن ميلوري لم يعد بجانبها.

 ارتجفت، وحاولت أن ترفع نفسها على كوعها، لكنها كانت منهكة تمامًا، فسقطت من جديد. لم تستطع سوى أن تئن بصوت ضعيف، بينما العالم من حولها بدا وكأنه يميل.


من مكانها، لم ترَ سوى رقائق الثلج تتجمع في شعرها وتدور ببطء أمامها. كان ضوء القمر الأبيض يلمع على سطح النهر، وعلى ضفافه، آثار أقدام عميقة، متداخلة فوق بعضها. 

فكّرت: ميلوري كان يمشي... ما يزال يمشي. ثم رأته من جديد، وملامحه تقترب من اليأس.


ماذا حدث؟


كان رأسها يؤلمها من محاولة التذكّر. هنا، حيث البرد استقر في أعماقها، لم تجد الإجابة. بدا كل شيء بعيدًا، وكأنها تراقب نفسها من مكان مرتفع جدًا.


تمتمت بصوت مشوش: "ماذا تفعل؟"


تفاجأ ميلوري حين رآها، استقرت ملامحه على جدية قاتمة. "لا شيء. أين معالجوكِ؟"


عبست، تحاول التركيز. "حقول الحُمَّى."


"أين تقع؟" بدا صوته يائسًا.


كان واضحًا أن الإجابة تعني له الكثير. ربما تستطيع أن تبقى واعيًتا لفترة أطول قليلاً.


قالت بصوت ضعيف: "عند حدود الصيف والخريف."


أخذ ميلوري نفسًا عميقًا. "حسنًا إذًا."


عندما سمعت نبرة الحسم في صوته، أدركت – متأخرة – لماذا سأل ، وعادت الذكريات فجأة إليها: أسراب الكوابيس، ومضة الضوء .

ميلوري مصمم على إعادتها إلى مواسم الدفء.


 اخترقها شعور عاجل: لا يمكنه فعل ذلك ! إذا عبر الحدود، ستتحطم أجنحته !


لا بد من طريقة أخرى. لو استطاعت فقط أن تمشي، أو حتى تبقى على ظهر نوكتوا... لكنها بالكاد تستطيع تحريك إصبع. حتى ارتجاف جسدها توقف، وكأن جسدها فقد الأمل في أن يدفأ من جديد. لم يتبقَ لها سوى قدرتها. رغم أنها لم تنجح يومًا في الانتقال الفوري، كانت إلفينا قد شرحت لها نظريته. إن استطاعت أن تنجح فيه مرة واحدة فقط، فليكن الآن. حاولت أن تستجمع قوتها، وكأنها تحفر بأظافرها في قاع بئر جاف. خرج منها أنين خافت من الألم.


لا شيء. لم يتبقَ شيء. ولم يعد هناك خيار آخر.


قالت بصوت خشن: "اتركني."


لكن مع كل رشفة من ذلك القرار، تحوّل الذعر إلى ألم. كلاهما كان يعرف أنها، في هذه الحالة، أقرب للسقوط من الوصول إلى المعالجين. همس: "نوركِ... يكاد ينطفئ تمامًا."


كان هناك شيء تريد قوله، لكن الكلمات كانت تتلاشى. كان من الصعب جدًا أن تتكلم، ومن الأصعب أن تبقى واعيه ومع إغلاق عينيها، أطلق ميلوري صوتًا مختنقًا. ثم، بجناحيه المرتجفين، طار فوق ظهر نوكتوا وحملها بين ذراعيه.


قالت بصوت مكسور: "ميلوري... توقف."


لكنه لم يرد. أمسك اللجام بيد واحدة، وشدّه بقوة، دافعًا نوكتوا للطيران من جديد. لم يتردد حتى وهو يعبر الحدود.

 الدخول إلى الربيع كان كالغرق في ماء ساخن. ومع تدفق الحرارة عليها، أرادت كلاريون أن تبكي من الراحة والرعب في آنٍ واحد. جنّي الشتاء لا يملك حماية هنا.


"رجوك" تشكلت الكلمة على شفتيها، لكنها خرجت كهمسة بالكاد تُسمع.


هل سمعها؟


كان رأسها مستند إلى كتفه، وكل ما رأته هو فكه المشدود ونظرته الصلبة نحو الأمام. بشرته الشاحبة بدأت تحمرّ، والعرق يتصبب من جبينه. وهي تستند إليه، شعرت بقلبه ينبض بسرعة.


الحرارة كانت أكثر من أن يحتملها.


قالت بصوت مرتجف: "أجنحتك..." كانت كلماتها مشبعة بالعاطفة. متى بدأت تبكي؟ لقد ظهرت الدموع فجأة...


قال اسمها وكأنه يتوسل: "كلارين... أمام حياتك، لا يساوون شيئًا عندي. سأختارك في كل مرة."


كادت تلك الكلمات أن تحطمها. كانت دموعها تنهمر بحرية على وجنتيها، لكنها لم تعد تملك القوة لمسحها. بالكاد استطاعت التركيز عليه


 "لماذا؟"


أجاب بهدوء: "مملكة الجنيات تحتاجكِ. وبصفتي الحارس، من واجبي أن أحميها. وهذا يعني أن أحميكِ أنتِ."


لو كان لديها ما يكفي من القوة لتجادله... كانت ترفض منطقه بكل ما تبقى فيها. كيف يمكن أن تكون حياتها أهم من حياته؟ لكنها أصبحت سجينة داخل جسدها، تشاهد بصمت كيف يضحي بنفسه من أجلها. وكان ذلك أسوأ أنواع العذاب.


قال لها: "اغضبي إن أردتِ، لكنني لا أستطيع أن أفقدكِ."


وبحزن، أدركت أنها كانت ستفعل الشيء نفسه لو انقلبت الأدوار.


يا له من جنون تصنعه القلوب!


عرفت كلارين أنهم دخلوا منطقة الصيف. تحتهم، امتدت الخضرة والزهور الذهبية كضباب ناعم. لكن الدفء الذي لامس بشرتها كان وكأنه يرحّب بها في وطنها.

 ذابت الثلوج المتشابكة في شعرها، وانساب الماء على عنقها. 

بدأت تشعر بأطرافها من جديد، لكنها لم تكن ترغب بذلك، فالإحساس عاد كآلاف الإبر تخترق جلدها الذي كان فاقدًا للإحساس. 

ومع ذلك، لم يبدد دفء الهواء ذلك البرد القابع داخل صدرها. كان قلبها مظلمًا وفارغًا، كفضاء بين النجوم.


كان تنفس ميلوري متقطعًا، يحرّك خصلات شعره المتعرجة. هذه كانت أخطر منطقة في مملكة الجنيات بالنسبة له. في الليل، الجو رطب فقط، لكن في النهار، الشمس لا ترحم.


وصلها عبير الصيف المألوف. وعندما نظرت كلارين إلى الخارج، رأت بتلات الزهر البيضاء مغمورة بضوء القمر. لم تبدُ يومًا بهذا الجمال... أو بهذا القبح.


قالت بحزن: "هناك."


عندما هبطوا في الحقل، انزلق ميلوري عن ظهر نوكتوا وسقط بثقل، وكأنها بالكاد بستطيع الوقوف. 

تقدم نحو باب عيادة المعالجين بخطوات متعثرة وبطيئة. لم تستطع كلارين أن تبعد نظرها عن أجنحته. كانت مطوية على ظهره ، لكنها بدت وكأنها... تذوب.


لا......


كانت تتقطر من أطرافها كأنها شظايا جليد تذوب في بداية الربيع. مجرد رؤيتها جعل معدتها تنقلب من شعور بالذنب. لم تستطع تخيّل كم من القوة تطلب الأمر ليتحمل هذا الألم. 

طرق الباب، لكن قبضته كانت ضعيفة.


وبعد لحظات، ظهرت موهوبة الشفاء في المدخل، يضيء وجهها الضوء المنبعث من الداخل. لم تسمع كلارين ما قيل، لكنها تخيّلت شكل الحوار. رأت كيف مزّقت المشاعر وجه المعالجة بينما كان ميلوري يتحدث: من الحيرة إلى الصدمة، ثم إلى هدوء جاد يولده الإلحاح.


أومأت المعالجة، ثم اختفت داخل العيادة، تاركة الباب مواربًا. زحفت يرقة مضيئة من خلال الفتحة، وانطلقت نحو شجرة غبار الجنيات، يضيء بطنها بإشارة الطوارئ.


استدار ميلوري نحوها وقال: "سأضطر لنقلكِ."


بأنّة خافتة، رفعها ميلوري عن ظهر نوكتوا. ضمّها بين ذراعيه وحملها إلى داخل العيادة.

 بشرته، التي كانت دائمًا باردة على بشرتها، أصبحت الآن ساخنة بشكل مقلق.

 كانت الشموع تضيء بخفوت، وقد ذابت لتتحول إلى برك صغيرة من الشمع في صحونها الضحلة. انتشر في الجو عبير الأعشاب العلاجية: رائحة النعناع والبابونج، وجذر الأرقطيون القوي. لكن كل ما استطاعت التركيز عليه كان صوت تنقيط أجنحته المنتظم على أرضية العيادة: تنق... تنق... تنق...


قال أحدهم لميلوري: "من هنا."


تابع طريقه بتردد داخل العيادة. في الظلام، لم تستطع كلارين أن ترى الكثير، لكنها شعرت عندما مرّوا تحت ستارة النباتات العصارية. أوراقها الشمعية اصطدمت ببعضها، ولمست وجهها برقة كأنها تواسيها.

 حملها إلى الغرفة المخصصة للجنيات في الحالات الحرجة. لم يكن الأمر يبدو حقيقيًا، حتى عندما وضعها على السرير. كانت أسنانها تصطك من البرد. 

فكّ ميلوري المشبك عند عنقه وغطّاها بالرداء. ما زال يفكر بها، حتى الآن.


همست كلارين: "اذهب... أرجوك."


بدا عليه الألم. "لا أستطيع." جثا بجانب سريرها. "ليس بعد."


قالت بتوسل: "أرجوك يا ميلوري." حاولت أن تجد أي كلمة تقنعه، لكنها لم تجد شيئًا. بالكاد استطاعت أن تفهم ما قاله. 

وسط هذيانها، رأت لمعان العرق على وجهه. سمعت صراخ المعالجين وهم يتبادلون التعليمات. لم تكن تدرك سوى ومضات من الإحساس: ماء بارد على شفتيها... غبار الجنيات يتطاير... وخز الإبرة... والدفء، يعود ببطء شديد.


لم تكن تعرف إن كانت دقائق أو ساعات أو أيام قد مرّت، حين سمعت صوتًا يقول:


"الحارس؟"


فكرت "إلفينا"

  كانت نبرتها حذرة، لكنها لم تكن تحمل العداء الذي أظهرته لها في بداية الليل.


فتحت كلارين عينيها بالكاد، تنظر إلى ضوء الشمعة المنعكس على السقف. كان يتمايل بشكل ساحر فوق الفتيلة.

 كانت أجنحتها شفافة كزجاج مظلم، لا يضيئها سوى نقاط صغيرة من ضوء النجوم.


قال ميلوري بصوت مبحوح: "كنت بحاجة لأن أعرف أنكِ ستكونين بخير."


أصدرت إلفينا صوتًا بين الإعجاب والدهشة. "يجب أن ترحل الآن. عد إلى الشتاء قبل فوات الأوان."


لم يتحدث أي منهما. للحظة، ظنت كلارين أن كل ما حدث كان مجرد خيال صنعه عقلها المرتبك، وقد تلاشى الآن.


لكن إلفينا قالت: "شكرًا 

لك."


لم تكن بحاجة لتفسير.


قال ميلوري: "كانت لتفعل الشيء نفسه من أجلي."


حاولت كلارين أن تتمسك بتلك الكلمات. لكن الظلام بدأ يزحف إلى أطراف رؤيتها. وآخر ما سمعته قبل أن تغرق من جديد كان:


"إنها تستحق الحماية."

تعليقات

المشاركات الشائعة