أجنحة من ضوء النجوم ١٩
لو أن بيترا فقط تركتها تكذب. لو أنها لم تدفع كلاريون إلى مواجهة لم تكن مستعدة لها.
"أتمنى... نعم، أتمنى."
كانت كلاريون غارقة في أفكارها وهي تسحب معطفها من الحفرة التي خبأته فيها داخل جذع شجرة قريبة. ضمته إلى صدرها، تستنشق عبير الشتاء العالق في أطراف الفرو. لم يمنحها ذلك أي عزاء، بل كان تذكيرًا مرًّا بكم تدين لبيترا.
تنفست بعمق، محاولة طيّ مشاعرها المجروحة. لم يكن لديها رفاهية الحزن الآن. فزيارتها الليلة إلى الشتاء كانت لأداء واجب ملكي .
يمكنها أن تتحكم في مشاعرها، كما تفعل أي ملكة جديرة. ومع ذلك، كل ما كانت تريده هو أن تنسحب إلى غرفتها، لتغرق في التفكير بكيف دمّرت رسميًا علاقتها بأعز صديقاتها.
رغم أن الشمس قد غابت تمامًا، كان بإمكان كلاريون أن تجد الحدود بين الشتاء والربيع وهي معصوبة العينين ، فأجنحتها تعرف الطريق: كل حجر يبرز من الأرض، كل انحناءة في النهر، كل غصن يعبر المسار—كلها تقودها إلى المكان الوحيد الذي تشعر فيه بالانتماء.
بدا أن الربيع يشعر بحزنها هذه الليلة. أغصان الصفصاف لامست ذراعيها برقة، وبدت أزهار الكرز تتفتح بجنون أكثر من المعتاد. بتلاتها تشابكت في تنورتها واستقرت بلطف على سطح البركة المضيئة بضوء القمر التي مرّت بها.
وعندما وصلت إلى الحدود، كان ميلوري بانتظارها.
هبطت كلاريون ببطء من طيرانها، وانساب ذيل فستانها حولها، لتتساقط منه غبار الجنيات وذرات من الضوء الذهبي، لتلألأ الماء والجليد بلون ذهبي باهر.
في ظلمة الليل، بدا ميلوري كأنه رسمٌ تحت السماء المرصعة بالنجوم. لم تستطع كلاريون أن تبعد عينيها عنه. لم تره من قبل مرتديًا زيّ رتبته. كان يرتدي رداء من حرير العنكبوت، مصبوغ بلون أزرق باهت...
كانت تطريزات عباءته مزخرفة بنقوش جليدية بخيوط فضية دقيقة، ومثبتة على كتفيه ببروش من الجليد الصلب ، يلمع فوق ذلك القماش.
اما شعره الأبيض. فقد تركه دون ربط، فسقط يتلألأ بضوء القمر على ظهره.
لبرهة، تبادلا النظرات، والهواء بينهما مثقل بكل ما لم يُقال. كيف ظنّت أنها تستطيع فصل مشاعرها عند اللقاء؟ ربما لم تكن بيترا مخطئة تمامًا.
وأخيرًا، كسر ميلوري الصمت. تحرك طرف ردائة المبطن بالفرو وهو ينحني لها.
"جئنا لنرافقك إلى الحفل."
"نحن..."
توقفت حين رأت نوكتوا، جاثمة على غصن شجرة تنوب قريب، تراقبهما بنظرة أقرب إلى الضيق . إن كانت حتى البومة تشعر بالتوتر، فالوضع فعلاً قاتم.
"بالطبع."
أشار إلى المعطف الذي تحمله.
"هل أساعدك في ارتدائه؟"
ترددت. كانت ترغب—رغبة قوية نوعًا ما—في الحفاظ على بعض المسافة بينهما، لكن ما الضرر في لفتة بسيطة كهذه؟ ناولته المعطف.
"لا أرى مانعًا."
مدّه لها لتُدخل ذراعيها في الأكمام. وما إن استقر على كتفيها، حتى بدأت تغلق الأزرار. كانت تدرك كم يبدو مظهرها غريبًا، ترتدي ذلك المعطف المرقّع فوق أفخم فستان سهرة تملكه. لكنها حين نظرت إلى ميلوري، وجدته يحدّق بها وكأن مظهرها صدمه.
سألت : "ما الأمر؟" .
"لا شيء إطلاقًا." قال وهو يعرض عليها ذراعه.
"هل ننطلق؟"
وضعت يدها على مرفقه.
"كم هو مناسب!"
قال وهو يغمز بخفة:
"هذه أول مرة تزور فيها ملكة الجنيات ارض الشتاء بشكل رسمي. أنوي أن أترك انطباعًا جيدًا."
استدار، و بدأت كلاريون تتابعه، انزلقا نحو الشتاء. وهناك كان البرد الذي لفّها كأنه تطهير ، وبدا حفل التتويج في الصيف بعيدًا جدًا الآن.
وأثناء سيرهما نحو نوكتوا، دفع ميلوري كتفه برفق نحو كتفها.
"هل يشغلك شيء؟"
فكرت للحظة في أن تكذب.
"هل الأمر واضح لهذه الدرجة؟"
ردّ ميلوري بهزة كتف تحمل معنى: "للغاية."
وبعد لحظة، سأل:
"هل هي الكوابيس؟"
"جزئيًا." عضّت داخل شفتيها بقلق.
"أنا آسفة. كنت أنوي التواصل معك في وقت أقرب. الهجمات توقفت، لكن..."
"...لا أحد استيقظ."
شعرت كلاريون بالألم في نبرة صوته، وبالظلال المتعبة تحت عينيه الشاحبتين. كم تمنت أن تخفف عنه بعضًا من هذا العبء.
"لا أفهم ما الخطأ الذي ارتكبناه."
"لم ترتكبي أي خطأ." قالها ميلوري وهو يثبت نظره أمامه، غارقًا في التفكير.
"التعليمات لم تكن واضحة تمامًا. وكان هناك دومًا احتمال أن تكون الأسطورة طريقًا مسدودًا، لكن ما فعلتيه لم يكن عبثًا. إغلاق السجن منح شعبك راحةً لم يشعروا بها منذ أسابيع. وهذه الليلة دليل على ذلك."
"ربما..." همست بها كلاريون. "لكن لا يسعني إلا أن أشعر بالذنب، وكأننا نسينا الحلم. يبدو من الخطأ أن نحتفل وهم غائبون."
"لا أظن أن هناك خطأ في التمسك بلحظات الفرح التي نجدها."
ارتجف قلبها قليلاً. نبرته الهادئة والمنخفضة بدت وكأنها تحمل معنى خفيًا. كانت عبارة جميلة، تتمنى لو أنها تصدق أنها تنطبق عليها... عليهما.
التزمت الصمت، خشية أن تفلت منها كلمات حالمة أو حزينة لا تليق بالموقف. فمزاجها الآن لا يضمن لها ما قد تقول.
"على أي حال..." تابع ميلوري كلامه
"أنا والحارس بدأنا نبحث عن نصوص أخرى قد تحمل إجابات. سيستغرق الأمر وقتًا، فقاعة الشتاء ضخمة... وصراحةً، غير منظمة. كل حارس كان له نظام تصنيف خاص به، ولم ينجح أحد في توحيدها. هناك قسم كامل تُرتّب رفوفه حسب اللون فقط."
كادت كلاريون أن تبتسم. كم يبدو سحريًا أن تتحول مكتبة كاملة إلى قوس قزح.
"أتمنى لو أستطيع المساعدة."
"وأنا كذلك." تردد قليلاً ثم تابع : "إن أردتِ، يمكنني أن أكتب لك بما نكتشفه."
بعد تتويجها، افترض أن لا أحد سيُراقب مراسلاتها.
كلاريون : "حسنًا."
أومأ برأسه.
"هل هناك شيء آخر يقلقك؟"
تنهدت كلاريون بعمق، وخرج نفسُها كغمامة بيضاء.
"أخشى أن يبدو الأمر تافهًا مقارنة بما سبق. تشاجرت مع بيترا في الحفل، ولا زال الأمر يؤرقني."
وعندما وصلا إلى نوكتوا، أمسك ميلوري بلجامها—لاحظت أنه مصنوع من مادة فاخرة، حتى الطيور لها أناقتها على ما يبدو—ثم ترددت.
ميلوري : "هل ترغبين في الحديث عن الأمر؟"
هل كانت ترغب؟ جزء منها، بالطبع، كان يريد ذلك. لكنها خافت أن فتح الجرح سيطلق سيلًا لا يمكن إيقافه. ستضطر حينها للتفكير في كيف كادت بيترا أن تتسبب بأسوأ نتيجة ممكنة للشتاء. والأسوأ، أن تفكر في دورها هي في تعميق الفجوة بينهما. رغم أن مخاوف بيترا لم تكن غير منطقية. دخول غابة الشتاء كجنية دافئة كان خطرًا حقيقيًا. ربما كان عليها أن تتحدث معها بدلًا من بناء الجدران.
ربما لم أُصغِ إليها كما ينبغي منذ وقت طويل.
قطّبت جبينها وهزّت رأسها.
"سينتهي الأمر قريبًا."
لم يبدو مقتنعًا، لكنه لم يُلحّ.
"كما تشائين."
صعدت كلاريون وميلوري على ظهر نوكتوا، وقد أدركت أنها بدأت تعتاد الأمر. لم تعد تتمسك بجناحي البومة بخوف كما كانت تفعل من قبل.
هناك، بين ذراعي ميلوري، شعرت بشيء يشبه السلام. تجرأت على النظر إلى الأسفل. تحت ستار الليل، بدا الثلج بلون أزرق باهت.
لم يمضِ وقت طويل حتى أدركت أن ميلوري يقودهم إلى منطقة لم ترها من قبل. تحتهم كان نهر متجمّد، يلمع كأنه من الزجاج. ومن هذا الارتفاع، استطاعت أن ترى الحشود تتجول فوق الجليد، وعلى ضفاف النهر تنتشر بعض الأكواخ، مضاءة من الداخل بضوء برتقالي دافئ ومبهج.
شدّ ميلوري لجام نوكتوا، فرفرفت بجناحيها لتبقى معلقتاً في الهواء. وعندما تحدث، شعرت كلاريون بصوته يهتز في صدرها ويتسلل برقة إلى أذنها.
"يجب أن أحذّرك... قد يكون الأمر طاغيًا بعض الشيء."
نظرت إليه بنظرة ماكرة.
"أتشك في قدرتي؟"
"أبدًا"، قال بهدوء. "لكنهم يعرفون ما فعلته من أجلهم."
واو... توقعت أن يغيّر ذلك الأمور ، ففي المواسم الدافئة، لم يكن أحد يعلم أنها وميلوري قد أغلقا بوابة الكوابيس.
"شكرًا على التحذير. لكنني أظن أنني مستعدة."
لمعت في عينيه شرارة من المرح.
"إذًا استعدي لدخول مهيب."
وبالفعل، كان دخولًا مهيبًا.
انقضّت نوكتوا، تهبط على الحفل الشتوي وسط دوامة من الريش الأبيض وغبار الجنيات. خففت البومة من سرعتها ببضع رفرفات، فرفعت طبقة الثلج العليا حولهم في دوامة ساحرة، وهبطوا عند أطراف أرض المهرجان.
ورغم هدير الرياح، سمعت كلاريون هتافات جنيات الشتاء. وفي لحظة، تجمّع الحشد حولها، وبدأت تلتقط أجزاء من اسمها، تُقال لا بصمت مهيب، بل بحماس! كان شعورًا غريبًا عليها، بالكاد استطاعت استيعابه.
صاح ميلوري وسط الضجيج : "ضيفتنا الشرفية وصلت!" .
وبطريقة ما، ارتفع الصوت أكثر. لم تستطع كلاريون إلا أن تضحك من المفاجأة، وهي تنظر إلى وجوههم. لم تتخيل أن أحدًا قد يفرح لرؤيتها بهذا الشكل. وكل ما كانت تأمله هو ألا تخيّب ظنهم.
اقترب ميلوري منها وهمس في أذنها:
"لقد حذّرتك."
"بالطبع."
وعندما نزلت كلاريون من على ظهر نوكتوا، حركت الرياح أطراف فستانها المتلألئة. وسارت هي وميلوري وسط بحر الجنيات المتجمد. لكنهما بالكاد تقدّما نحو النهر، إذ كانت تتوقف كل بضع خطوات.
"مرحبًا بكِ في غابة الشتاء، يا صاحبة السمو." قالت جنية بشعر أبيض مضفور بانسيابية على كتفها، مبتسمة لها.
"أردت أن أقدّم لكِ هذا، إن قبلتِه."
مدّت يدها الى وردة الياسمين المتجمدة، التي تتلألأ بشكل مثالي. كانت جميلة، ولفتة في غاية اللطف. لا بد أن العثور عليها كان صعبًا، فالياسمين لا ينمو إلا على أطراف الشتاء والربيع.
تناولتها كلاريون برقة، تخشى أن تمزق بتلاتها الهشة.
"بالطبع أقبلها. شكرًا جزيلًا لكِ."
وما إن أنهت كلماتها، حتى تقدّم رجل عصفور مكان الجنية، وقدّم لها تمثالًا صغيرًا منحوتًا من الجليد.
"هدية بسيطة تعبيرًا عن امتناننا، يا صاحبة السمو، لأنكِ خاطرْتِ بحياتك لحمايتنا."
"أوه..." قالتها، وقد غمرها التأثر.
تناولت التمثال بحذر، تحتضنه بكفها المغطاة بالقفاز. كانت تعلم أنه سيذوب إن احتفظت به، إن لم يكن الآن، فحين تعود إلى المواسم الدافئة. تأملت جمال هذه الأشياء الهشة الزائلة.
"إنه لشرف لي."
ومع اقتراب الجنية الثالثة، أدركت كلاريون أن هناك طابورًا قد تشكّل. اندهشت لرؤية هذا العدد من الجنيات ينتظرن الحديث معها. بدأت اللقاءات تتداخل، دوامة من الأيدي المتشابكة، الأسماء المتبادلة، والهدايا—كثيرة جدًا، حتى أنها لم تعرف كيف ستأخذها معها، أو أين ستضعها، إن استطاعت ذلك أصلًا. جنيات الشتاء، اللواتي كنّ بعيدات عن المواسم الدافئة لوقت طويل، كنّ... متحمسات لمشاركة كل ما لديهن.
كرَمُهن ودفؤهن أدهش كلاريون. بين هذا الاستقبال الحافل وشجارها مع بيترا، بدا العالم مكشوفًا أكثر من اللازم، ومشاعرها على وشك الانفجار من أي وخزة بسيطة.
لقد كان الأمر طاغيًا بالفعل.
ومع انحسار الحماس الأول وتفرق الحشود، قامت جنية لطيفة بتحميل أغراضها على مزلجة، وعرضت إيصالها إلى الحدود بعد انتهاء الاحتفال. آخر من كان ينتظر رؤيتها هو ميلوري. وشعرت كلاريون براحة لا بأس بها حين رأته.
"كيف حالك؟"
"بخير تمامًا"، قالت، وكانت تعني ذلك. "لكنني متعبة قليلًا."
بدا عليه شيء من الأسف.
"هل أوصلك إلى المنزل؟"
"لا"، أجابت بسرعة ربما كانت زائدة. الحقيقة أنها لم تكن ترغب في المغادرة... ليس بعد.
"لم أزر أيًا من الأكشاك."
"هذا أمر لا بد منه قبل الرحيل." مدّ ميلوري يده نحوها. شعرت بدوار جميل لا يمكن السيطرة عليه حين نظرت إليه.
"تعالي معي إذًا."
تناولت يده.
"حسنًا."
قادها نحو النهر المتجمّد. ومع اقترابهما من أرض المهرجان، بدا الليل أكثر إشراقًا. كانت الشموع مشتعلة فوق كل سطح متاح—الحجارة، الطاولات الجليدية، جذوع الأشجار—تحوّل كل شيء إلى لون وردي دافئ. امتصّ النهر ضوء الشموع، وبدا وكأنه يتوهج وسط الظلام.
على ضفافه، أقامت جنيات الشتاء أكواخًا خشبية ملوّنة، أسقفتها مغطاة بطبقة كثيفة من الثلج، تتدلّى منها الشوائك الجليدية كالكريستال.
كل كشك كان يقدم شيئًا مختلفًا: عصير تفاح متبّل، حساء اليقطين مزين ببذور الرمان، سلطات من الخضار الداكنة وشرائح رقيقة من البنجر، جوز مكرمل مقطع بدقة، كعك مغطى بطبقة من الحمضيات، وبودينغ الكراميل في صلصة كراميل.
أصرّت كلاريون على تذوّق القليل من كل شيء.
من حولها، كانت الجنيات يتزلجن على الجليد ويطفن في الهواء وهن يرقصن. يرتدين ملابس بيضاء ناصعة وحمراء داكنة. توقفت كلاريون لتتأمل الدانتيل الجليدي والأحجار المتلألئة التي تزين آذانهن ومعاصمهن. حتى أزياؤهن هنا كانت مختلفة تمامًا!
سألها ميلوري : "هل ترغبين في الانضمام إليهن؟" .
التفتت إليه، متوترة لأنها ضُبطت وهي تحدّق بشوق واضح. استغرق الأمر لحظة لتدرك أن سؤاله بدا وكأنه دعوة.
"هل ترقص؟"
"أستطيع"، قال، "نظريًا. لكنني نادرًا ما أجد سببًا لذلك."
ردّت بابتسامة : "أنا مندهشة"، . بالكاد استطاعت تخيّله يرقص.
اضافت : "أنا أيضًا لا أرقص. حسنًا، ليس تمامًا... لطالما رغبت في ذلك."
أصدر صوتًا متأملًا.
"ولماذا لم تفعلي؟"
"الملكات لا يرقصن."
"في الشتاء، كل شيء ممكن." نظر إليها نظرة عميقة، وجفّ حلقه.
"ثم إنكِ لستِ ملكة بعد."
احمرّت وجنتا كلاريون، وقد ارتدت كلماتُها عليها.
هزّت رأسها له بتأنيب لطيف. ومع كل لحظة تمر، أصبح من الصعب أكثر فأكثر أن تتذكر لماذا أصرّت على إبقاء المسافة بينهما. ما قاله كان صحيحًا: هي ليست ملكة بعد. ونظرته إليها كانت مليئة بالأمل، حتى بدا من القسوة أن ترفضه.
لمَ لا تسمحين لنفسك بليلة أخيرة من الحرية؟
بدا عليه الانكسار، وتنهد بصوت خافت. اقتربت كلاريون منه خطوة، ورفعت ذقنها لتلتقي بنظراته.
"لا أظن أنني أستطيع الاعتراض على ذلك."
انفرجت شفتا ميلوري بصمت، وارتجف قليلًا، وكأنه فقد القدرة على الكلام. من الواضح أنه لم يتوقع موافقتها بهذه السهولة. لكن بعد لحظة، استعاد توازنه بما يكفي ليسأل:
"هل أجرؤ على طلب الرقصة الأولى؟"
احتاجت كلاريون إلى كل قوتها لتُبقي نبرتها ساخرة وبعيدة.
"تجرؤ."
وفي البعيد، أدركت أن الموسيقيين قد بدأوا بعزف لحن جديد. ببطء، وضعت يدًا على كتفه، والأخرى انزلقت إلى يده. استقر في إطار الرقصة، وجذبها إليه، واضعًا يده على منحنى خصرها. لفّها برد بشرته المألوف والمريح، ومعه عبير الثلج المتساقط حديثًا.
ورغم ادعاءه أنه نادرًا ما يرقص، فقد قادها بخفة وكأن الأمر معتاد لديه.
كانا من القلائل الذين يرقصون في الساحة؛ وكان ذلك شعورًا محررًا، أن يكون لهما كل هذا الفضاء، دون خوف من الاصطدام بأحد.
كانت أقمشة فستانها تتطاير حولها وهما يدوران، تجمع الثلج وضوء النجوم.
سألها : "كيف وجدتِ أول حفل شتوي؟" .
"مذهل. إنه... إنه..." بحث عن الكلمة المناسبة، لكن أكثر الكلمات تناقضًا كانت الأنسب له.
"دافئ."
بدا ميلوري سعيدًا، لكن سرعان ما تحوّلت ملامحه إلى تفكير عميق.
"هكذا يمكن أن يكون... إن أردتِ ذلك."
ولأول مرة، سمحت كلاريون لنفسها أن تتخيل الأمر. عندما تصبح ملكة، سيكون بوسعها تغيير الأمور في المواسم الدافئة. رغم أن إلفينا قد نقلت إليها حكمتها، إلا أن وقتها في الشتاء أراها أن هناك طرقًا أخرى. كم سيكون جميلًا أن تحكم لا من مسافة باردة، بل بدفء! وربما، حينها، لن تكون وحيدة. مجرد التفكير بذلك ملأها بشوق لم تعرفه من قبل.
وعندما انتهت الموسيقى، لم يتركها ميلوري على الفور. قاومت رغبتها في أن تسند رأسها على كتفه. ورغم أن قلبها كان يتمنى البقاء، إلا أن البرد بدأ يؤثر عليها. فأصابعها بدأت تتخدر، وأطراف أذنيها تتجمد من البرد.
"يجب أن أعود إلى الصيف قبل أن يلاحظوا غيابي."
إن كان يشعر بخيبة أمل، فلم يظهر ذلك على وجهه. لكنها قرأت في عينيه تردده في تركها، ولم يكسره إلا البرد الذي بدأ يشتد. حتى بعد أن أفلت يدها، بقيت راحة يده تستقر على أسفل ظهرها.
"بالطبع. سنخرجك من هذا البرد."
ساد بينهما جو من الهدوء الحزين؛ ومرّت رحلة العودة إلى الحدود بصمت.
لم تستطع كلاريون التركيز إلا على شعور النهاية. وكان ميلوري يشعر بذلك أيضًا.
أمسك بلجام نوكتوا بقوة، وكأنه يحاول التمسك بهذه اللحظات الأخيرة. بينما أسندت كلاريون رأسها على كتفه، تاركة عينيها تنخفضان نصف الطريق. ومن هذا الموضع، لمحت خصلات شعره الأبيض المنسدل، تتماوج كأشرطة في الظلام.
هبطت نوكتوا، وسرعان ما بدأت تزيل ريشها. بدا وكأن رأسها يعود نحوهم.
ومع غياب الشمس منذ وقت طويل، كانت درجة الحرارة قد انخفضت بشكل حاد. كانت قطع الجليد تطفو في تيار النهر، تلمع تحت ضوء القمر كأنها ألواح زجاجية سوداء.
عندما نزلت كلاريون من على ظهر نوكتوا، غاص حذاؤها في الثلج العميق. ترددت قليلًا، ورفعت رأسها لتنظر إلى ميلوري، الذي بقي جالسًا على ظهر نوكتوا. بدا في عصابته، المتجمدة على شكل مسامير حادة، وكأنه تمثال لورد الشتاء: مهيبًا وحزينًا في آنٍ واحد.
كانت الرياح تعصف في الأجواء وكأنها تنهيدة حزينة، جعلت ردائه يرفرف، وخلقت ستارًا من الهواء البارد بينهما.
لم يجرؤ على قول وداعًا.
"هكذا يمكن أن يكون، إن أردتِ ذلك"، قال لها ذات مرة.
ألم يكن من حقهما السعادة؟
"ميلوري..." بدأت، وفي نفس اللحظة قال هو: "أنا..."
تنحنح قليلًا. "تابعي."
أطلقت كلاريون نفسًا مرتجفًا. "هل تنزل أولًا؟"
وبلا تردد، نزل إلى الثلج بجانبها. كانت لا تزال بحاجة إلى النظر إليه، لكن الوقوف على الأرض جعله يبدو أقرب، وكأنه لن يبتعد بسهولة. خلعت قفازيها، واحدًا تلو الآخر. جمعت شجاعتها وقالت:
"كنت أفكر."
ردّ بصوت بالكاد يُسمع: "تفكرين في ماذا؟"
"في كلامك. أنا..." ضاعت الكلمات منها، ولم تعد قادرة على التعبير. سقط القفازان على الأرض.
نظرت في عينيه وقالت:
"لا أريد أن أرحل."
بدا وكأنها انتظرت هذه الكلمات طوال حياتها. وكأن سدًا انكسر بداخلها، والعاطفة التي اشتعلت في عيني ميلوري اجتاحت قلبها كموجة.
وضع ميلوري يديه فوق يديها، وأحاط معصميها بأصابعه. حتى شعر بنبض قلبها المتسارع تحت لمسته، وبرد بشرته يتسلل إلى جلدها.
همس في الفراغ بينهما:
"إذًا لا ترحلي."
وكأنها أبسط عبارة في العالم.
و ماذا يمكنها أن تفعل غير ذلك؟ وقفت على أطراف أصابعها وقبّلته.
تسللت أصابعه إلى شعرها عند مؤخرة عنقها، ورفع ذقنها ليعمّق القبلة. بدأت دبابيس تاج الزهور تتفكك، وتناثرت بتلات بيضاء وحبوب لقاح عطرة عند قدميها.
تراجعت قليلًا وهو تلهث، لكن حتى تلك المسافة الصغيرة كانت مؤلمة لها. كم كرهت في تلك اللحظة حدود جسدها، وعجزها عن تحمل البرد طويلًا.
"أنا أتجمد."
ردّ يهمس :
"لا يمكنني السماح بذلك."
لم يكن أيٌّ منهما مستعدًا للابتعاد.
احتضنها، وقادها ببطء إلى الخلف. ضحكت كلاريون بخفة، ولفّت ذراعيها حول عنقه لتتوازن. توقفت فقط عندما وجدا نفسيهما بين عالمين: قدماها على الطحالب، وقدماه في الثلج الخفيف. لكن حتى هنا، في الربيع، ظل البرد ي
لاحقها. لمع الثلج على رموشها، وتنفسها المشترك معه كان يطفو في الهواء برقة.
في تلك اللحظة، فكّر ميلوري: هذا يكفي. يمكننا أن نجعل هذا ينجح. لم يكن هناك شيء، ولا أحد، سوى هما فقط. عالمهما الخاص، مكتمل ومغلق على دفئه.
ثم، اخترق صوت مألوف فرحتهما كالسهم:
"كلاريون!"
كان ذلك صوت إلفينا.....
تعليقات
إرسال تعليق