كان يا مكان قلبٌ منهار ١٦
الجزء الثاني : الشمال البهي
ما إن همست إيفانجلين بـ"نعم"، حتى أطلق العازفون فوقهم نفيرًا مبهجًا، وانفجر القاعة كلها بالتصفيق، فاحتضنها أبولو بين ذراعيه بنبلٍ ورشاقة.
كانت ابتسامته نقية، مليئة بالفرح. ربما كان سيقبّلها في تلك اللحظة. جفناه بدأا بالانخفاض، وشفته تقتربان منها. وحاولت إيفانجلين أن تميل نحوه.
كانت تعيش لحظة من حكاية خرافية، تحلّق داخل قلعة مسحورة، بين ذراعي أمير اختارها لتكون له، متجاوزًا كل فتاة أخرى هناك.
لكن طريقة اقترابه منها ذكّرتها بقبلة أخرى. بقبلتهما الأخيرة، تلك التي دبّرها جاك لأسباب لا تزال تجهلها. ولكن، ماذا لو كان هذا هو السبب؟ لم تكن إيفانجلين تريد أن تصدق أن هذا العرض للزواج كان من تدبير جاك. لا يمكن أن يكون قد توقع أن قبلة واحدة ستقود إلى هذا، ولا تفهم لماذا قد يرغب بذلك أصلًا. كان من الأسهل، والأجمل، أن تتخيل أن هذا لم يكن ما يريده جاك إطلاقًا.
ألم يكن من المفترض أن يشعر الاساطير بالغيرة؟
"هل أنتِ بخير؟" تسللت يد أبولو الدافئة على طول عمودها الفقري، تداعبها برفق كما لو كانت تحاول إيقاظها من حلم مزعج. "لم تغيري رأيك، صحيح؟"
تنفست إيفانجلين بتردد.
ما زالت لا ترى جاك بين الحشود، لكن شعورًا غريبًا انتابها، وكأن المملكة بأسرها تراقبها. القاعة كلها تجمعت حولهما، والأنظار تتراوح بين الانبهار والغيرة.
"أنتِ مشوشة." قال أبولو وهو يرفع وجهها برفق بأطراف أصابعه. "أنا آسف، يا قلبي. كنت أتمنى لو أن هذه اللحظة كانت لنا وحدنا. لكن سيكون لدينا الكثير من اللحظات الخاصة في المستقبل." ثم مال برأسه، مستعدًا مرة أخرى ليقبّلها.
كل ما على إيفانجلين فعله هو أن تغمض عينيها وتبادله القبلة. كانت هذه فرصتها لنهاية سعيدة.
وعندما دفعت شكوكها جانبًا، شعرت فعلًا بالسعادة. هذا ما كانت تحلم به، السبب كله وراء قدومها إلى الشمال. كانت تتمنى قصة حب مثل قصة والديها. كانت تتمنى حبًا من النظرة الأولى، وفرصة مع الأمير، وها هي الآن بين يديها.
رفعت رأسها نحوه.
شفاه أبولو التقت بشفتيها قبل أن تغمض عينيها. في الليلة الماضية، تردد قليلًا، لكن هذه الليلة، قبّلها بثقة أمير لم يُرفض من قبل. كانت شفتاه ناعمتين، لكن القبلة كانت كزهور تتساقط من فستانها، وأنفاس مندهشة من الحشد، بينما رفعها بين ذراعيه، ودار بها، وقبّلها وقبّلها وقبّلها. كانت قبلة من تلك التي تُنسج في الأحلام المحمومة، دوامة من حرارة ولمسات، وهذه المرة، لم يأتِ جاك ليوقفها. لم تشعر بيده الباردة على كتفها، ولا بصوته في رأسها يخبرها أنها ارتكبت خطأ. كل ما سمعته كان همسات أبولو، يعدها بأن كل ما تمنته يومًا، سيصبح لها.
بعد وفاة والد إيفانجلين، بدأت تراودها أحلام يظهر فيها والداها وكأنهما لا يزالان على قيد الحياة. في تلك الأحلام، كانت تقف داخل متجر الفضول، بجانب الباب، تنظر من النافذة وتنتظر وصولهما. كانت تراهما يسيران في الشارع، يدًا بيد، وكلما اقتربا من الباب تمامًا في اللحظة التي كانت ستسمع فيها صوتيهما وتشعر بذراعيهما يحتضنانها كانت تستيقظ. وكانت دائمًا تحاول العودة للنوم بشدة، فقط لتعيش دقيقة أخرى من الحلم.
كانت تلك الأحلام أجمل ما في يومها. لكن الآن، بدا الاستيقاظ وكأنه حلم. شيء غير واقعي قليلًا، لكنه جميل. لم تجرؤ إيفانجلين على فتح عينيها في البداية. لطالما كانت آمالها هشة كفقاعة صابون، ولا تزال تخشى أن تنفجر. كانت قلقة من أن تجد نفسها وحيدة مرة أخرى في غرفتها الضيقة في فاليندا.
لكن فاليندا باتت على بُعد نصف عالم، وقريبًا، لن تكون وحيدة أبدًا.
وعندما فتحت إيفانجلين عينيها، كانت لا تزال في فالورفيل، في سريرها الذي يشبه صندوق كنز داخل نزل حورية البحر واللآلئ، وكانت مخطوبة لأمير !
لم تستطع إيفانجلين أن تمنع الابتسامة التي ارتسمت على وجهها، ولا الضحكة التي خرجت من صدرها.
"أوه، رائع! لقد استيقظتِ أخيرًا."
أطلت ماريسول برأسها من الباب، جالبة معها دفئًا لطيفًا من نار الغرفة المجاورة. يبدو أنها كانت مستيقظة منذ وقت طويل. فقد كانت ترتدي بالفعل فستانًا بلون الخوخ والكريمة، وشعرها البني الفاتح كان مضفرًا بعناية، وكانت تحمل كوبين من الشاي الساخن، ينشران في جناح إيفانجلين البارد عبق التوت الشتوي والنعناع الأبيض.
كانت الفتاتان منهكتين تمامًا عندما غادرتا الحفل أخيرًا، حتى إنهما انهارتا داخل العربة ونامتا طوال الطريق إلى النزل.
"أنتِ ملاك." قالت إيفانجلين وهي تجلس وتتناول كوب الشاي بامتنان.
"لا أصدق أنك استطعتِ النوم بعد كل ما حدث الليلة الماضية!" قالت ماريسول بحماس، لكن نبرة صوتها كانت مرتفعة بشكل غير طبيعي، وأصابعها ترتجف وهي تمسك بكوبها.
تخيلت إيفانجلين أن ماريسول، رغم مظهرها المتحمس، لا بد أن الأمر كان صعبًا عليها أن ترى إيفانجلين تعيش نهايتها السعيدة بينما لا يزال الناس يلقبونها بـ"العروس الملعونة".
وكل ذلك بسبب إيفانجلين.
والآن، أصبحت إيفانجلين تملك ما هو أثمن، ما يجعلها أكثر خوفًا من أن تخبر ماريسول بالحقيقة عن علاقتها بجاك.
وفجأة، صار طعم الشاي يشبه طعم الدموع والملح، بينما تابعت ماريسول حديثها: "عرض الأمير أبولو كان أكثر لحظة رومانسية رأيتها في حياتي، وربما أكثر لحظة رومانسية حدثت على الإطلاق. ستكونين عروسًا رائعة الجمال!"
"شكرًا لكِ." قالت إيفانجلين بهدوء. "لكن لا داعي لأن نستمر في الحديث عن هذا."
عبست ماريسول قليلًا. "إيفانجلين، لا يجب أن تخفي سعادتك من أجلي. أنتِ ستصبحين أميرة، ولا أحد يستحق ذلك أكثر منك. وكنتِ محقة بشأن الليلة الماضية، لم يتعرف عليّ أحد على أنني العروس الملعونة. حتى إن أحدهم طلب مني الرقص. هل رأيتِه؟" عضّت ماريسول شفتها وابتسمت. "أعتقد أنه كان أوسم شخص في القاعة بعد الأمير أبولو، طبعًا. كان شعره أزرق داكن، وعيناه زرقاوان لامعتان، وابتسامته غامضة جدًا. اسمه جاك، وأنا بالفعل بدأت أتمنى...."
"لا!"
تراجعت ماريسول وكأن أحدهم صفعها.
انكمشت إيفانجلين في مكانها. لم تكن تقصد أن تبدو كلماتها قاسية، لكنها شعرت بأنها مضطرة لحماية أختها غير الشقيقة من جاك.
"آسفة، فقط... سمعت أشياء خطيرة عنه."
انكمشت شفاه ماريسول. "أعلم أن الصحف كانت لطيفة معك، لكني كنت أظن أنك تعرفين جيدًا ألا تصدقي الكلام السيئ الذي يُقال من وراء ظهور الآخرين."
"أنتِ محقة، لا يجب أن أصدق الشائعات، لكن الأمر ليس مجرد كلام الناس." حاولت إيفانجلين أن تتحدث بلطف أكثر هذه المرة. "لقد قابلت جاك. كان في الحفل تلك الليلة الأولى، و... لا أظنه مناسبًا لك."
قهقهت ماريسول بسخرية. "ليس الجميع يحظى بأمير، إيفانجلين. بعضنا يعتبر مجرد اهتمام بسيط حظًا كبيرًا."
"ماريسول، أنا....."
"لا، أنا آسفة." قالتها ماريسول بسرعة، وقد شحب لون وجهها. "ما كان يجب أن أقول ذلك. هذه كلمات أمي، وليست كلماتي."
نظرت ماريسول إلى بقعة الشاي التي سقطت على تنورتها، وعيناها بدأت تلمعان بالدموع. لكن إيفانجلين كانت تعرف أن البكاء ليس بسبب الفستان. لم يكن الأمر يومًا عن الفستان.
جلست ماريسول على طرف السرير، لا تزال تحدق في البقعة على ثوبها، وصوتها بدا بعيدًا. "هل لعبتِ تلك اللعبة في طفولتك؟ اللعبة التي فيها دائرة من الكراسي، وعندما تتوقف الموسيقى يجب أن تجدي كرسيًا لتجلسي عليه؟ لكن لا توجد كراسي كافية للجميع، فيُستبعد أحدهم من اللعبة. هذا ما أشعر به، وكأنني فوّتُ فرصتي في الجلوس، وتم استبعادي من اللعبة."
أخذت ماريسول نفسًا مرتجفًا، وشعرت إيفانجلين بذلك في صدرها.
لطالما كان من الصعب على إيفانجلين أن تتواصل مع ماريسول. لم يكن بينهما الكثير من القواسم المشتركة، باستثناء لوك، وهو أمر مؤلم أن يكون الشيء الوحيد الذي يجمعهما. لكن ذلك بدأ يبدو وكأنه أقل ما تشاركتاه.
نظرة واحدة إلى ماريسول الآن ذكّرت إيفانجلين بتلك الأشهر التي عملت فيها في متجر الكتب، حين بدأت تشعر وكأنها إحدى الروايات المنسية على الرفوف الخلفية، مهملة ووحيدة. لكنها كانت دائمًا تؤمن بأن الأمور ستتغير. ربما فقدت والديها، لكنها احتفظت بذكرياتهما، بقصصهما وكلمات تشجيعهما. أما ماريسول، فلم يكن لديها سوى والدتها، التي كانت تهدمها بدلًا من أن تبنيها.
وضعت إيفانجلين كوب الشاي جانبًا، وانزلقت عبر السرير، واحتضنت ماريسول بقوة. لم تكن متأكدة إن كانت ستملك الشجاعة يومًا لتتحدث معها عن لوك أو تعترف بما حدث حقًا في يوم زفافها. لكنها كانت مصممة على الاستمرار في المحاولة، خاصة الآن بعد أن وضعها أبولو في موقع مثالي لفعل ذلك.
مالت ماريسول نحوها وهي تشهق بخفة. "أنا آسفة لأنني أفسدت فرحتك."
"أنتِ لم تفسدي شيئًا، ولم يتم استبعادك من أي لعبة. في الشمال، لا يلعبون تلك اللعبة أصلاً. سمعت أنها مُنعت واستُبدلت بشطرنج القُبَل."
وبينما كانت تقول ذلك، بدأت إيفانجلين تتخيل تنظيم مباراة لأختها غير الشقيقة مع كل شاب أعزب في المملكة. ربما تطلب مساعدة أبولو؟
قد لا يُصلح ذلك كل شيء، لكنه بداية. وكانت على وشك أن تقترح الفكرة، حين بدأ الطرق على الباب.
قفزت الفتاتان من السرير بسرعة، وانسكب المزيد من الشاي، هذه المرة على السجادة. الشخص الوحيد الذي اعتاد أن يطرق بابهما كان فرانجيليكا، وكانت طرقاته دائمًا ناعمة. أما هذه، فبدت غاضبة تقريبًا.
لم تأخذ إيفانجلين سوى ثانية لتلقي على نفسها رداءً من الصوف قبل أن تندفع نحو الباب. كان الخشب يهتز تحت خطواتها.
"إيفانجلين!" صرخ صوت أبولو من الجهة الأخرى. "إيفانجلين، هل أنتِ هناك؟"
"افتحيه!" همست لها ماريسول، مشيرة إلى أن كونه أميرًا يعني أن تصرفاته لا تستدعي القلق.
"إيفانجلين، إن كنتِ هناك، أرجوكِ افتحي الباب!" توسّل أبولو، وكان في صوته نبرة خوف ويأس.
فكّت إيفانجلين المزلاج. "أبولو، ما الذي..." لكنها لم تكمل، إذ اندفع أبولو إلى جناح الفتاتين، ومعه مجموعة من الجنود الملكيين.
"يا قلبي، أنتِ بخير!" قال وهو يحتضنها. كان صدره يعلو ويهبط، وعيناه محاطتان بهالات داكنة. "كنت قلقًا جدًا. ما كان يجب أن أدعكِ ترحلين الليلة الماضية."
"ما الأمر؟" سألت.
ناولها أحد الجنود صحيفة شائعات مبللة لتقرأها، بينما خفّف أبولو من احتضانه لها.
شائعة اليوم
خِطبة!
بقلم كريستوف نايتلينجر
في السابق، كان مهرجان "الليلة التي لا تنتهي" يستمر لأسابيع، وأحيانًا لأشهر. لكن الليلة الماضية، وبعد دقائق فقط من وصوله إلى الحفل، تقدّم ولي العهد أبولو أكاديان بطلب الزواج من فتاة الجنوب المفضلة لدى الجميع، إيفانجلين فوكس.
وقد ختم أبولو خطبته بقبلة جعلت نصف الفتيات يبكين. رغم أن عددًا منهن بدين غاضبات أكثر من حزينات. فبعد أن تخلى الأمير عن الأميرة سيرينديبيتي سكايستيد وسط ساحة الرقص ليطلب يد عروسه الجديدة، بدت الأميرة وكأنها على وشك الانفجار غضبًا. أما العروس الملعونة، فلم تنجح في إيذاء إيفانجلين، لكنها، وهي تراقب إعلان الحب من أبولو، بدت وكأنها تريد تحويلهما إلى حجر. ووفقًا لأحد مصادرنا الحاذقة، فقد سُمعت سيدة بيت فورتونا تهمس لحفيدتها، ثيسالي، بأن الأمير كان يجب أن يختارها هي، وأن الوقت لم يفت بعد لتغيير ذلك.
الأمير أبولو والآنسة إيفانجلين فوكس سيتزوجان خلال أسبوع ، إن لم يحاول أحد إيذاءها أولًا.
توقفت إيفانجلين عن القراءة.
"ماذا يقول؟" سألت ماريسول.
"مجرد تحريف آخر للحقيقة." قالت إيفانجلين بتردد، ثم أخذت الصحيفة من الحارس ورمتها في النار قبل أن ترى ماريسول الكلمات التي كُتبت عنها.
"كريستوف يحاول فقط بيع الصحف من خلال الإيحاء بأنني في خطر."
"لم يحاول أحد إيذائي." طمأنت أبولو. "بعد أن افترقنا الليلة الماضية، عدت أنا وماريسول إلى هنا، ونمت حتى وقت قريب."
شدّ أبولو فكّه، ثم التفت إلى ماريسول وكأنه انتبه لوجودها للتو.
توترت ماريسول. كانت قد أوقفت دموعها، لكنها لا تزال تبدو صغيرة وهشة. وكانت إيفانجلين تعلم أنها بحاجة للتدخل قبل أن تُرتكب أخطاء أخرى.
"أختي غير الشقيقة لا يمكن أن تؤذيني أبدًا. في الواقع، هل يمكن إيقاف السيد نايتلينجر وصحيفة الشائعات من نشر المزيد من الأكاذيب المؤذية عنها؟"
بدا أن أبولو يريد الاعتراض؛ من الواضح أنه صدّق ما قيل في الصحيفة. لكن كلما طالت نظرات إيفانجلين إليه، بدا وكأنه يلين. اختفت الخطوط حول عينيه، وارتخت صلابة كتفيه العريضين.
"هل هذا سيجعلكِ سعيدة؟"
"نعم."
"إذن سأحرص على أن يتم ذلك. لكنني أحتاج منكِ خدمة." قال وهو يضع كفه على خدها.
لم تعتد بعد على لمسته. كانت يده أكبر من يد لوك، لكن لمسته أكثر رقة. ومع ذلك، كانت النظرة في عينيه العميقتين مشوبة بشيء مظلم.
"أريدكِ أن تنتقلي للعيش معي في قصر وولف هول، حيث ستكونين بأمان من أي تهديد."
تعليقات
إرسال تعليق