مدرسة الخير والشر | الفصل الثالث
[الفصل الثالث ]
[الغلطة الكبرى]
-----------------
فتحت صوفي عينيها لتجد نفسها عائمة في خندق كريه الرائحة، مليء حتى الحافة بطين أسود كثيف.
كان الضباب الكئيب يحيط بها من كل جانب.
حاولت أن تقف، لكن قدميها لم تلمسا الأرض، فانزلقت إلى الأسفل، و ندفع الطين إلى أنفها وأحرق حلقها. بدأت تختنق وهي تبحث عن شيء تمسك به، لتكتشف أنه جثة ماعز نصف مأكول. شهقت برعب وحاولت أن تسبح مبتعدة، لكن لم تستطع أن ترى شبراً واحداً أمامها. دوّت صرخات فوقها، فرفعت رأسها.
انطلقت حركات سريعة، ثم اندفعت عشرات الطيور العظمية عبر الضباب، وأسقطت أطفالاً يصرخون داخل الخندق. تحولت صرخاتهم إلى ارتطامات بالماء الملوث، تلتها موجة أخرى من الطيور، ثم أخرى، حتى امتلأ كل شبر من السماء بأطفال يسقطون. لمحت صوفي طائراً يهبط مباشرة نحوها، فانحرفت في اللحظة الأخيرة، لكنها تلقت رشة قوية من الوحل في وجهها.
مسحت الطين من عينها، لتجد نفسها وجهاً لوجه مع صبي. أول ما لاحظته أنه بلا قميص. صدره هزيل وشاحب، بلا أي أثر لقوة.
من رأسه الصغير برز أنفٌ طويل، وأسنان حادة، وشعر أسود يتدلّى على عينين ضيّقتين لماعتين.
قال لها:
""لقد أكل الطائر قميصي… هل أستطيع لمس شعرك؟"
تراجعت صوفي للخلف.
فقال وهو يسبح باتجاهها:
""نادراً ما يصنعون الأشرار بشَعر أميرات."
بدأت صوفي تبحث بيأس عن أي سلاح: عصا، حجر، حتى ماعز ميت…
اقترب الصبي منها أكثر، وهو يقول:
""ربما نصبح رفقاء في المأوى… أو أعزّ الأصدقاء… أو أي نوع من الرفقاء."
كان الأمر كما لو أن "رادلي" تحوّل إلى قارض صغير واكتسب جرأة، ومد يده نحوها ليلمسها، لكن صوفي كانت قد جهّزت قبضتها لتسدّد لكمة إلى عينه، حين سقط الطفل يصرخ. انتهزت صوفي الفرصة وانطلقت مسرعة في الاتجاه الآخر، وعندما التفتت خلفها لم تجد أثر "الصبي العِرسة".
وسط الضباب، رأت ظلال أطفال يخوضون بين حقائب وصناديق عائمة، يبحثون عن أمتعتهم. من عثر عليها تابع السير مع التيار، متجهاً نحو عواء غامض يتردّد في البعيد. لحقت صوفي بتلك الظلال حتى انقشع الضباب، فإذا بالشاطئ يكشف عن ذئاب واقفة على قدمين، ترتدي سترات عسكرية حمراء كالدم وسراويل جلدية سوداء، تلوّح بسياط لتدفع الطلاب إلى صفوف منتظمة.
أمسكت صوفي حافة الضفة لتصعد، لكنها جمدت حين رأت انعكاسها في ماء الخندق. كان فستانها غارقاً في الوحل والصفار، ووجهها يلمع بطبقة لزجة سوداء كريهة، أما شعرها فقد صار مسكناً لدود الأرض.
شهقت بصوت مخنوق:
"أنقذوني! لقد دخلت المدرسة الخطأ—"
لكن ذئباً جذبها بعنف، وألقاها في الصف. همّت بالاعتراض، غير أنها رأت "الصبي العِرس" يسبح نحوها وهو يصرخ:
"انتظرينييي!"
سارعت صوفي بالانضمام إلى طابور الأطفال المظَللين، يجرّون صناديقهم وسط الضباب. وكل من تردّد أو أبطأ، تلقّى صفعة سوطٍ سريعة، فاضطرت أن تواكب الخطى بقلق، وهي تمسح فستانها، وتنتزع الديدان من شعرها، وتتحسّر على حقائبها المرتبة البعيدة، البعيدة جداً.
كانت بوابات البرج مصنوعة من مسامير حديدية، تتشابك فوقها أسلاك شائكة. وما إن اقتربت حتى أدركت أنّها لم تكن أسلاكاً، بل بحرٌ من الأفاعي السوداء، تنقضّ وتفحّ باتجاهها. أطلقت صرخة صغيرة واندفعت تجتاز البوابة، لترى فوقها كلمات صدئة محصورة بين بجعتين سوداويين منحوتتين:
مدرسة الشر للتلقين ونشر الخطيئة
أمامها ارتفع برج المدرسة شامخاً كشيطان ذي أجنحة. بُني البرج الرئيسي من حجر أسود منخور، يخترق الغيوم الدخانية كجذع ضخم، ومن جانبيه خرجت مذنتان ملتويتان سميكتان، تتدلّى منهما نباتات حمراء متعرّقة تشبه أجنحة تنزف دماً.
ساق الذئاب الأطفال نحو فم البرج الرئيس، وكان نفقاً مسنناً على شكل خطم تمساح. ارتجفت صوفي كلما ضاق النفق أكثر فأكثر، حتى بالكاد استطاعت أن ترى الطفل أمامها. انحشرت بين صخرتين حادتين، لتجد نفسها في بهو متصدّع يتساقط منه الماء، وتنبعث منه رائحة سمك متعفّن.
على السقف، كانت رؤس شيطانية تتدلّى من العوارض الحجرية، تضيء أفواهها مشاعل نارية.
و في وسط القاعة، ارتفع تمثال حديدي لعجوز صلعاء بلا أسنان، ترفع تفاحة في يدها، تتلألأ ملامحها في ضوء ناري مهدّد. وعلى الجدار، عمود متآكل عليه حرف N أسود ضخم، تتسلّقه شياطين وأقزام وكائنات قبيحة كأنها تتسابق. وعلى العمود التالي برز حرف E أحمر كالدم، يتدلّى فوقه عمالقة وعفاريت.
وبينما تمضي صوفي ببطء مع الطابور الذي لا ينتهي، راحت تتهجّى الحروف: N-E-V-E-R. ثم تقدّمت بما يكفي لترى الصف يلتف أمامها. وللمرة الأولى، أتيح لها أن تبصر وجوه الطلاب بوضوح، فكادت أن تُغمى عليها.
إحدى الفتيات كان لها بروز قبيح في فكّها، مع خصل متناثرة من الشعر، وعين واحدة وحيدة تتوسّط جبهتها. وصبي آخر بدا كتلة عجين، بطنه متدلٍ، رأسه أصلع، وأطرافه منتفخة. أمامها سارت فتاة طويلة ساخرة، بشرة خضراء مريضة اللون. أما الفتى الذي يسبقها فكان مغطى بالشعر من رأسه حتى قدميه، حتى ليُخيّل إليك أنه قرد.
كانوا جميعاً في عمرها تقريباً… لكن الشبه توقف عند ذلك. هنا كان جمع البؤساء، بأجساد مشوّهة و وجوه مقززة، وتعبيرات قاسية لم ترَ مثلها صوفي في حياتها، كأنهم جميعاً يبحثون عن شيء يكرهونه. وما إن وقعت أعينهم واحداً تلو الآخر عليها، حتى وجدوا ضالتهم: الأميرة المرتجفة، بحذاء زجاجي وخصال ذهبية. كانت الوردة الحمراء بين الأشواك.
في الجهة الأخرى من الخندق، كادت أغاثا أن تقتل جنية.
كانت قد استيقظت تحت زنابق حمراء وصفراء، بدت وكأنها تخوض محادثة حية. كانت أغاثا متأكدة أن الموضوع عنها، فالزنابق كانت تشير إليها بحدة بأوراقها وأزهارها. لكن النقاش انتهى فجأة، وانحنت الأزهار مثل جدّات متذمرات، ثم التفّت سيقانها حول معصميها وسحبتها لتقف. رفعت أغاثا بصرها فإذا بحقل من الفتيات يتفتح حول بحيرة متلألئة.
لم تصدق ما تراه عيناها. الفتيات كنّ يخرجن من الأرض نفسها. أولاً الرؤوس تبرز من التراب الناعم، ثم الأعناق، ثم الأجساد ترتفع أكثر وأكثر، حتى تمد الأذرع نحو السماء الزرقاء الملبّدة بالغيوم وتغرس الأقدام الصغيرة بأحذية أنيقة على الأرض. لكن ما أقلق أغاثا لم يكن مشهد الفتيات النابتات، بل أنهن لا يشبهنها أبداً.
وجوههن، فاتحة كانت أم سمراء، خالية من العيوب ومتوهجة بالصحة. شعورهن تتدفق كالشلالات اللامعة، مفرودة ومصففة كالعرائس، وكنّ يرتدين فساتين ناعمة بألوان الخوخ والأصفر والأبيض، أشبه بسلة من بيض العيد. بعضهن قصيرات، وأخريات طويلات ممشوقات، لكن كلهن يملكن خصوراً ضيقة، وسيقاناً رفيعة، وأكتافاً صغيرة.
ومع كل زهرة جديدة من الطالبات، كانت ثلاث جنّيات مجنّحات بلمعان البريق في انتظارها. يرنمن ويضحكن، ينفضن عن الفتيات ذرات التراب، يقدّمن لهن شاي الأعشاب بالعسل، ويهتممن بحقائبهن التي انبثقت من الأرض معهن.
من أين تأتي كل هذه الجميلات؟ لم يكن لدى أغاثا أدنى فكرة. كل ما أرادته أن تخرج واحدة عابسة أو مشعثة، لتشعر أنها ليست غريبة تماماً. لكن الحقل كان يزهر بفتيات يشبهن صوفي، يملكن كل ما تفتقده هي. وخزها شعور مألوف بالعار، واشتد الألم في معدتها. احتاجت إلى حفرة تختبئ فيها، إلى مقبرة تنزوي إليها، إلى أي مكان يبعدهن عنها—
وهنا عضّتها الجنية.
"ما هذا—!"
حاولت أغاثا أن تخلّص يدها من الجنية الصغيرة التي تطنّ حولها، لكن الأخيرة طارت وعضّت عنقها، ثم مؤخرتها. حاولت الجنيات الأخريات كبحها ، لكن الجنية المتمردة عضتهن أيضاً، وعادت لتهاجم أغاثا من جديد.
غاضبة، حاولت أغاثا الإمساك بها، لكنها كانت تتحرك بسرعة البرق، فصارت تقفز هنا وهناك بلا جدوى، فيما الجنية تواصل عضّها مراراً. حتى اندفعت الجنية خطأً إلى فم أغاثا… فابتلعتها.
تنفست أغاثا بارتياح، ثم رفعت رأسها. ستون فتاة جميلة يحدّقن بها بصدمة. القطة وسط عشّ العندليب.
شعرت بوخزة في حلقها، فسعلت حتى خرجت الجنية. ولدهشتها، لم تكن جنية عادية… بل فتى.
وفي البعيد، دقّت أجراس رقيقة من القصر الزجاجي البديع الوردي والأزرق على الجانب الآخر من البحيرة. هرعت فرق الجنيات إلى طالباتهن، أمسكنهن من أكتافهن ورفعنهن في الهواء، وطرن بهن نحو الأبراج.
رأت أغاثا الفرصة لتفرّ، لكنها قبل أن تتحرك، شعرت بجنيتين تمسكانها من كتفيها وتطيران بها. التفتت لترى الجنية الثالثة، الفتى الذي عضّها، واقفاً بثبات على الأرض. كان مكتوف الذراعين، يهزّ رأسه بقوة، كأنه يقول بوضوح: لقد حدث خطأ فادح.
وحين أنزلت الجنيات الفتيات أمام القصر الزجاجي، أفلتن أكتافهن—ثم تركت الجنيات الفتيات ليتقدمن بحرية.
لكن جنيتي أغاثا تمسكتا بها، تجرّانها إلى الأمام كأنها أسيرة. التفتت أغاثا خلفها نحو البحيرة.وتسألت أين صوفي؟
كان الماء الكريستالي يتحول إلى خندق موحل في منتصف البحيرة، وضباب رمادي كثيف يحجب ما وراء الضفة الأخرى. إن أرادت إنقاذ صديقتها، عليها أن تجد وسيلة لعبور ذلك الخندق. لكن أولاً، كان عليها أن تتخلص من هذه الكائنات المجنحة المزعجة. هي بحاجة إلى وسيلة تشتيت.
ارتسمت كلمات متلألئة فوق بوابة ذهبية:
مدرسة الخير للتنوير
رأت أغاثا انعكاسها في الحروف المرآتية فأشاحت بوجهها. كانت تكره المرايا وتتجنبها مهما كان الثمن.(فكّرت : الخنازير والكلاب لا تقضي وقتها بالتحديق في وجوهها، .)
تقدمت خطوة فرأت أبواب القصر المتجمدة، منقوشة ببجعتين بيضاوين. وما إن فُتحت الأبواب ودَفعت الجنيات الفتيات إلى ممر ضيق تحيطه المرايا، حتى توقف الصف، وأحاطت مجموعة فتيات بأغاثا كأنهن أسماك قرش.
حدّقن بها لحظة، وكأنهن ينتظرن منها أن تخلع قناعها وتكشف عن أميرة مختبئة تحت مظهرها. حاولت أغاثا أن تبادل نظراتهن، لكنها اصطدمت بوجهها المنعكس آلاف المرات في المرايا، فسارعت بتثبيت عينيها على أرضية الرخام. بعض الجنيات حاولن أن يحرّكن الصف من جديد، لكن أغلبهن اكتفين بالجلوس على أكتاف الفتيات ومراقبة ما سيحدث.
وأخيراً تقدمت إحداهن، بشَعر ذهبي طويل يصل إلى خصرها، وشفاه ممتلئة، وعينين كالتوباز. كانت من جمالها تبدو كأنها ليست حقيقية.
قالت بنبرة عذبة:
"مرحباً، أنا بياتريكس… لم أسمع باسمك بعد."
ردّت أغاثا دون أن ترفع نظرها:
"ذلك لأنني لم أقله."
ابتسمت بياتريكس أحلى ابتسامة:
"هل أنتِ متأكدة أنكِ في المكان الصحيح؟"
شعرت أغاثا أن كلمة ما تسبح في رأسها، كلمة هي بأمس الحاجة إليها، لكنها لم تتضح بعد.
"آه… أنا… يعني…"
قالت بياتريكس بابتسامة أوسع:
"ربما سبحتِ إلى المدرسة الخطأ."
وهنا أضاءت الكلمة في ذهن أغاثا: تشتيت.
رفعت عينيها نحو عيني بياتريكس البراقتين وقالت:
"هذه هي مدرسة الخير، أليس كذلك؟ المدرسة الأسطورية للفتيات الجميلات المستحقات أن يصبحن أميرات؟"
أجابت بياتريكس ببرود، شفتيها مشدودتين:
"إذن، لستِ ضائعة؟"
قاطعتها أخرى، بشَرة برونزية وشَعر أسود كالليل:
"ولا مشوشة؟"
وأضافت ثالثة، بشَعر أحمر كرُوبي عميق:
"ولا عمياء؟"
قالت بياتريكس:
"في هذه الحالة، من المؤكد أن معكِ بطاقة الفلورغراوند."
رمشت أغاثا:
"بطاقة ماذا؟"
"تذكرة الدخول إلى الفلورغراوند،" أجابت بياتريكس. "أتعرفين، الطريقة التي وصلنا بها جميعاً. لا يدخل المدرسة رسمياً إلا من يحمل هذه التذكرة."
رفعت كل الفتيات تذاكر ذهبية كبيرة، أسماؤهن منقوشة عليها بخط ملكي أنيق، مختومة بختم البجعتين الأسود والأبيض، شعار مدير المدرسة.
تظاهرت أغاثا باللامبالاة وقالت:
"آه، تلك البطاقة… معي واحدة طبعاً." ثم غاصت يداها في جيبيها. "اقتربن… وسأريكن إياها."
اقتربت الفتيات بحذر، بينما راحت أغاثا تعبث في جيوبها، تبحث عن أي وسيلة تشتيت…
أعواد ثقاب؟ عملات معدنية؟ أوراق جافة؟
قالت وهي تبتسم:
"هيا، اقتربن أكثر."
ازدحمت الفتيات حولها متوجسات. تمتمت بياتريكس بامتعاض:
"لا ينبغي أن تكون البطاقة بهذا الصغر…"
"انكمش في الغسيل"، قالت أغاثا وهي تفتش بين أعواد ثقاب، وقطع شوكولاتة ذائبة، وأجساد العصافير المجففة بلا رأس .
"إنه هنا في مكان ما."
"ربما فقدتِه"، قالت بياتريكس.
كرات نفثالين... قشور فستق... عصفور آخر ميت.
"أو وضعتِه في غير مكانه"، تابعت بياتريكس.
العصفور؟ العود؟ هل تشعل العصفور بالعود؟
"أو أنكِ كذبتِ بشأن امتلاككِ واحدًا أساسًا."
"أوه، أشعر به الآن—"
لكن كل ما شعرت به أغاثا كان طفحًا عصبياً على عنقها—
"أتدرين ما الذي يحدث للمتسللين، أليس كذلك؟" قالت بياتريكس.
"ها هو!" (افعلي شيئًا!)
ازدحمت الفتيات حولها بتهديد.
افعلي شيئًا الآن!
فقامت أغاثا بأول ما خطر على بالها... وأطلقت ضرطة عالية مدوّية.
التمويه الفعّال يخلق الفوضى والذعر معًا. وأغاثا نجحت في الأمرين. الغازات الكريهة اجتاحت الممر الضيق، والفتيات يصرخن ويهربن طلبًا للهواء، بينما الجنيات يترنحن مغشيات من الرائحة، تاركات لها طريقًا مفتوحًا نحو الباب. لم تبقَ سوى بياتريكس في وجهها، مذهولة وعاجزة عن الحركة. تقدمت أغاثا نحوها بخطوة وانحنت كذئب وهمست:
"بو!"
ففرت بياتريكس مذعورة.
ركضت أغاثا نحو الباب، والتفتت وراءها بفخر وهي ترى الفتيات يتصادمْن بالجدران ويدهسن بعضهن للهرب. وكل تركيزها منصب على إنقاذ صوفي، اندفعت عبر الأبواب المثلجة، ركضت نحو البحيرة، لكن ما إن وصلت إليها حتى ارتفعت المياه بموجة هائلة وضربتها بقوة عاتية، لتلقيها مجددًا عبر الأبواب، عابرة وسط صرخات الفتيات، حتى سقطت على بطنها في بركة ماء.
تعثرت لتنهض، لكنها تجمدت مكانها.
"مرحبًا، أيتها الأميرة الجديدة"، قالت حورية طافية بطول سبعة أقدام.
تحركت جانبًا لتكشف عن بهو مهيب جعل أغاثا تنحبس أنفاسها.
"مرحبًا بكِ في مدرسة الخير."
في الجهة الأخرى، لم تستطع صوفي تحمّل رائحة المكان. وهي تمشي متمايلة وسط الطابور، كادت تتقيأ من خليط روائح الأجساد غير المغسولة، والحجارة العفنة، والذئاب النتنة. وقفت على أطراف أصابعها لترى إلى أين يتجه الطابور، لكن كل ما رأته كان موكبًا لا ينتهي من المشوَّهين.
الطلاب الآخرون رمقوها بنظرات احتقار، لكنها ردّت عليهم بأجمل ابتسامة عندها، فقد يكون هذا مجرد اختبار أو خلل أو مزحة. لا بد أن يكون كذلك.
استدارت نحو ذئب رمادي وقالت:
"ليس اعتراضًا على سلطتك، لكن هل لي أن أرى مدير المدرسة؟ أعتقد أنه—"
زمجر الذئب وغطّاها باللعاب. فلم تُكمل حديثها، وانكمشت مع الطابور داخل قاعة غارقة، حيث ارتفعت أمامهم ثلاثة سلالم سوداء ملتوية، مصطفة جنبًا إلى جنب. الأول محفور بالوحوش وعليه كلمة "شر"، الثاني منقوش بالعناكب وعليه كلمة "مكيدة"، والثالث مزين بالحيّات وعليه كلمة "رذيلة".
حول السلالم الثلاثة، لاحظت صوفي الجدران مغطاة بإطارات ملونة. في كل إطار صورة لطفل بجانب لوحة قصصية لما أصبح عليه عند التخرج.
كان في إطار ذهبي، صورة طفلة صغيرة ذات ملامح رقيقة، وبجانبها رسم رائع لها كـساحرة قبيحة، تقف فوق فتاة فاقدة الوعي. وأسفل الصورتين لافتة ذهبية طويلة.
كاثرين من فوكسوود – سنو وايت الصغيرة (شريرة)
في الإطار الذهبي التالي، ظهرت لوحة لصبي عابس بابتسامة ساخرة وحاجبين متصلين، وبجانبه لوحة له بعدما كبر، وهو يضع سكينًا على عنق امرأة:
دروغان من جبال الهَمْس – ذو اللحية الزرقاء (شرير)
وتحت صورة دروغان، كان هناك إطار فضي لصبي نحيف بشعرٍ أشقر فاقع، وقد تحول في اللوحة التالية إلى واحد من عشرات العمالقة المتوحشين الذين يفتكون بقرية:
كير من نِذِروود – توم ثامب (تابع)
ثم لاحظت صوفي إطارًا نحاسيًا متآكلاً قرب الأسفل، فيه صورة صبي أصلع صغير، عيناه واسعتان من الخوف. صبي تعرفه. كان اسمه "باين". اعتاد أن يعض الفتيات الجميلات في غافالدون، حتى اختُطف قبل أربع سنوات. لكن بجانب صورته لم يكن هناك رسم آخر… فقط لوحة صدئة مكتوب عليها:
فاشل
شعرت صوفي بمعدتها تنقلب وهي تحدق في وجه باين المذعور. ما الذي حدث له؟
رفعت نظرها إلى آلاف الإطارات الذهبية والفضية والبرونزية التي تغطي كل جدار القاعة: ساحرات يقتلن الأمراء، عمالقة يلتهمون البشر، شياطين تحرق الأطفال، عفاريت متوحشة، غورغونات بشعة، فرسان بلا رؤوس، ووحوش بحرية لا ترحم. كلهم كانوا مراهقين عاديين يومًا ما. والآن أصبحوا صورًا متجسدة للشر المطلق. حتى الأشرار الذين ماتوا ميتات بشعة—مثل رومبلستيلتسكين، وعملاق شجرة الفاصولياء، والذئب من قصة ليلى والذئب—رُسموا في لحظات مجدهم، وكأنهم خرجوا منتصرين من حكاياتهم.
انعقد بطن صوفي أكثر حين رأت بقية الأطفال ينظرون إلى هذه الصور بانبهار وتقديس. أدركت بوضوح مروّع أنها تقف في طابور مع قتلة ووحوش المستقبل.
تعرّق وجهها البارد. كان عليها أن تجد أحد أعضاء هيئة التدريس. شخص يمكنه أن يراجع قائمة الطلاب ويكتشف أنها في المدرسة الخطأ. لكن كل ما وجدته حتى الآن مجرد ذئاب لا تستطيع الكلام، فضلًا عن قراءة القوائم.
وعندما انعطفت إلى ممر أوسع، رأت قزمًا أحمر البشرة بقرنين، يقف على سلّم ضخم ويثبّت صورًا جديدة على جدار فارغ. انقبضت أسنانها من الأمل وهي تزحف نحوه مع الطابور. وأثناء محاولتها التفكير في طريقة لجذب انتباهه، لاحظت صوفي أن الصور على هذا الجدار تحمل وجوهًا مألوفة.
هناك صورة الفتى البدين الذي يشبه العجين، وقد كُتب تحتها: برون من روش براير.
وبجانبه لوحة الفتاة ذات الشعر الخفيف والعين الواحدة: أراكني من فوكسوود.
واصلت صوفي تفحّص صور زملائها، تنتظر رؤية تحوّلاتهم الشريرة. حتى توقفت عيناها عند صورة "الصبي ابن عرس":
هورت من بلودبروك.
هورت… الاسم يبدو كأنه مرض.
تحركت صوفي للأمام في الطابور، مستعدة للنداء على القزم—ثم رأت الإطار الذي يطرق عليه القزم بمطرقته.
لقد كان وجهها هي، يبتسم إليها من اللوحة.
صرخت صوفي بكل قوتها، وقفزت من الصف، واعتلت السلم بسرعة مرتجفة، وانتزعت اللوحة من يد القزم المذهول.
صاحت : "لا! أنا من أهل الخير!" .
لكن القزم خطفها منها مجددًا، وتشابكا على اللوحة، يشدّان ويدفعان ويخدشان بعضهما حتى ضاقت صوفي ذرعًا، فصفعته. فصرخ القزم كطفلة صغيرة، ولوّح بمطرقته عليها. تفادته صوفي، لكن توازنها اختلّ، فاهتزّ السلم وارتطم بالجدارين.
تدحرجت على درجاته المائلة في الهواء، وبأسفلها الذئاب تعو والطلاب يحدقون.
صاحت:
"أريد مدير المدرسة!"
لكن قبضتها انفلتت، فانزلقت عبر السلم، وارتطمت أرضًا في كومة عند مقدمة الصف.
تقدمت عجوز سمراء البشرة، على خدّها دمّل ضخم، ودست ورقة بردي في يدها.
كتب فيها:
صوفي من ما وراء الغابة
الشر – السنة الأولى
برج الخبث 66
الحصة : الأستاذ :
التقبح. بليو مانلي
تدريب الأتباع. كاستور
اللعنات والفخاخ المميتة السيدة ليسو
تاريخ الشر براجوت سلينش
المواهب الخاصة سفيزكا شيكس
البقاء في الحكايات الخيالية يوب ذا غيم
(مجموعة الغابة)
رفعت صوفي نظرها مذهولة. قالت الساحرة بصوت أجش:
"أراك في الصف، يا ساحرة ما وراء الغابة ."
وقبل أن ترد صوفي، ألقى عليها غول كومة كتب مربوطة بشريط. كانت العناوين:
- أفضل المونولوجات الشريرة – الطبعة الثانية
- تعاويذ المعاناة، السنة الأولى
- دليل المبتدئين للخطف والقتل
- تقبّل القبح داخليًا وخارجيًا
- كيف تطبخ الأطفال (بوصفات جديدة!)
الكتب كانت مرعبة بما فيه الكفاية، لكن ما زاد الطين بلّة أن الشريط الذي يربطها كان ثعبانًا حيًا من نوع "الأنقليس".
صرخت صوفي وأفلتت الكتب، فإذا بساتير مرقّط يناولها قطعة قماش سوداء عفنة.
عندما نشرتها، وجدت أنها سترة قصيرة ممزقة، أشبه بستائر قديمة بالية.
نظرت مذهولة إلى باقي الفتيات وهن يرتدين بزّاتهن الكريهة بفرح، يقلبن كتبهن، ويقارنّ جداولهن. ثم نظرت ببطء إلى ثوبها الأسود القذر، وكتبها الملطخة بوحل الثعبان، وجدولها الدراسي. ثم إلى صورتها الجميلة المبتسمة، المعلّقة على الجدار.
فانطلقت هاربة بحياتها.
أدركت أغاتا أنها في المكان الخطأ لأن حتى أعضاء الهيئة بدت في حيرة منها. تصطفّن جميعًا على السلالم الحلزونية الأربعة في بهو زجاجي ضخم، اثنتان منهما ورديتان واثنتان زرقاوتان، ويرشقن الطلاب الجدد بالقصاصات الورقية الاحتفالية.
كانت الأستاذات ترتدن نسخًا بألوان مختلفة من نفس الفستان الضيق ذو ياقةٍ عالية، مع شعار بجعة فضي لامع فوق الصدر. كل واحدة أضافت لمستها الخاصة على الفستان—بلورات منمقة، أزهار مطرّزة، أو حتى فيونكة من التول.
أما الأساتذة الذكور فارتدوا بدلات ضيقة زاهية بألوان قوس قزح، مع صدريات متطابقة وربطات عنق نحيفة ومنديل ملون في الجيب مطرّز بنفس البجعة الفضية.
لاحظت أغاتا فورًا أنهم جميعًا أجمل من أي بالغين رأتهم في حياتها. حتى كبار الهيئة كانوا أنيقين بصورة تخيف. كانت أغاتا تحاول دائمًا أن تقنع نفسها أن الجمال لا يعني شيئًا لأنه زائل، لكن هنا رأت دليلاً أنه يدوم إلى الأبد.
حاول الأساتذة إخفاء اللمحات والهمسات المتبادلة عند رؤية الطالبة المبللة الضائعة، لكن أغاتا اعتادت أن تلتقط هذه الأشياء. ثم رأت من بينهم من لا يشبه الباقين. كان يقف تحت نافذة زجاجية ملونة، يرتدي بزة خضراء كحشائش النفل، شعره فضي، وعيناه عسليتان لامعتان، يبتسم إليها كأنها تنتمي تمامًا إلى هنا. احمرّت أغاتا. من يظن أنها تنتمي إلى هنا لابد أنه مجنون. التفتت بعيدًا ولجأت إلى البنات الغاضبات من حولها، اللواتي من الواضح أنهن لم يغفرن لها حادثة الردهة.
"أين الأولاد؟" سمعت واحدة تسأل أخرى، بينما تدخل البنات أمام ثلاث حوريات طائرة ضخمة بشعر وشفاه نيون، وهن يوزعن جداولهن وكتبهن وعباءاتهن.
عندما تتبعت أغاتا الطابور خلفهن، أُتيحت لها فرصة أفضل لمشاهدة غرفة الدرج المهيبة. الجدار المقابل لها كان يحوي حرف E ضخمًا مطليًا بالوردي، محاطًا بملاك ورقيقين مرسومين بعناية. وعلى الجدران الثلاثة الأخرى حروف مرسومة أيضًا، تُكوّن كلمة E-V-E-R بالألوان الوردية والزرقاء. رتّبت السلالم الحلزونية الأربعة بشكل متماثل في زوايا كل جدار، وتُضاء بنوافذ زجاجية ملونة عالية. على إحدى السلالم الزرقاء نقشت كلمة (شرف) على الدرابزين، مع نقوش زجاجية لفرسان وملوك، بينما السلم الأزرق الآخر كتب عليه (شجاعة)، ومزخرف بنقوش صيادين ورماة. والسلالم الزجاجية الوردية كتب عليها (طهارة) و (إحسان) باللون الذهبي، مع نِقوش رقيقة لفتَيَاتٍ منحوتاتٍ وأميرات وحيوانات ودودة.
في وسط الغرفة، تُغطي صور الخريجين لوحة بلورية شاهقة تمتد من أرضية رخامية ناصعة إلى قبة السقف الزجاجي. أعلى اللوحة كانت صور بإطارات ذهبية لخريجين أصبحوا أمراء وملكات بعد التخرج. في الوسط كانت إطارات فضية لأولئك الذين صاروا رفقاء مرحين، ربات بيوت مخلصات، أو أمّهات.
وقرب قاع العمود، الملطخ بالغبار، إطارات برونزية لمن أخفقوا وانتهوا خدمًا وموظفين. لكن بغض النظر عما صاروا عليه—ملكة ثلجية أم منظف مواقد—رأَت أغاتا أن الوجوه جميلة نفسها، والابتسامات طيبة، والعيون مليئة بالروح. هنا، في قصر زجاجي وسط الغابة، تجمّع أفضل ما في الحياة في خدمة الخير. وهي هنا، الآنسة المسكينة، في خدمة المقابر والغازات.
انتظرت أغاثا وهي تحبس أنفاسها حتى وصلت أخيرًا إلى حورية ذات شعر وردي. "حدث خلط!" تنفست وهي تتقطر ماءً وعرقًا. "صدقي، صديقتي صوفي هي المفروض أن تكون هنا."
ابتسمت الحورية.
"حاولت أن أمنعها من المجيء." قالت أغاتا، وصوتها يرتجف بالأمل، "لكنني خلطت الطائر، والآن أنا هنا وهي في البرج الآخر، وهي جميلة وتحب الوردي و... حسنًا، انظري إليّ. أعلم أنكم بحاجة لطالبات لكن صوفي أفضل صديقة لي وإذا بقيت فه عليها أن تبقى ونحن لا نستطيع البقاء، فرجاءً ساعديني كي أجدها ونعود إلى البيت."
ناولتها الحورية ورقة بردي مكتوب عليها:
أغاثا من ما وراء الغابةالخير – السنة الأولىبرج الطهارة 51
الحصة : الأستاذ :
التجميل الاستاذة مان أمان
آداب الأميرة بولوكس
التواصل مع الحيوانات. الأميرة أما
تاريخ البطولة برو أنجوت سالير
وقت الغداء
الأعمال الخيّرة الأستاذة كلاريسا دوف
البقاء في الحكايات الخيالية ياه ذا جيم
(مجموعة الغابة )
حدّقت أغاثا فيها مذهولة: "لكن—"
فقاطعتها حورية بشَعر أخضر ودست في يديها سلة كتب، برزت منها بعض العناوين:
- امتياز الجمال
- كيف تفوزين بأميرك
- كتاب وصفات من أجل جمال أخّاذ
- أميرة ذات رسالة
- لغة الحيوانات 1: نباح وصهيل وزقزقة
ثم رفعت حورية بشَعر أزرق زيّها المدرسي: مريلة وردية قصيرة جدًا، أكمامها منتفخة مزينة بزهور القرنفل، تُلبس فوق قميص دانتيل ابيض ناقص ثلاثة أزرار.
وقفت أغاثا مذهولة، تنظر إلى الأميرات المستقبلية حولها وهن يشددن فساتينهن الوردية.
نظرت إلى الكتب التي تخبرها أن الجمال امتياز، وأن بإمكانها الفوز بأمير وسيم، وأنها ستستطيع محادثة الطيور.
نظرت أيضاً إلى جدول دراسي مُعَدّ لشخص جميل ورشيق وطيب القلب. ثم رفعت نظرها إلى المعلم الوسيم الذي لا يزال يبتسم لها، كأنه يتوقع أعظم الإنجازات من أغاثا الغافالدون.
لكن أغاثا لم تعرف إلا شيئًا واحدًا تفعله عندما تواجه التوقعات.
انطلقت صاعدة السلم الأزرق المسمى "الشرف"، عبر ممرات خضراء بلون البحر، تطاردها الجنيات الغاضبة بأجنحتهن المجلجلة. اندفعت عبر الممرات، تتعثر على السلالم، بلا وقتٍ لتتأمل ما تراه—أرضيات من اليشم، صفوف مبنية من الحلوى، مكتبة من الذهب—حتى وصلت إلى آخر درج، واقتحمت بابًا زجاجيًا متجمّدًا، لتجد نفسها على سطح البرج.
أمامها، كانت الشمس تضيء حديقة منحوتة مذهلة من الأشجار المشذبة. وقبل أن تتمكن أغاثا من رؤية ما كانت المنحوتات تمثله، اقتحمت الجنيات الباب خلفها، يقذفن شِباكًا ذهبية لزجة من أفواههن للإمساك بها. فانطلقت أغاثا غاطسة بين الأشجار الضخمة، تزحف مثل الحشرة بين التحف النباتية العملاقة.
استعادت أغاثا توازنها، وركضت وقفزت على منحوتة لأمير عضلي يرفع سيفه عالياً فوق بركة.
تسلّقت السيف المليء بالأوراق حتى وصلت إلى قمته الشائكة، مع مطاردةً من الجنيات المتجمّعات حولها. لكن سرعان ما أصبح عددهن كبيرًا جدًا، وفي اللحظة التي أطلقت فيها الجنيات شباكها اللامعة، فقدت أغاثا قبضتها وسقطت في الماء.
وعندما فتحت عينيها، كانت جافة تمامًا.
لابد أن البركة كانت بوابة، لأنها وجدت نفسها الآن خارجها، في قوس بلوري أزرق.
رفعت أغاثا رأسها وتجمدت في مكانها. كانت في نهاية جسر حجري ضيق يمتد عبر ضباب كثيف نحو البرج المتعفن على الضفة الأخرى للبحيرة—جسر يربط بين المدرستين.
بللت دموعها عينيها. صوفي! يمكنها إنقاذ صوفي!
"أغاثا!"
حدقت أغاثا ورأت صوفي تركض من الضباب. "صوفي!"
مدّت الفتاتان ذراعيهما وركضتا عبر الجسر، تناديان بعضهما باسم بعض—
لكن اصطدمتا بحاجز غير مرئي وارتطمتا بالأرض.
مذهولة من الألم، شاهدت أغاثا برعب الذئاب وهي تسحب صوفي من شعرها إلى عالم الشر.
"أنتِ لا تفهمين!" صرخت صوفي، وهي ترى الجنيات تمسك بأغاثا. "إنه كله خطأ!"
"لا توجد أخطاء"، زمجر الذئب.
تبين أنهم يستطيعون الكلام بعد كل شيء.
تعليقات
إرسال تعليق