مدرسة الخير والشر | الفصل الثاني
[فن الأختطاف]
------
بحلول وقت غروب الشمس، كان الأطفال قد أُغلقوا في أماكنهم منذ وقتٍ طويل. ومن خلف شبابيك غرفهم، كانوا يطلون خلسة على الآباء المسلحين بالمشاعل، والأخوات، والجدات، مصطفين حول الغابة المظلمة، متحدين معلم المدرسة أن يعبر دائرة النار حولهم.
لكن بينما كان الأطفال المرتجفون يشدون مسامير نوافذهم، كانت صوفي تستعد لفتح نافذتها. أرادت أن يكون هذا الخطف مريحًا قدر الإمكان.
محاصرتاً في غرفتها، رتبت دبابيس الشعر، الملقاط، المبردات، وبدأت عملها.
حدثت أول حالات الخطف قبل مئتي عام. في بعض السنوات كان يُختطف طفلان ذكور، وأحيانًا طفلتان، وأحيانًا ولد وبنت. كانت الأعمار متغيرة أيضًا؛ قد يكون أحدهما في السادسة عشرة والآخر في الرابعة عشرة، أو يكونان قد أتمّا الاثني عشر للتو. ومع أن الاختيارات كانت تبدو عشوائية في البداية، سرعان ما بدا النمط واضحًا:
واحد دائمًا جميل وصالح، الطفل الذي يتمنى كل والد أن يكون له. والآخر كان عادي الشكل وغريب، منبوذ منذ الولادة.
زوج متناقض، يُنتزع من طفولته ويُخطف بعيدًا.
طبيعي أن القرويين ألصقوا الأمر بالدببة. لم يرَ أحد دبًا في جافالدون من قبل، لكن هذا زادهم إصرارًا على إيجاد واحد. وبعد أربع سنوات، عندما اختفى طفلان آخران، اعترف القرويون أنه كان يجب أن يكونوا أكثر تحديدًا وأعلنوا أن الدببة السوداء هي السبب، دببة سوداء جدًا تختفي في الليل. لكن عندما استمر اختفاء الأطفال كل أربع سنوات، حولت القرية اهتمامها إلى الدببة الحافرة، ثم الدببة الشبحية، ثم الدببة المتنكرة… حتى اتضح أن الأمر لم يكن متعلقًا بالدببة على الإطلاق.
بدأ أطفال جافالدون يلاحظون شيئًا مريبًا. أثناء دراستهم لعشرات ملصقات "المفقودين" المثبتة في الساحة، بدا لهم أن وجوه هؤلاء الأولاد والبنات الضائعين مألوفة بشكل غريب. حينها فتحوا كتب القصص ووجدوا الأطفال المخطوفين بداخلها.
جاك، الذي اُختطف قبل مئة عام، لم يكبر أبدًا. ها هو هنا، بنفس شعره الأشعث، وبتجاويف خديه الوردية، وابتسامته المعوجة التي جعلته محبوبًا لدى فتيات جافالدون. فقط الآن أصبح لديه نبات فاصولياء في حديقته الخلفية، وضعف تجاه حبوب الفاصولياء السحرية. في الوقت نفسه، تحول أنغوس، الصبي المشاغب ذو الأذنين المدببتين والنمش، الذي اختفى مع جاك في نفس السنة، إلى عملاق ذي أذنين مدببتين ونمش على قمة نبات الفاصولياء الخاص بجاك. لقد دخل الصبيان عالم الحكايات الخيالية.
لكن عندما قدم الأطفال نظرية "كتاب القصص"، رد الكبار كما يفعلون غالبًا: ربّتوا على رؤوس الأطفال وعادوا إلى نظرية الحفر والآكليين للحوم البشر.
ثم عرض الأطفال وجوهًا مألوفة أخرى. آنيا الحلوة، المختطفة قبل خمسين عامًا، جلست الآن على صخور مضيئة بالقمر في لوحة كـ "الحورية الصغيرة"، بينما أصبحت إسترا القاسية الساحرة الماكرة للبحر.
فيليب، ابن الرجل الصالح، أصبح "الخياط الصغير الماكر"، بينما غولا المتكبرة أرعبت الأطفال كـ "ساحرة الغابة".
عشرات الأطفال، المخطوفين في أزواج، وجدوا حياتهم الجديدة في عالم القصص، واحد للخير، والآخر للشر.
تأتي هذه الكتب من متجر السيد دوفيل لكتب القصص، زاوية عتيقة بين مخبز باتيرسبي و"حانة الخنزير المخلل". والمشكلة بالطبع كانت من أين يحصل السيد دوفيل على هذه الكتب.
مرة واحدة في السنة، في صباحٍ لا يستطيع توقعه، كان يصل إلى متجره ليجد صندوقًا من الكتب ينتظره ، بداخله أربع حكايات جديدة، نسخة واحدة لكل منها.
يعلق السيد دوفيل على باب متجره لافتة تقول: "مغلق حتى إشعار آخر". ثم يجلس في غرفته الخلفية يومًا بعد يوم، وينسخ القصص الجديدة يدويًا حتى يصبح لديه ما يكفي من الكتب لكل طفل في جافالدون.
أما النسخ الأصلية الغامضة، فكانت تُعلّق صباحًا في نافذة متجره، دلالة على أن السيد دوفيل قد أنهى مهمته الشاقة أخيرًا.
يفتح أبوابه لطابور يصل طوله إلى ثلاثة أميال، يلتف في الساحة، وينزل التلال، ويدور حول البحيرة، ممتلئ بالأطفال المتعطشين للقصص الجديدة، والآباء المتلهفين لمعرفة إن كان أي من المفقودين ظهر في قصص هذا العام.
بالطبع، كان لمجلس الشيوخ الكثير من الأسئلة للسيد دوفيل. عندما سُئل عن من أرسل له الكتب، أجاب أنه ليس لديه أدنى فكرة. وعندما سُئل منذ متى بدأت الكتب بالظهور، قال إنه لا يتذكر وقتًا لم تظهر فيه الكتب. وعندما سُئل إذا كان قد تساءل يومًا عن هذا الظهور السحري للكتب، أجاب: "من أين تأتي كتب القصص إذاً؟"
ثم لاحظ الشيوخ شيئًا آخر في كتب السيد دوفيل. كل القرى فيها تشبه جافالدون بالضبط: نفس الأكواخ على شاطئ البحيرة، نفس الألوان الزاهية للأرصفة، نفس التوليب البنفسجي والأخضر على الطرق الترابية الضيقة، نفس العربات القرمزية، والمحلات ذات الواجهات الخشبية، والمدرسة الصفراء، وبرج الساعة المائل، لكنها مرسومة كخيال في أرض بعيدة جدًا. هذه القرى في الكتب وُجدت لغرض واحد فقط: لتبدأ حكاية وتنتهي بها. كل شيء بين البداية والنهاية يحدث في الغابة المظلمة اللامتناهية المحيطة بالمدينة.
حينها لاحظوا أن جافالدون نفسها محاطة بغابة مظلمة لامتناهية.
عندما بدأ الأطفال بالاختفاء لأول مرة، اجتاح القرويون الغابة للعثور عليهم، لكنهم صدّوا بواسطة العواصف والفيضانات والأعاصير والأشجار الساقطة. وعندما شقّوا طريقهم أخيرًا، وجدوا مدينة مخفية وراء الأشجار وحاصروها انتقامًا، ليكتشفوا أنها مدينتهم هم أنفسهم. في الواقع، مهما دخل القرويون الغابة من أي جهة، كانوا يخرجون مباشرة من الغابة ليجدوا أنفسهم حيث بدأوا. بدا أن الغابة لم تكن تنوي إعادة أطفالهم أبدًا. وفي يوم من الأيام اكتشفوا السبب.
كان السيد دوفيل قد انتهى من ترتيب كتب القصص لهذا العام عندما لاحظ بقعة كبيرة مختبئة في طية الصندوق. لمسها بإصبعه فوجد أنها مبتلة بالحبر. وعندما نظر عن قرب، رأى أنها ختم يحمل شعارًا مفصّلًا لبجعة سوداء وبجعة بيضاء.
على الشعار كانت هناك ثلاث حروف:
S.G.E.
لم يكن بحاجة للتخمين لمعرفة معنى هذه الحروف. فالحقيقة كانت مكتوبة في الشريط أسفل الشعار، بكلمات سوداء صغيرة تخبر القرية إلى أين ذهب أطفالها:
مدرسة الخير والشر
استمرت عمليات الخطف، لكن الآن كان للص إسم.
أطلقوا عليه لقب "معلم المدرسة".
بعد دقائق قليلة من الساعة العاشرة، فتحت صوفي آخر قفل للنافذة وفتحت المصاريع.
استطاعت أن ترى حتى حافة الغابة، حيث كان والدها ستيفان واقفًا مع بقية الحراس. لكن بدلاً من أن يبدو قلقًا مثل الآخرين، كان يبتسم، ويده على كتف الأرملة هونورا.
تجهمت صوفي. لم تكن تعرف ما الذي وجده والدها في تلك المرأة. كانت والدتها يومًا ما مثالية كملكة من كتب القصص، بينما هونورا، بالمقابل، كان رأسها صغيرًا وجسمها مستديرًا وتبدو مثل الديك الرومي.
همس والدها بمكر في أذن الأرملة، واحمرت وجنتا صوفي. لو كان الأمر يتعلق بابني هونورا الصغيرين الذين قد يُختطفان، لكان جادًا كالموت.
صحيح أن ستيفان أغلق عليها عند الغروب، وقبّلها، وتصرف كأب محب، لكن صوفي كانت تعرف الحقيقة. كانت تراها في وجهه كل يوم من حياتها: والدها لا يحبها. لأنها ليست ولدًا، لأنها لا تذكره بنفسه.
والآن أراد الزواج من تلك الوحشية. بعد خمس سنوات من وفاة والدتها، لم يكن يُنظر إلى هذا على أنه غير لائق أو قاسي. مجرد تبادل للعهود وسيحصل على ولدين، عائلة جديدة وبداية جديدة. لكنه يحتاج أولًا إلى مباركة ابنته ليوافق الشيوخ. في المرات القليلة التي حاول فيها، كانت صوفي تغير الموضوع، أو تقطع الخيار بصخب، أو تبتسم كما تفعل مع رادلي. لم يذكر والدها هونورا مرة أخرى.
فكرت صوفي، وهي تحدّق فيه من خلال المصاريع: "دع الجبان يتزوجها عندما أرحل. فقط عندما أرحل سيقدرها. فقط عندما أرحل سيعرف أنه لا أحد يمكن أن يحل محلها. وفقط عندما أرحل سيكتشف أنه أنجب أكثر من ابن… لقد أنجب أميرة"
على حافة نافذتها، رتبت صوفي قلوب الزنجبيل بعناية للـ "معلم المدرسة". لأول مرة في حياتها، صنعتها بالسكر والزبدة. كانت هذه القلوب مميزة، رسالة لتخبره بأنها وافقت طواعية.
غطست في وسادتها، وأغمضت عينيها عن الأرامل والآباء وجافالدون البائسة، وابتسمت وهي تعد الثواني حتى منتصف الليل.
ما إن اختفى رأس صوفي تحت النافذة، حتى دفعت أغاثا قلوب الزنجبيل داخل فمها.
فكرت: "الشيء الوحيد الذي ستجذبه هذه القلوب هو الجرذان"، بينما تتساقط فتاتاتها على حذائها الأسود الثقيل.
تثاءبت وبدأت في طريقها بينما دقت ساعة المدينة ربع الساعة.
بعد أن تركت صوفي بعد نزهتهما، بدأت أغاثا العودة إلى منزلها، لكنها تخيلت صوفي وهي تهرب إلى الغابة لتجد مدرسة الحمقى والمجانين وتنتهي بها المطاف مطعونة من قبل خنزير بري. فقررت العودة إلى حديقة صوفي وانتظرت خلف شجرة.
كانت تستمع الى صوفي التي فتحت نافذتها (تغني أغنية سخيفة عن الأمراء)، و تحزم حقائبها (والآن تغني عن أجراس الزفاف)، ثم تضع المكياج وترتدب أجمل فستان لها ("الجميع يحب الأميرة باللون الوردي"؟!)، وأخيرًا (أخيرًا!) دخلت سريرها.
دهست أغاثا آخر الفتات بحذائها الثقيل وتوجهت نحو المقبرة. صوفي كانت آمنة، وستستيقظ غدًا شاعرةً بالسخافة. أغاثا لن تزد على ذلك، فصوفي ستحتاج إليها أكثر الآن، وهي ستكون هناك من أجلها. هنا، في هذا العالم الآمن والمعزول، ستصنعان معًا فردوسهما الخاص.
بينما صعدت أغاثا التلة، لاحظت قوسًا من الظلام عند حافة الغابة المضاءة بالمشاعل. يبدو أن الحراس المسؤولين عن المقبرة قرروا أن ما يعيش داخل الغابة لا يستحق الحماية.
منذ أن تذكرت نفسها، كانت لديها قدرة على جعل الناس يبتعدون عنها. الأطفال يفرون منها مثل خفاش مصاص الدماء. البالغون يتشبثون بالجدران خوفًا من أن تلقي عليهم لعنة. حتى حراس القبور على التلة يفرون عند رؤيتها. ومع مرور السنوات، ازدادت همسات القرية: "ساحرة"، "شريرة"، "مدرسة الشر"، حتى بدأت تبحث عن أعذار لعدم الخروج. أيام، ثم أسابيع، حتى أصبحت تطوف منزل المقبرة مثل شبح.
في البداية، كان هناك العديد من الطرق لتسلية نفسها. كتبت قصائد ("حياة بائسة" و "الجنة هي مقبرة" كانت تلك الأفضل لديها)، رسمت صورًا لـلقط "ريبر" الذي أخاف الفئران أكثر من القط نفسه، وحتى حاولت كتابة قصص خيالية، "نهاية حزينة جدًا"، عن أطفال جميلين يموتون موتًا رهيبًا. لكنها لم يكن لديها من تُريه هذه الأعمال حتى جاء اليوم الذي طرقت فيه صوفي الباب.
لعق "ريبر" كاحليها عندما خرجت إلى الشرفة المصرّحة، وسمعت الغناء من الداخل:
"في الغابة القديمة
مدرسة الخير والشر"
دحرجت أغاثا عينيها ودخلت الباب.
كانت والدتها التي تغني ، وظهرها مستدير، تغني ببهجة بينما تحزم صندوقًا بالأردية السوداء، المكانس، والقبعات السوداء المدببة للساحرات.
"برجان مثل رؤوس توأم
واحد للنقي
واحد للأشرار
حاول الهروب ستفشل دائمًا
الطريقة الوحيدة للخروج
هي من خلال قصة خيالية"
قالت أغاثا: "تخططين لعطلة غريبة؟ آخر مرة تحققت فيها، لا يوجد مخرج من جافالدون إلا إذا نمتِ أجنحة."
استدارت كالس، وقالت: "هل تعتقدين أن ثلاث أردية تكفي؟" عيناها متسعتان وشعرها دهني كالخوذة السوداء.
تأففت أغاثا من مدى التشابه بينهما. همست: "إنهما متشابهان تمامًا."
"لماذا تحتاجين إلى ثلاثة؟"
"لأنك قد تحتاجين لإعطاء واحد لصديقة، عزيزتي."
"هل هذه لي أنا؟"
"وضعت قبعتين في حال انضغطت إحداهما، ومكنسة في حال كانت رائحتها سيئة، وعدة زجاجات تحتوي على ألسنة الكلاب، أرجل السحالي، وأصابع الضفادع. من يعرف كم مضى عليها!"
عرفت أغاثا الإجابة، لكنها سألت على أي حال: "أمي، لماذا أحتاج أردية، وقبعات، وأصابع ضفادع؟"
"بالطبع من أجل استقبال الساحرة الجديدة!" غنت كالس. "لا تريدين الوصول إلى مدرسة الشر وأنتِ مبتدئة."
خلعت أغاثا حذاءها الثقيل. "دعينا نتجاوز حقيقة أن طبيب المدينة يصدق كل هذا. لماذا من الصعب قبول أنني سعيدة هنا؟ لدي كل ما أحتاجه: سريري، قطتي، وصديقتي."
"حسنًا، يجب أن تتعلمي من صديقتك، عزيزتي. على الأقل هي تريد شيئًا من الحياة"، قالت كالس وهي تغلق الصندوق. "حقًا، أغاثا، ماذا يمكن أن يكون أعظم من أن تكوني ساحرة في قصة خيالية؟ حلمت بالذهاب إلى مدرسة الشر! لكن معلم المدرسة أخذ ذلك الغبي سفين، الذي انتهى به الأمر مغلوبًا على أمره من قِبل أميرة في قصة الأوغر عديم الفائدة وأُشعلت فيه النيران. لست مندهشة، ذلك الصبي بالكاد كان يستطيع ربط حذائه. أنا متأكدة لو كان معلم المدرسة يستطيع إعادة الأمر، لاختارني أنا."
انزلقت أغاثا تحت أغطيتها. "حسنًا، الجميع في هذه المدينة ما زال يعتقد أنكِ ساحرة، إذاً لقد تحققت أمانيكِ بعد كل شيء."
استدارت كالس بغضب. "أمنيتي أن تهربي من هنا"، هسست بعيناها مظلمة كالقطران. "هذا المكان جعلك ضعيفة وكسولة وخائفة. على الأقل أنا صنعت شيئًا من نفسي هنا. أنتِ فقط تهدرين حياتك وتتعفنين حتى تأتي صوفي لتمشيك مثل كلب."
حدقت أغاثا فيها مذهولة.
ابتسمت كالس بسعادة وأكملت التعبئة. "لكن اعتني بصديقتك، عزيزتي. قد تبدو مدرسة الخير وكأنها ساحة مليئة بالورود، لكنها على موعد مع مفاجأة. الآن اذهبي إلى النوم. معلم المدرسة سيصل قريبًا، ومن الأسهل له إذا كنت نائمة."
سحبت أغاثا الأغطية فوق رأسها.
لم تستطع صوفي النوم. خمس دقائق حتى منتصف الليل ولا أثر لأي متسلل. ركعت على سريرها وأطلّت من خلال المصاريع. حول حافة جافالدون، كان الحراس المكونون من ألف شخص يلوحون بالمشاعل لإضاءة الغابة. عبست صوفي. كيف سيستطيع تجاوزهم؟
حينها لاحظت أن القلوب على نافذتها قد اختفت.
لقد وصل بالفعل!
ثلاث حقائب وردية مليئة انزلقت عبر النافذة، تلتها قدمان ترتديان الحذاء الزجاجي.
قفزت أغاثا من السرير، منزعجة من كابوس. كانت كالس تشخر بصوت عالٍ عبر الغرفة، و"ريبر" بجانبها. بجوار سرير أغاثا كان صندوقها المقفل، مكتوب عليه بخط خشن: "أغاثا من جافالدون، 1 طريق جريفز هيل" ، مع كيس من كعكات العسل للرحلة.
اكلت أغاثا واحدة من الكعك وهي تطل من نافذة مشقوقة.
أسفل التلة، كانت المشاعل تتوهج في دائرة مشدودة، لكن هنا على تلة القبور، بقي حارس واحد فقط، ضخم الذراعين ، ويمتلك سيقان مثل أفخاذ الدجاج. كان يحافظ على يقظته برفع حجر قبرٍ مكسور كأنه يرفع أثقال.
عضت أغاثا آخر كعكة عسل ونظرت إلى الغابة المظلمة.
عادت إليها عيون زرقاء لامعة تحدق بها.
اختنقت أغاثا وقفزت إلى سريرها. رفعت رأسها ببطء.ولم ترى شيئاً هناك، لكنها وجدت الحارس، فاقد الوعي فوق حجر القبر المكسور، والمشعل مطفأ.
تسلل بعيدًا عنه ظل بشري عظامي، محدب الظهر. لا جسم متصل به.
الظل انزلق فوق بحر القبور بلا أي علامة على العجلة. اجتاز بوابات المقبرة وزحف أسفل التلة نحو مركز جافالدون المضاء بالنيران.
شعرت أغاثا بالرعب يختنق في قلبها. كان حقيقيًا. مهما كان من يكون.
وهو لا يريدني.
غمرها شعور بالارتياح، أعقبه موجة جديدة من الذعر.
صوفي !
كان يجب أن توقظ والدتها، يجب أن تصرخ طلبًا للمساعدة، يجب أن- لا وقت.
تظاهرت كالس بالنوم، وسمعت خطوات أغاثا العاجلة، ثم صوت إغلاق الباب. احتضنت "ريبر" بقوة لتتأكد أنه لن يستيقظ.
كانت صوفي متربعة خلف شجرة، تنتظر معلم المدرسة ليخطفها.
انتظرت. وانتظرت. ثم لاحظت شيئًا على الأرض.
فتات الكعك، مضغوط على شكل أثر قدم. أثر قدم حذاء ثقيل بغيض وفاسد، لا يمكن أن يكون إلا لشخص واحد. قبضت صوفي يديها، وغلي دمها.
غطت يدّ فمها، ودفعتها قدمٌ ثقيلة عبر نافذتها. ارتطمت صوفي برأسها على السرير واستدارت لترى أغاثا.
صرخت صوفي : "أيتها الدودة التافهة المتدخلة!" ، قبل أن تلمح الخوف في وجه صديقتها. تنفست وتابعت : "لقد رأيته!"
وضعت أغاثا يدًا على فم صوفي وثبتتها على الأخرى. بينما كانت صوفي تتلوى احتجاجًا، نظرت أغاثا من النافذة. انزلق الظل المعوج إلى ساحة جافالدون، متجاوزًا الحراس المسلحين الغافلين، متجهًا مباشرة إلى منزل صوفي. ابتلعت أغاثا صرخة. حررت صوفي نفسها وأمسكت بأكتافها.
"هل هو وسيم؟ مثل أمير؟ أم معلم مدرسة محترم بنظارته وصدريته و…"
دقّة!
استدارت صوفي وأغاثا ببطء نحو الباب.
دقّة! دقّة!
عبست صوفي. "كان بإمكانه فقط الطرق، أليس كذلك؟"
صوت الأقفال يتكسر، والمفصلات تهتز.
انكمشت أغاثا على الحائط، بينما جمعت صوفي يديها ورتبت فستانها كما لو كانت تتوقع زيارة ملكية.
"من الأفضل أن تعطيه ما يريد بلا مشاكل."
مع تهاوي الباب، قفزت أغاثا من السرير وتصدمت به.
دارت صوفي بعينيها : "يا إلهي، اجلسي فقط."
شدّت أغاثا المقبض بكل قوتها، لكنها فقدت قبضتها- وانفتح الباب بصوت مدوٍ، قذفًا إياها عبر الغرفة.
كان والد صوفي، شاحب كالورقة. "رأيت شيئًا!" قال وهو يلهث، وهو يلوّح بمشعلته.
ثم رصدت أغاثا الظل المعوج على الحائط، واقفًا في ظل والد صوفي العريض.
صرخت : "هاه!"
استدار ستيفان، لكن الظل أطفأ مشعلته. أخرجت أغاثا عود ثقاب من جيبها وأشعلته. كان ستيفان ملقى على الأرض فاقدًا للوعي. وصوفي قد اختفت.
صرخات في الخارج.
من خلال النافذة، شاهدت أغاثا القرويين وهم يركضون خلف صوفي بينما يسحبها الظل نحو الغابة. ومع تزايد القرويين وهم يصرخون ويطاردونها—ابتسمت صوفي ابتسامة عريضة.
اندفعت أغاثا عبر النافذة وركضت خلفها. لكن تمامًا عندما وصل القرويون إلى صوفي،…
انفجرت مشاعلهم فجأة بسحر، محاصرة القرويين في حلقات من النار. تجنبت أغاثا مصائد النار واندفعت لإنقاذ صديقتها قبل أن يسحبها الظل إلى الغابة.
شعرت صوفي بجسدها يترك العشب الناعم ويمسح ضد التراب الحجري. عبست عند التفكير في الذهاب إلى المدرسة بفستان متسخ.
قالت للظل: "كنت أظن أنه سيكون هناك خدم، أو عربة قرع على الأقل."
ركضت أغاثا بحماس، لكن صوفي كانت على وشك الاختفاء بين الأشجار. حولهم، ارتفعت النيران أكثر فأكثر، وكأنها مستعدة لابتلاع القرية بأكملها.
عندما رأت صوفي النيران، شعرت بالارتياح لأنها علمت أنه لا أحد يستطيع إنقاذها الآن. لكنها تساءلت: أين الطفل الثاني؟ أين الطفل المخصص للشر؟ كانت مخطئة بشأن أغاثا طوال الوقت. وبينما شعرت بسحبها نحو الأشجار، نظرت صوفي إلى الحريق الشاهق وقبلت وداعًا لعنة الحياة العادية.
"وداعًا، جافالدون! وداعًا، الطموح الضعيف! وداعًا، الرداءة!"
ثم رأت أغاثا تتقدم عبر النيران.
"أغاثا، لا!" صرخت صوفي-
قفزت أغاثا فوقها، وسحبهما الظل معًا إلى الظلام.
فورًا، انطفأت النيران حول القرويين. اندفعوا نحو الغابة، لكن الأشجار نمت فجأة سميكة ومليئة بالأشواك، مانعة إياهم من الدخول.
كان الوقت قد فات.
"ماذا تفعلين!" صرخت صوفي، وهي تدفع وتحك أغاثا بينما كان الظل يسحبهما إلى الغابة المظلمة. ضربت أغاثا بجنون، محاولة تحرير صوفي من قبضة الظل.
صرخت صوفي : "أنتِ تدمرين كل شيء!"
عضّت أغاثا يدها.
"آآآآه!" صرخت صوفي، ثم دحرجت جسدها لتدخل أغاثا على التراب. ردت أغاثا وقلبت صوفي مرة أخرى، وتسلقتا نحو الظل، وحذاء أغاثا الثقيل سحق وجه صوفي.
"عندما تجد يدي عنقك..."
شعرتا بأنهما تركتا الأرض.
بحثت أغاثا عن عود ثقاب في فستانها، أشعلته على معصمها العظمي، وشحب وجهها. كان قداختفى الظل.
كانتا محاصرتين بين أغصان شجرة الدردار، التي حملتهما إلى أعلى الشجرة وأسقطتهما على الفرع الأدنى. حدقت الفتاتان في بعضهما البعض، محاولتين التقاط نفس يكفي للتحدث. و تمكنت أغاثا أولاً.
"سنعود إلى المنزل الآن."
اهتز الفرع، وتدحرج مثل المقلاع، وأطلقهما للأعلى كالرصاص. قبل أن تصرخ أي منهما، هبطتا على فرع آخر. حاولت أغاثا إيجاد عود ثقاب جديد، لكن الفرع التواء وأطلقهما إلى الفرع التالي، الذي ارتد إلى الفرع الأعلى .
صرخت: "كم يبلغ ارتفاع هذه الشجرة!"
بينما تقافزتا بين الفروع، اصطدم جسدا الفتاتين وارتطما، تمزقت فساتينهما على الأشواك والعيدان، واصطدم وجوههما بالأغصان، حتى وصلتا أخيرًا إلى الفرع الأعلى.
هناك، على قمة شجرة الدردار، كان هناك بيضة سوداء ضخمة. حدقت الفتاتان فيها مذهولتين. انفتحت البيضة، ورشتهما بشيئا داكن مثل الصفار، وخرج منها طائر ضخم مكون من العظام فقط. نظر إلى الفتاتين، وأطلق صرخة غاضبة رجّت طبلة أذنيهما. ثم أمسك بهما بمخالبه وغاص في الشجرة بينما كانتا تصرخان، متفقتين أخيرًا على شيء واحد.
طار الطائر العظمي عبر الغابة السوداء بينما كانت أغاثا تضيء أعواد ثقاب تلو الأخرى على أضلاع الطائر، لتكشف لهما عيونًا حمراء متلألئة وظلالًا مشعرة.
ارتطمت أغصان الأشجار النحيلة بالفتاتين بينما كان الطائر يغطس ويرتفع لتجنبها، حتى زاد الامر سوءاً و انفجر الرعد أمامهما واصطدما برأسيهما في عاصفة صاعقة هائجة.
أطلق الطائر العظمي صواعق نار جعلت الأشجار تتطاير نحوهما. حمت صوفي وأغاثا وجهيهما من المطر والطين والخشب المتساقط، وتجنبتا شبكات العنكبوت وخلايا النحل والأفاعي. ثم غاص الطائر في أشواك حادة، فشحبت الفتاتان وأغمضتا عينيهما من الألم.
ثم خيم الصمت.
"أغاثا…"
فتحت أغاثا عينيها على أشعة الشمس. نظرت إلى الأسفل وارتجفت.
"إنه حقيقي."
أسفل منهما، كانت قلعتان شاهقتان تمتدان عبر الغابة. كانت إحدى القلاع تتلألأ بضباب الشمس، بأبراج زجاجية وردية وزرقاء فوق بحيرة متلألئة. أما الأخرى فكانت مظلمة ومتكسرة، بأبراج حادة تمزق الغيوم الرعدية مثل أسنان وحش.
مدرسة الخير والشر.
طار الطائر العظمي فوق أبراج الخير، وأفرج عن صوفي من مخالبه. أمسكت أغاثا بصديقتها برعب، لكنها رأت وجه صوفي يتوهج بالسعادة.
"أجل ، أنا أميرة."
لكن الطائر أسقط أغاثا بدلًا منها.
مذهولة، شاهدت صوفي سقوط أغاثا في ضباب وردي كالقطن الحلو. "انتظري، لا…"
انقض الطائر بعنف نحو أبراج الشر، كان فكه يمتد للانقضاض على فريسة جديدة.
"لا! أنا الطيبة! هذا خطأ!" صرخت صوفي—
وبدون أي فرصة للتصرف، سقطت في الظلام الجهنمي.
تعليقات
إرسال تعليق