كان يا مكان قلبٌ منهار ١٢

الجزء الثاني: الشمال البهي

 [الفصل الثاني عشر]



لم تكن إيفانجلين تعرف ما إذا كان الزمن مسحوراً ويجري بشكل مختلف في الشمال. لكنها كانت متأكدة أنه بدأ يمر أسرع لحظة ابتعد جاك عنها.


العشاء أقيم على طاولة مزخرفة تحيط بشجرة الفينيق. كانت الطاولة مزينة بكؤوس من القصدير، وشموع على شكل قلاع مصنوعة من شمع العسل، وبجانب كل طبق وُضعت تماثيل خشبية صغيرة لتنانين تحمل أسماء الضيوف. وُضع اسم جاك بجانبها، لكنه لم يأتِ، بينما ظل كرسيها مشغولاً دائماً بنبلاء فضوليين.

يبدو أن توقعات أمير القلوب كانت صحيحة، فمجرد اهتمامه بها جعلها أكثر شعبية.


فقد كان الجميع ودودين معها، لكن بطريقة "سأتحدث معك فقط لأن أحدهم جعلك تبدين مهمة". سمعت الكثير من التعليقات عن لون شعرها الجميل، الذي يشبه شعر أميرة ما، طبعاً لم يتذكر أحد اسم تلك الأميرة أو أي أمير كانت متزوجة منه، لكن أغلبهم علّقوا على الأمر. حاولت إيفانجلين أن تكون مهذبة ومنتبهة، لكنها لم تستطع التوقف عن التفكير بقبلة الأمير أبولو. جزء منها كان فضولياً—من لا يريد تقبيل أمير؟—لكنها لم تكن تريده بهذه الطريقة. لم ترغب أن تُجبر نفسها عليه، ولم تفهم لماذا يريد جاك منها أن تفعل ذلك. ما الذي قد يستفيده جاك من هذا؟


تمنت أن يكون جاك قد مازحها حين قال إنها ستموت إن لم تقبّل أبولو الليلة. لكن جاك بدا من النوع الذي يكون جاداً حد الموت حتى وهو يتحدث بنبرة ساخرة. وبالنظر إلى الطريقة التي تخلى بها عنها حين تحولت إلى حجر، لم تستطع إيفانجلين أن تتخيل أن جاك سيهتم إن تحولت أيضاً إلى جثة. أو—


"عذراً، آنسة فوكس." نقر خادم من القصر على كتفها. "حان وقت موتك."


ارتجفت إيفانجلين، لكنها سرعان ما أدركت أن هذا ليس ما قاله الخادم. ما قاله فعلاً هو: "حان وقتك لمقابلة الأمير." لكن بالنسبة لها، بدا الأمر وكأنه الشيء نفسه. لم تجد سوى تفسير واحد لرغبة جاك في أن تقبّل الأمير أبولو: جاك يريد قتله. لقد طلى شفتيها بدمه، واضعاً فيه شيئاً من سحره، وسحره مرتبط بقبلة قاتلة—وهذا ربما يعني أن قبلتها الآن قد تكون مميتة.


تسارعت أنفاسها وهي تقترب من الدرج الحلزوني المحيط بشجرة الفينيق.


كان جاك مستنداً إلى الدرابزين عند أسفل الدرج، رأسه مائل للخلف، وشعره الأزرق يتساقط على إحدى عينيه، وكأنه ينتظرها منذ نصف الليل. "جاهزة، صغيرتي؟"


مد ذراعه لها مثل فارس مهذب.


لكن إيفانجلين تجاهلت عرضه، واقتربت منه بما يكفي لتهمس وهي تصعد بجانبه: "لماذا تريدني أن أقبّل الأمير أبولو؟ هل سيقتله هذا؟"


رمقها جاك بنظرة جانبية وقال: "أقدر الخيال الجيد، لكن استخدميه عندما تقبّلين الأمير، لا عندما تفكرين في العواقب."


قالت بعناد: "لن أقبّله إلا إذا أخبرتني لماذا تريد هذا."


ابتسم جاك ابتسامة باردة: "لو أردت منك قتل الأمير، لما كنت أصعد هذه الدرجات معك." ثم لف ذراعه التي رفضتها حول ذراعها، وكانت أكمام قميصه الرمادي مطوية إلى الأعلى، فشعرت ببشرته، باردة وصلبة كالحجر. وسرعان ما غطت قشعريرة غير مرغوبة جسدها حين قرّبها إلى جانبه.

 "لا فائدة من جعل شخص آخر يرتكب جريمة قتل وأنت موجود في الغرفة معه."


كانت إيفانجلين تريد مواصلة الجدال، لكن كلام جاك بدا مقنعاً بعض الشيء، وهذا جلب لها قدراً من الراحة. فهي لم تكن تريد أن تموت، لكنها أيضاً لم تكن تستطيع تقبيل الأمير إذا اعتقدت أن ذلك قد يؤذيه. فسألته:

"إذا لم تكن هذه خطتك، ماذا سيحدث عندما أقبّله؟"


أجاب جاك بابتسامة باردة وعيناه تتجهان نحو شفتيها:

"يعتمد على مدى براعتك في التقبيل. أنت تعرفين كيف تُقبّلين، صحيح؟"


قالت غاضبة:

"طبعاً أعرف كيف أقبّل!" وسحبت ذراعها بعيداً عنه.


قطّب جاك حاجبيه وقال:

"لماذا أنتِ غاضبة هكذا؟ هل تعتقدين أن الأمير قبيح؟"


ردّت بسرعة:

"الأمر ليس له علاقة بمظهره. أنا فقط لا أريد أن أؤذيه."


قال جاك ببرود:

"لن أطلب منك أن تثقي بي، فهذه فكرة سيئة. لكن يمكنك أن تصدقي أنني لو أردت لك إيذاء أبولو، لما كنتُ هنا معك لحظة حدوث ذلك."


امتلأ الجو برائحة عطرة من البلسم والخشب الكثيف حين وصلا إلى قمة الدرج. فوقهما، كانت أوراق ذهبية وبنية تتحرك مع الريح، ورأت إيفانجلين ما لا يقل عن نصف دستة من الحراس يرتدون سترات بنفس الألوان، جالسين على الأغصان التي شكّلت سقف شرفة الأمير أبولو.


نظرت إلى جاك بعينين مرتجفتين من الذعر.


فهمس لها:

"لا تقلقي، لن يطلق أحد عليك سهماً لأنك ستقبّلين الأمير."


لكن إيفانجلين كانت متأكدة أن شيئاً سيحدث بعد تلك القبلة. كان عليها أن تحاول الهروب من هذا الموقف، كان يجب أن تحاول أكثر. وحتى الآن، فكرت جدياً أن تحاول.


كان الأمير أبولو واقفاً عند درابزين شرفته، ظهره نحوها وهو يتأمل المشهد في الأسفل. ثم استدار ببطء.


كان طويلاً، لكنه لم يكن شديد الوسامة مثل جاك.


ملامحه لم تكن كلاسيكية الجمال، بل أكثر إثارة للاهتمام: أنف معقوف قليلاً بشكل قد يبدو مبالغاً فيه على وجه آخر، لكن في وجهه انسجمت ملامحه المكثفة معاً، من حاجبيه الداكنين الكثيفين إلى عيناه الغائرتان، بشرته السمراء اازيتونية، وشعره ألاسود الكثيف مقصوص قصيراً ليبرز ملامحه القوية أكثر. لم يكن يرتدي تاج القرون، لكنه ظل يبدو بوضوح كأمير. كانت هيبته طاغية وهو يتكئ بمرفق على درابزين شرفته ويمنحها ابتسامة تقول: قد لا أكون الأجمل هنا، لكنك بالتأكيد مهتمة بي.


ولم تستطع إيفانجلين أن تنكر ذلك. لم تعرف إن كان سبب انجذابها كونه أميراً، أم لأن نظرته إليها كانت مشبعة بجاذبية لم يتقنها أحد مثل أبولو. حتى لوك كان قد حاول أن يفعل ذلك من قبل، لكنه لم ينجح أبداً مثل أبولو، الذي كانت عيناه بنيتين عميقتين يتخللهما بريق كهرماني مع نقاط برونزية لامعة.


قال جاك بلا خجل:

"أنتِ تسيلين لعابك قليلاً."


فضحك أبولو، ضحكة عميقة موسيقية، جعلت الموقف محرجاً للغاية.


فكرت إيفانجلين بالاختباء، لكن شرفة الجلوس كانت منخفضة جداً على الأرض، ولم يكن هناك مكان لتختبئ تحته، كما أن الأمير كان يقترب منها بالفعل.


قال أبولو وهو يختصر المسافة القصيرة بينهما:

"لا تشعري بالحرج، آنسة فوكس. أظن أن صديقنا المشترك غيور. لقد ظل يخبرني منذ أسابيع كم أنك رائعة الجمال، لكن حتى الآن كنت أظن أنه يبالغ."


شهقت إيفانجلين بدهشة:

"جاك أخبرك عني؟"


نظرت بسرعة إلى جاك، لكنها وجدته قد ابتعد عنها يتجول في جناح الشرفة الصغير، والتقت عيناها بعينيه الباردتين، بنفس اللامبالاة الصامتة التي كان يبديها مع الجميع في بداية الحفل. ولو كانت النظرات تتكلم، لقالت لها: مجرد أنني قلت ذلك لا يعني أنني أؤمن به.


لكنّه قالها فعلاً. لم يهمها إن كان يقصده أم لا. لقد تصرّف وكأن ظهورها الليلة كان مفاجئاً وكل ما يحدث غير مخطط له، ومع ذلك… كان يعرف أنها ستأتي.


لقد كان جاكس يخطط لهذه القبلة منذ أسابيع. لكن لماذا؟ ماذا يريد؟ وماذا سيحدث عندما تقبّل الأمير؟


لم تستطع إيفانجلين أن تجد تفسيراً جديداً. حاولت، لكن التركيز أصبح صعباً. كان هناك خطب ما في قلبها. صحيح أنه خفق أسرع حين قابلت جاك أول مرة، لكن الآن بدا الأمر وكأن لديها قلبين. نبضها يجنّ، يخبط بعنف في صدرها، وكأنه سينفد من دقاته قريباً.


وحين عادت بنظرها إلى أبولو، بدأ قلبها يصرخ في داخلها: قبّليه. قبّليه. قبّليه.


لم يكن شعوراً بالرغبة بقدر ما كان حاجة ملحّة.


كان أبولو قريباً جداً، يكفي أن تخطو خطوة واحدة، وتميل برأسها، وتضع شفتيها على شفتيه. ومع ذلك، لم تستطع إيفانجلين فعلها، ليس قبل أن تحاول على الأقل أن تعرف لماذا خطط جاك لهذا كله.


فقالت بصوت متماسك قدر استطاعتها:

"ما مدى معرفتك بجاك؟"


تلاشت ابتسامة أبولو الواثقة قليلاً. وقال:

"لست معتاداً أن تصعد السيدات إلى هنا ليسألن عن رجال آخرين."


أسرعت إيفانجلين:

"من فضلك لا تفهم سؤالي خطأ. أنا لست مهتمة بجاك—"


قاطعها بابتسامة ساخرة:

"ومع ذلك، أنتِ تذكرين اسمه كثيراً."


خرجت كلماته بنبرة مزاح، لكن نظرته لم تكن كذلك. كان يحدّق فيها كما تتبع العيون في اللوحات الناس حتى وهم يديرون ظهورهم. لم تعد هناك ابتسامة جذابة، ولا عيون بنية متوهجة. بل كانت نظرة حادة، كأنها خنجر يُسحب ويُميل بحيث يلمع تحت الضوء.


بدا أن ثقة الأمير أبولو لها حدود، أو ربما لم يكن واثقاً كما يظن. ربما كان هو وجاكسخصمين أكثر من كونهما صديقين؟ ربما كان هذا ما يدور حوله الأمر كله؟


لكن إيفانجلين ما زالت لا تفهم تماماً ما الذي يريده جاك حقاً، ولا ما الذي ستفعله تلك القبلة… لكنها لم تعد تملك وقتاً لمعرفة ذلك.


لم يكن قلبها يخفق فقط، بل كان يؤلمها، يتألم وكأنه يوشك أن ينفجر. جاك قال إنها ستموت إن لم تُقبّل الأمير قبل نهاية الحفل. ورغم أن الحفل لم ينتهِ بعد، إلا أن إيفانجلين شعرت أن هذه اللحظة هي النهاية. فقد بدأ أبولو يغيّر وقفته، يستعد لإنهاء اللقاء. عما قريب سيدير ظهره ويمضي دون كلمة أخرى. إن كانت ستقبّله، فهذه فرصتها الأخيرة.


رفعت إيفانجلين عينيها، تبحث عن شفتيه، لكن نظرها انجرف بلا وعي فوق كتفه العريض نحو جاك. كان مستنداً إلى درابزين الشرفة، يقلب قطعة نقود فضية بين أصابعه الطويلة.


ارتعشت زاوية شفتيه بابتسامة بالكاد تُرى، فيما واصل تقليب القطعة وهو يحرّك شفتيه بصمت: هل ستقبّله؟ هل ستموت؟ هل ستقبّله؟ هل ستموت؟


إيفانجلين كانت تعرف أنها ستموت يوماً ما… لكن ليس الليلة.


أعادت تركيز نظرها على أبولو. بقع سوداء بدأت تلمع على أطراف رؤيتها، ملامحه تتشوّه لتصبح أشبه بضباب يثير الرعب. همست:

"أنا آسفة."


ثم رفعت يدها تلمس خده، واعتلت أطراف أصابعها، وقرّبت شفتيها من شفتيه.


لم يتحرك أبولو.


توقف قلبها لحظة. هذا لا ينجح. سيبتعد أبولو الآن ويأمر الحراس بإطلاق النار عليها، أو اعتقالها، أو جرّها من شعرها خارج الحفل. لكن بدلاً من أن يدفعها بعيداً، قابلها أبولو، وضغط شفتيه على شفتيها، كما لو كان هذا طريقته المعتادة لإنهاء محادثاته مع ضيفاته، وكأن الأمر لم يكن غريباً أبداً أن تطلب إيفانجلين قبلة وداع.


امتدت يده الدافئة إلى خاصرتها، جذبها إليه أكثر.


احمرّت وجنتاها بشدة حين تذكرت أن جاك يراقب المشهد، لكنها لم تتراجع. 


كل طريقة لمسها أبولو بها بدت مدروسة أكثر من كونها مليئة بالشغف.


ولوهلة قصيرة، تساءلت إن كان قد طلب من الرسامين أن يرسموا كيف يُقبّل، ولهذا بدا كل شيء وكأنه عرض مدروس أكثر من كونه حقيقياً.


ضغط بأصابعه برفق على أسفل ظهرها، عميقاً بما يكفي ليصدمها. تمتم وهو ما زال على شفتيها:

"إلى اللقاء، آنسة فوكس. لقد أعجبني هذا أكثر مما توقعت."


بدأ يبتعد عنها، لكن يده على خاصرتها شدّت قبضتها فجأة.


ثم عاد ليقبّلها. شفاهه انقضّت بشراهة على شفتيها، ويده الأخرى انزلقت إلى شعرها، تفسد التجعيدات التي كان جاك قد بعثرها سابقاً.


قلب إيفانجلين أصبح طبلاً، يخفق بقوة وسرعة كلما اقترب أكثر. 

رفعت يديها كلتيهما تطوق عنقه.


لكن فمه ترك شفتيها لينتقل إلى عنقها حتى— لكن يد باردة قبضت على كتفها فجأة، وانتزعتها من بين ذراعي الأمير.


"أظن أن وقت رحيلنا قد حان."


جاك جذبها بسرعة غير بشرية نحو درج الشرفة. قبل لحظة فقط، كان أبولو كل ما تشعر به، ثم وجدت نفسها تحت ذراع جاك الصلبة، ملتصقة بجانبه البارد بينما يوجهها نحو الدرج.


أمرها بصوت حازم:

"استمري في السير. لا تنظري خلفك."


وكانت عيناه قد تحوّلتا من جليد بلا روح إلى أزرق حاد يخترق النظر.


لكن بالطبع، كان عليها أن تنظر خلفها. كان عليها أن ترى ما فعلته.


ظل أبولو واقفاً في مكانه—ولحسن الحظ ما زال حياً تماماً—لكن مظهره لم يكن طبيعياً. كان واقفاً في وسط الجناح، يمرر أصبعه على شفتيه مراراً وتكراراً، وكأنه يحاول أن يكتشف ما الذي حدث للتو، ولماذا فقد سيطرته أمام فتاة كان ينوي في البداية أن يرفضها.


إيفانجلين تساءلت عن الأمر نفسه.


وحين التقت عيناهما، ما زالت هناك شرارات حرارة في نظرته، لكنها لم تعرف إن كان

ت تعني شغفاً أم غضباً.


همست:

"جاك، ماذا فعلت؟"


فابتسم جاك قائلاً:

"ليس ما فعلته أنا، يا ثعلبتي الصغيرة. بل ما فعلتِه أنتِ. وغداً في الليل… ستفعلين أكثر."


تعليقات

المشاركات الشائعة