كان يا مكان قلبٌ منهار ١١
الجزء الثاني الشمال البهي
[الفصل الحادي عشر]
لا تلتفتي.
لا تلتفتي.
لا—
إيفانجلين لم تقصد سوى أن تنظر لثانية واحدة فقط. لتتأكد أنه موجود حقًا، وأن البرودة التي غطّت بشرتها ليست مجرد نسمة هواء عابرة أو شبح غير مرئي.
رفعت عينيها نحو القوس أولًا. كان جاك يقف خلفه مباشرة، والضباب من الجهة الأخرى ما زال يلتصق ببكل حذائه بينما يعبر الساحة.
تسرب البرد من مؤخرة عنق إيفانجلين ليلتف حول حلقها وينحدر إلى صدرها. ما الذي يفعله هنا؟
منذ آخر مرة رأته فيها، غيّر جاك لون شعره إلى أزرق داكن لافت. لو لم يكن وجهه الحاد مميزًا إلى هذه الدرجة، لربما لم تتعرف عليه بسرعة. لكن حتى وجهه بدا أكثر برودة من ذي قبل؛ شفتاه خطّان قاسيان، عيناه جليد، وبشرته المثالية أشبه بالرخام: شاحبة، ناعمة، لا يمكن اختراقها.
في داره، كان هناك دومًا لمحة من عبث ملتوي تخفف من قسوته. لكن الآن اختفى كل ذلك. بدا وكأنه فقد شيئًا منذ آخر لقاء، كأن فيه لمسة بشرية صغيرة من قبل، أما الآن فلم يعد كذلك. الآن لم يبقَ سوى "اسطورٍ" خالص، وكان عليها أن تتأكد أنه لن يكتشف وجودها.
قال أحدهم بجانبها: "آه، لقد لمحْتِ اللورد جاك."
فاستدارت إيفانجلين بسرعة نحو صديقتها الجديدة.
قالت الفتاة: "إنه مقرّب جدًّا من أبولو. لكن لن يساعدك في الفوز بالأمير."
تمتمت إيفانجلين مرتبكة: "أنا… أنا فقط ظننت أن ملامحه مألوفة." وحاولت—بصدق حاولت—ألا تنظر إليه مجددًا.
آخر مرة رأته فيها، كان يبتعد بينما تتحول هي إلى حجر. ولم تكن تريد أن تعرف أي لعنة أخرى قد يجرّها عليها إن لمحها. لكنها شعرت وكأن موجة تشدّها بقوة لا تُقاوم. ليس غريبًا أن البحر دائمًا ما يهدر، فلا بد أنه يكره هذا المواجات بقدر ما كرهته هي.
وحين التفتت، كان جاك ما يزال يشق طريقه وسط الحفل، ببرود ورشاقة لا مبالية. لم يكن يرتدي سترة رسمية كما جرت العادة، بل قميصًا واسعًا من الكتان الرمادي، وسروالًا أسود كلون الغراب، وحذاء جلديًّا خشنًا، ومعطفًا قصيرًا مبطنًا بالفرو يتدلّى باستهانة عن كتفه المستقيم. لم يكن مهيأً حقًا لحفل—حتى أزرار قميصه لم تكن مُحكمة—لكن رغم ذلك، جذب الأنظار أكثر من أبولو نفسه، الذي كان متكئًا على شرفة فوقهم. فقد كان الناس يشيحون عن الأمير فقط ليتابعوا جاك وهو يتجاهل بوقاحة كل من حاول التحدث إليه.
الغريب أن أحدًا لم يبدُ خائفًا منه كما يفترض. لم يتراجع أحد أو يشحب لونه أو يهرب. إيفانجلين لم تعرف أبدًا أي مصيبة اقترفها جاك في "أسبوع الرعب"، لكن يبدو أنه بعدها قرر أن يخفي هويته الحقيقية. والآن لم يكن سوى شاب أرستقراطي متعجرف بملامح قاسية وأذنٍ مقربة من الأمير.
توجه جاك مباشرة نحو شجرة الفينيق، وسمح له الحراس فورًا بصعود الدرج الحلزوني حولها. لم يزوغ بصره ولو مرة عن طريقه، ولم يقترب منها بنظرة واحدة. وهذا كان أفضل ما يمكن أن يحدث. فهي لا تريد أن يلاحظها جاك أبدًا.
قالت صديقتها الجديدة: "اللورد جاك لا يتحدث مع أحد تقريبًا. هناك شائعات تقول إنه ما يزال يتعافى من كسرٍ عاطفي كبير."
كتمت إيفانجلين ضحكة جافة بلا روح. جاك لم يبدُ مكسور القلب في نظرها، بل على العكس… بدا أكثر برودًا من آخر مرة رأته فيها.
الخيار الأكثر أمانًا لها كان أن تهرب. أن تعود مسرعة عبر القوس قبل أن يلاحظها جاك. لكن إن غادرت الآن، ستخذل الإمبراطورة وتفقد أفضل فرصة لمقابلة الأمير أبولو.
رفعت بصرها إلى الشرفة مجددًا، حيث ما زال الأمير متكئًا باسترخاء على الدرابزين. جلسته كانت غريبة، لكنها في الوقت نفسه مثيرة للاهتمام وتشبه قليلًا ما كان "لوك" سيفعله لو كان أميرًا. ليس لأن لوك كان مغرورًا، بل لأنه ببساطة كان يستمتع بجذب الانتباه. دائمًا يمازح ويُضحك من حوله. فتساءلت إيفانجلين إن كان أبولو يشبهه. ماذا لو كان أبولو فعلًا فرصتها الوحيدة نحو نهاية سعيدة، لكنها ضيعتها خوفًا من احتمال آخر اسمه جاك؟
مجرد التفكير به جعل ندوب معصمها تخفق بوجع خفيف. ومع ذلك، لم يكن جاك قد لاحظها أصلًا.
سألت إيفانجلين: "ما الذي سمعته أيضًا عن اللورد جاك؟ هل تعرفين لماذا هو هنا؟ هل هو نوع من السفراء؟"
ضحكت الفتاة الأخرى وقالت: "أبدًا. أنا متأكدة تمامًا أن جاك سيكون أسوأ سفير يمكن تخيله. في الحقيقة سمعت أنه نُفي إلى هنا بعدما تورط بمشاكل خطيرة مع أميرة من الجنوب."
قيلت الجملة بنفس خفة أي إشاعة عابرة، ككأس نبيذ فوّار. لكن كلماتها تركت في قلب إيفانجلين شعورًا ثقيلًا بعيدًا عن أي خفة. تذكرت ما قالته شقيقة الإمبراطورة، دوناتيلا، عن احتمال اندلاع حرب إذا صادفت شخصًا في الشمال. هل كانت تقصد جاك؟ هل هذا سبب مغادرته الجنوب، لأنه ارتكب أمرًا فظيعًا بحق الأميرة دوناتيلا؟
سألتها: "هل تعرفين بالضبط ما الذي حدث؟"
فأجابت الفتاة: "من الصعب الجزم، فالقصص هنا تتحرف كثيرًا… لكن أظن أن الأميرة الجنوبية كانت الشخص الذي كسر قلبه."
حاولت إيفانجلين أن تخفي شكوكها. فالأميرة دوناتيلا كانت جميلة وحيوية، وقد أحبّتها كثيرًا. لكن كان من الصعب أن تتخيل أن أي فتاة بشرية قادرة على كسر أي جزء من قلب جاك.
"لالا! ، إيفانجلين!" جاء صوت من خلفهما. "كنت أريد التحدث إليكما."
التفتت إيفانجلين بسرعة.
رأت رجلًا يشبه إلى حد كبير "كتلاس نايتلنغر"، يرتدي نفس الجلد الأسود والقميص المزين بالدانتيل، وهو يتجه نحوهما بخطوات واثقة.
"كريستوف نايتلنغر"، أوضحت الفتاة الأخرى—والتي لا بد أنها كانت لالا ذاتها، تلك التي ورد اسمها في جريدة شائعات اليوم . ويبدو أنهما ستُذكَران فيها مرة أخرى.
انقبض قلب إيفانجلين. فعلى الرغم من أن كريستوف كان لطيفًا معها في مقالاته اليوم، إلا أنها لم تكن تطيق مقابلة جديدة تُحرَّف فيها كلماتها لتبدو كيتيمة معدمة تسعى بخبث وراء الأمير، أو ما هو أسوأ.
همست: "هل فات الأوان على الهرب؟"
ردّت لالا: "على الأرجح، لكن يمكنني دائمًا أن أقول إني أخفتك حين هددتك بقص كل شعرك الوردي الجميل لو تجرأتِ على التحدث مع أبولو الليلة."
للوهلة الأولى، ظنت إيفانجلين أنها تمزح. لكن تلك الابتسامة الماكرة عادت للظهور.
قالت لالا: "لا تنظري إليّ برعب هكذا. أنا فقط أحب أن أظهر في الصحف." ثم رفعت كأسها وكأنها تحتسي نخب نفسها. "رغم ما تقوله شائعات اليوم ، فأنا أعلم جيدًا أن لا فرصة حقيقية لي في الزواج من الأمير. لكني أستمتع بمتابعة اللعبة. الآن اذهبي قبل ألا أستطيع إنقاذك."
أجابت إيفانجلين بسرعة: "سأدين لكِ بجميل." ثم أسرعت مبتعدة.
لكن تنورتها الضيقة لم تكن تسمح لها بالجري بسرعة، وفوق ذلك لم تكن تولي انتباهًا كبيرًا للاتجاه الذي تسلكه. لقد كانت مشغولة كليًا بتهديد كريستوف، حتى نسيت التهديد الآخر… إلى أن كادت تصطدم بصدر جاك الصلب.
حاولت أن تغرس في عمودها الفقري شجاعة وهمية بينما قلبها يخفق بالذعر.
لقد رأته من بعيد من قبل، لكن قربه الآن كان شيئًا مختلفًا تمامًا. كان كآلاف الجروح التي تنزف دفعة واحدة. دمار يتجسد في شعر أزرق كلون أمواج المحيط المظلمة، وشفتين حادتين كزجاج متشقق يمكنه أن يقطعها بسرور.
كيف لا يعرف أحد هنا أنه من "الاساطير "؟
شعرت إيفانجلين بنظراته غير البشرية تنزلق فوق بشرتها، فتسرّع الدم في عروقها بينما عيناه تتفحصان كل خط فضي يلتف بإحكام حول خصرها ووسطها وصدرها. ثم توقف، وأدار بصره بعيدًا قبل أن يلتقي عينيها، وكأنها لا تستحق حتى عناء النظر.
سألها ببرود وهو يتلاعب بتفاحة ذهبية لامعة بيد واحدة:
"ما الذي تفعلينه هنا؟ كنت أظنك متزوجة الآن من ذلك الفتى الذي أحببته."
كان صوته أكثر قسوة من آخر مرة سمعته فيها، حين تركها في الحديقة تتحول إلى حجر.
حاولت إيفانجلين أن تمنع نفسها من الانفجار في وجهه. كان عليها أن تبتعد عنه، لا أن تدخل معه في شجار. لكن لامبالاته جعلتها تهتم أكثر.
صرخت: "لقد دمرتَ كل فرصي مع لوك حين أرسلتَ ذئبًا لينهشه!"
توقف جاك عن رمي التفاحة. قال ببرود:
"لم يسبق لي أن جعلتُ أحدًا يُنهَش من قِبل ذئب. هذا فوضوي أكثر مما ينبغي."
تأملها لبرهة، وعيناه أخيرًا تلتقيان بعينيها.
كانت قد أقسمت من قبل أن عيناه زرقاوان ساطعتان تخطفان الأنفاس، لكن الليلة بدتا كجليد باهت بلا روح. نظرة واحدة منه جعلت إيفانجلين تشعر بالبرد يتسلل في كل جسدها.
فكرت بما قالته لالا عن كسر قلبه على يد الأميرة دوناتيلا. لكن كلمات جاك التالية حطمت أي تعاطف قد تشعر به نحوه.
"هل تركته حقًا خلفك؟ أم أنكِ فقط رأيت وجهه المشوّه فهربتِ بالاتجاه الآخر؟"
قطّبت إيفانجلين حاجبيها. بالطبع جاك سيفترض الأسوأ عنها، لأنه على الأرجح هذا ما كان سيفعله هو بنفسه. لكنها لم تصححه. كانت تفضل أن يظن الـ"الاسطوري" أنها سيئة على أن يعرف الحقيقة: أنها ليست مع لوك لأنه اختار ماريسول، ثم اختفى. لكنها لم تأتِ هنا لتفكر فيه مجددًا. جاءت لتنساه، لتبحث عن نهاية سعيدة جديدة، وكانت تخطط للحصول عليها—مع أمير مختلف تمامًا عن الذي يقف أمامها الآن.
قالت ببرود: "لا أريد مناقشة هذا معك، وأظن أنهم ينادون الجميع على العشاء—"
قاطعها جاك: "لا يا ثعلبتي الصغيرة. بيننا حساب لم يُغلق بعد." ثم أسقط التفاحة وأمسك عنقها، كفّه الباردة تغطي مكان نبضها.
شهقت إيفانجلين: "جاك—ما الذي تفعله؟" وتساءلت بدهشة عما قصده باللقب الذي أطلقه عليها.
مدّ يده الأخرى إلى شعرها، فبعثر خصلاتها المتموجة. كانت لمسته غير لائقة وحميمة، تمامًا مثل اللقب المألوف أكثر من اللازم الذي ناداها به. ومع كل ثانية، أحست أن فرصتها في الحصول على نهاية سعيدة تبتعد أكثر، خاصة وهي تسمع همسات الحاضرين وقد تحولت إلى وشوشات صاخبة. عشرات الألسنة تتحدث فجأة عن الطريقة الفاضحة التي كان جاك يمسكها بها أمام شرفة الأمير مباشرة.
قالت بارتباك: "جاك، قلت لك سأقبّل ثلاثة آخرين، لكن ليس أنت."
ابتسم بسخرية: "إذًا، لماذا لا تدفعينني بعيدًا؟"
قالت بانفعال: "لا أستطيع، أنت من الاساطير !"
ردّ ببرود: "كاذبة. أنا لا أؤذيك ولا أقبّلك." ثم حرّك يده على عنقها ليلعب مع موضع نبضها، يمرر أصابعه ببطء صعودًا وهبوطًا فوق الخفقان السريع دق-دق-دق، مما جعل قلبها يخفق أسرع.
"أظن أن هذا يثيرك."
صرخت إيفانجلين: "أنت واهم!" وأخيرًا أفلتت منه. قلبها كان يخفق بجنون، لكنها كانت واثقة أن السبب لم يكن الإثارة.
وربما… كان هناك لمسة خفيفة جدًا من ذلك الإحساس، لكنها لم تستوعب لماذا.
ضحك جاك بخفوت وقال: "اهدئي يا ثعلبتي الصغيرة. لست أحاول تدميرك." ثم قبض على معصمها وجذبها نحوه وكأنهما يرقصان سخريةً.
تراجعت خطوة، لكنه تبعها حتى ارتطمت ساقاها بطاولة صلبة. قالت بقلق: "ماذا تفعل يا جاك؟"
أجاب وهو يميل نحوها أكثر: "أحاول أن أجعلكِ أكثر إثارة للاهتمام."
لم يلمسها سوى من معصمها، لكن أي شخص يراقب من بعيد قد يظن أنهما على وشك التقبيل بالطريقة التي مال بها بجسده وأدار رأسه. وحدها إيفانجلين رأت أن عينيه فارغتان تمامًا.
قال ببرود: "قبل قليل، كنتِ مجرد تهديد صغير، شيء يمكن للناس أن يتجاهلوه فيختفي. لكن الآن بعدما لاحظتكِ أنا، فلن يكون هناك اختفاء."
همست إيفانجلين بازدراء: "أنت تظن نفسك أهم مما أنت عليه."
لكن الناس فعلًا كانوا يراقبون. على الأقل نصف العيون في الحفل صارت موجهة إليهما. ومن زاوية نظرها، رأت كريستوف نايتلنغر يُخرج قلمًا ويبدأ بتدوين ملاحظات في دفتر صغير.
قال جاك هامسًا: "إن كنتِ محظوظة، فأبولو يراقب أيضًا… وقد بدأ يغار."
أجابت بسرعة: "لا أريد أن أجعله يغار."
ابتسم جاك بسخرية: "بل يجب عليكِ ذلك. سيجعل مهمتك أسهل بكثير، فالمرة الأولى التي أريدك أن تُقبّلي فيها أحدًا… يجب أن تكون مع أبولو."
وفي حركة سريعة بشكل غير طبيعي، أفلت معصمها، وسحب خنجرًا مرصعًا من حذائه، ووخز طرف إصبعه. بدأ الدم يتدفق، داكنًا أحمر تتلألأ فيه نقاط ذهبية غير ممكنة.
حاولت إيفانجلين أن تبتعد، لكنه سبقها. رفع يده إلى فمها ورسم بخط دمه على شفتيها. كان الطعم معدنيًا… وحلوًا. حلوًا على نحو لا يُصدق. أرادت أن تكره ذلك المذاق، لكنه بدا أشبه بإحساس أكثر منه نكهة.
كان الطعم أشبه بآخر لحظة كاملة قبل نهاية الحلم، بقطرات شمس تتساقط كالمطر، بأمنيات ضائعة تم العثور عليها من جديد. وكادت إيفانجلين أن تلعق…
"لا." رفع جاكس يده بسرعة وأغلق شفتيها بأصابعه. "لا تلعقيه. عليكِ أن تتركي الدم يتشرب في شفتيكِ وإلا فلن يعمل السحر."
تحولت نشوة إيفانجلين إلى خوف بارد ولزج. عندما عقدت الصفقة مع جاك، كانت متوترة من فكرة تقبيل الغرباء، لكنها لم تفكر أبدًا أن قبلة منها قد تؤذيهم، أو أن جاك قد يلطخ شفتيها بدمه ويصيبها بسحره.
سألته بذعر: "ماذا فعلت؟ ماذا سيحدث إن قبّلتُ الأمير أبولو؟"
صححها بجفاف: "عندما، ليس إذا. إن لم تُقبّلي الأمير أبولو قبل نهاية هذا الحفل الليلة، ستموتين. وهذا سيكون مؤسفًا… فهناك طرق أفضل بكثير للموت." ثم هبطت عيناه الخاليتان من أي شعور نحو فمها الذي رسمه للتو بدمه.
وبعدها، عاد جاك يتجول ببرود وسط الحفل.
تعليقات
إرسال تعليق