كان يا مكان قلب منهار ١٠


الجزء الثاني الشمال البهي 

[الفصل العاشر]

 



إيفانجلين لم تكن متأكدة، هل كان ذلك بسبب ضوء القمر أم بسبب سحر الشمال الغريب؟ لكن الضباب تحوّل إلى غلالة متلألئة جعلت الشوارع تتوهج، وأطراف أشجار الإبر تتلألأ بلمحات من الأزرق الذهبي والأخضر الساحر، بينما عربتها تهتز فوق المنخفضات والحفر والطرق غير المستوية التي جعلت أحشاءها تنقلب وتضطرب. أو ربما كان ذلك فقط لأنها متوترة.


أخبرت نفسها أنه لا داعي للقلق. في وقت سابق، عندما احترقت الندوب على معصمها، خافت أن تلتقي بجاك الليلة. لكن بما أن العشاء شديد الحصرية، بدا احتمال حضور أحد "الاساطير" ضئيلاً. وحتى لو كان جاك في هذا الجزء من الشمال، لم تكن متأكدة إن كان سيرغب بالمجيء. معظم السيدات جئن على أمل لقاء الأمير أبولو، وإذا كان "الأساطير" غيورين كما تحكي القصص، فهي لا تتصور أن جاك سيعجبه ذلك.


لا، طمأنت نفسها. جاك لن يكون هنا. الأمير الوحيد الذي ستراه الليلة هو الأمير أبولو.


شعرت بمعدتها تنقلب من جديد حين توقفت العربة أخيراً. فرنجليكا لم تتحرك للنزول، لكنها قالت بابتسامة مرحة:

"حظاً موفقاً! ولا تقتطفي أي ورقة."


"لن أفعل ذلك أبداً"، ردّت إيفانجلين، فقط لأنه بدا الجواب المناسب، ثم نزلت إلى الليل الموشح بالصقيع.


كانت قد توقعت أن تصل إلى قلعة مغطاة بالثلج أو قصرٍ أشبه بالقصص الخيالية، لكنها وجدت فقط غابة من أشجار نحيلة متجمدة، وبوابة مقوّسة من نفس الغرانيت الأزرق المرمري الذي صُنع منه قوس الشمال العظيم.


هذا القوس لم يكن كبيراً مثل القوس الآخر، لكن المشاعل على جانبيه أضاءت نقوشاً في غاية الدقة والجمال، بل وأكثر ترحيباً. رأت إيفانجلين رموزاً مأخوذة من حكايات وأغاني الشمال: مفاتيح على شكل نجوم، وكتب مكسورة، فرساناً بمدرعاتهم، رأس ذئب متوَّج، خيولاً مجنحة، قطعاً من قلاع، سهاماً وثعالب، وأغصان زنابق متشابكة.


ذكّرها ذلك قليلاً بتطريزات أمها، فقد كانت دائماً تخيط صوراً غريبة مثل الثعالب وفتحات المفاتيح على الفساتين. تمنّت إيفانجلين لو أن أمها كانت هنا الآن، وأن ما سيحدث تالياً كان سيجعلها فخورة بها.


"هل ستقفين هنا حتى تتجمدي، أم ستدخلين؟" جاء صوت غامض ودخاني النبرة.


في البداية ظنت إيفانجلين أن الصوت يخرج من القوس نفسه. ثم رأته.


كان شاباً واقفاً بجوار القوس كما يقف شجر الغابة، كأنه موجود هناك منذ الأزل. لم يرتدِ رداءً ولا عباءة، بل درعاً جلدياً ضيقاً وخوذة برونزية غريبة. الجزء العلوي منها بدا أشبه بتاج سميك منقوش برموز غير مألوفة تحيط بجبهته. تركت الخوذة معظم شعره البني المتموّج مكشوفاً، لكنها أخفت أغلب ملامحه بقوس معدني قاسٍ مليء بالشوك، امتد من جانبي رأسه حتى غطّى فكه ووصل إلى جسر أنفه، ولم يترك سوى عينين بارزتين وعظام وجنتين حادتين ظاهرتين.


بلا وعي، تراجعت خطوة إلى الوراء.


ضحك الجندي ضحكة ناعمة على غير المتوقع وقال:

"لا خطر يهددك مني، يا أميرة."


"لستُ أميرة"، صححت له.


"لكن ربما تصبحين." أغمز بعينه، ثم اختفى عن ناظريها بينما كانت تخطو عبر القوس وتسمع صوتاً خشناً يقول:

"نحن مسرورون جداً لأنك وجدتنا."


خطوة أخرى، وإذا بالعالم من حولها يتغير كلياً.


دفء لطيف غمر بشرتها كأشعة شمس بعد الظهيرة. بقيت إيفانجلين في الخارج، لكن الضباب والبرد اختفيا. كل شيء من حولها بدا بلون البرونز المحترق والدرجات النارية من الأحمر والبرتقالي، كأوراق الأشجار حين توشك أن تتغير.


وجدت نفسها في فسحة أخرى من الغابة، لكنها هذه المرة كانت مُهيّأة لحفل: موسيقيون يعزفون على العود والقيثارة، وأشجار تتدلى منها شرائط زينة احتفالية. وفي الوسط، وقف شامخاً شجر الفينيق الملكي، وعندها فهمت فجأة التحذير الغامض لفرنجليكا. كانت المرة الأولى التي ترى فيها هذه الشجرة بعينيها، لكنها سمعت عنها من والدتها. شجرة الفينيق تحتاج لأكثر من ألف عام لتنضج، حيث تتمدد أغصانها، يزداد جذعها صلابة، وتتحول أوراقها إلى ذهب حقيقي. في ضوء الشموع، كانت تتلألأ مثل كنز تنين، مغرية الناس بقطفها. لكن الأسطورة تقول: إذا قُطف ورقها الذهبي قبل أن تتحول جميع الأوراق، فإن الشجرة كلها ستشتعل بالنار.


حول الشجرة كان هناك أشخاص يبدون جميعاً مهمين. فإذا كان رجال الميناء يبدون قادرين على قطع شجرة بضربة فأس، فهؤلاء بدوا قادرين على إنهاء حياة بكلمة واحدة أو توقيع بقلم. معظم الرجال ارتدوا صدريات فاخرة من المخمل تناسب دفء الأجواء، أما النساء فارتدين فساتين متنوعة. أغلبهن كنّ بموضة الشمال: تنانير ثقيلة من الدامسكو المطرز، أحزمة مرصعة بالجواهر، وأكمام عريضة مشقوقة تتدلى حتى أطراف الأصابع.


ولحسن الحظ، لم ترَ إيفانجلين "أمير القلوب" بينهم. لم يكن هناك أي شاب يحمل تفاحة، بملامح قاسية أو ثياب ممزقة.


تنفست براحة أكبر، وحولت انتباهها للبحث عن الأمير أبولو بين الضيوف الذين كانوا يحتسون من كؤوس كريستالية ببرود، وكأن حضور حفلات يختار فيها الأمراء عرائسهم أمر معتاد مثل وجبة عائلية متأخرة. لكن للأسف، لم يكن أحد يرتدي تاجاً، ما جعل إيفانجلين تفترض أن الأمير لم يصل بعد.


كانت تفكر في سؤال أحد المدعوين عنه، لكن رغم الارتياح الذي بدا على وجوه الآخرين، لم يبدُ أي منهم مرحباً بفكرة أن يضمّ غريبة إلى أحاديثه. كلما اقتربت إيفانجلين، انغلقت الدوائر وساد الصمت فجأة.


جعلها ذلك تشعر بخجل غير معتاد، وحمدت الله أن ماريسول لم تُدعَ. كانت ماريسول ستظن بالتأكيد أن الناس يتجنبونها بسبب لعنتها.


بعض الحاضرين رمقوا إيفانجلين بنظرات سريعة، ربما متسائلين إن كان شعرها بلون الذهب الوردي يعني أنها الفتاة التي تحدثت عنها الصحف الفضائحية. لكن ذلك لم يكن كافياً ليفتح لها أي دائرة.


والفتاة الوحيدة الأخرى التي بدا أن الجميع يتجاهلها عمداً كانت شابة في مثل عمر إيفانجلين تقريباً، ترتدي ثوباً مدهشاً بلون الياقوت المشتعل يشبه حراشف التنين. لم يحدثها أحد، لكن من المستحيل أن لا يلحظها الناس؛ ربما كانت أجمل فتاة في المكان، وفستانها بلا شك كان الأجرأ. لم يكن له أكمام طويلة على طراز الشمال، بل بلا أكمام تماماً، كاشفاً عن بشرتها السمراء الناعمة وكتفيها المزينة برسوم لهب تنين مرسومة كوشوم زاهية تغطي ذراعيها حتى بدت كقفازات نارية.


التقطت إيفانجلين كأسين من الكريستال وتوجهت نحوها، وكانت الفتاة تتمايل قليلاً كأنها ترقص وحدها.


"هل تريدين واحداً؟" مدت إليها أحد الكأسين.


تأملت الفتاة الكأس، ثم نظرت إلى إيفانجلين بعينين ضيقتين.


"لا تقلقي، ليس مسموماً." ارتشفت إيفانجلين من الكأسين معاً، ثم عرضت عليها واحداً من جديد. "أرأيتِ؟"


ابتسمت الفتاة ابتسامة ماكرة وقالت:

"إلا إذا كان أحدهما مسموماً والآخر يحتوي على الترياق. هذا ما كنت سأفعله أنا."


في تلك اللحظة خطرت لإيفانجلين فكرة أن هناك سبباً حقيقياً لتجنّب الناس لها. ربما لم تكن هذه الفتاة بريئة كما تبدو. أو ربما كان ذلك مجرد صدى لتحذير ماريسول السابق عن المخالب والأنياب التي ستظهر.


"أنا إيفانجلين، بالمناسبة."


"أعرف"، تمتمت الفتاة.


توقعت إيفانجلين أن تعرّف الفتاة بنفسها بعد ذلك، لكنها اكتفت بالقول:

"تعرفت عليكِ من لون شعرك الوردي. ولاحظت أيضاً أنك كنتِ تبحثين عن الأمير عندما دخلتِ. لكن نظرك لم يكن مرتفعاً بما يكفي." عندها أخذت الكأس وأشارت به نحو شجرة الفينيق الملكية.


لم تدرك إيفانجلين كيف لم تره من قبل. لكنه الآن كان واضحاً تماماً: أبولو، بوضعية غريبة لا يمكن تجاهلها. كان في الأعلى، على شرفة خشبية بين الأغصان، مستلقياً بجرأة على الدرابزين بشكل جانبي.


المشهد كان أشبه بصورة لأمير وسيم: ثياب بألوان الخشب والنبيذ، وتاج ذهبي على شكل قرون متشابكة. من مسافة بعيدة، لم تستطع تمييز ملامحه بوضوح، لكن جلسته المسترخية وهو يحدّق بالحفل بأسلوب جاد، بدت وكأنه يبحث بيأس عن حب حياته. بدا تماماً كما لو أنه… يتصنّع لأجل لوحة.


وفعلاً، كان يتصنّع!


رأت إيفانجلين شرفة أخرى مخفية بين الأشجار في الجهة المقابلة، حيث كان هناك رسام يرسم الأمير بحركات سريعة، يحاول التقاط وضعه الدرامي.


"عليك أن تري أبولو عندما يكون الطقس أدفأ"، همست الفتاة بجانبها. "دائماً يقوم بهذه الوضعيات من دون قميص."


"أهو يفعل هذا كثيراً؟"


أومأت الفتاة بحماس. "كان الأمر أكثر إثارة عندما كان شقيقه الأصغر، تيبريوس، يغيظه بإطلاق السهام عليه… أو بإطلاق أسراب من القطط الصغيرة نحوه."


ضحكت إيفانجلين بخفة. "أظن أني كنت سأحب أن أرى ذلك."


"كان رائعاً بحق. للأسف، لا يبدو أن تيبريوس موجود هنا." تنهدت الفتاة. "الأميران اختلفا قبل عدة أشهر، واختفى تيبريوس لأسابيع، ولم يعرف أحد أين ذهب، ومنذ عودته وهو يتجنب معظم المناسبات."


"ما—" شعرت إيفانجلين ببرودة حادة تصعد من مؤخرة عنقها، جعلتها تنسى تماماً ما كانت ستقوله، ولا تفكر إلا باسم واحد: جاك.


لم تكن تعرف كيف عرفت أن ذلك الشعور يعني حضوره، لكنها كانت مستعدة أن تقسم بحياتها أن أمير القلوب قد دخل الحفل للتو.

تعليقات

المشاركات الشائعة