كان يا مكان قلب منهار ١٣
الجزء الثاني : الشمال البهي
[الفصل الثالث عشر]
جريدة شائعات اليوم
(تكملة من الصفحة الأولى)
إيفانجلين فوكس أثبتت فعلاً سمعتها كامرأة مليئة بالمفاجآت!
فبينما كانت معظم السيدات في حفل العشاء الليلة الماضية يتصنعن الجمال لإرضاء الأمير أبولو، شوهدت إيفانجلين بين ذراعي أحد أصدقائه المقرّبين في عناق جريء.
لست متأكداً إن كانت إيفانجلين قد سمعت الشائعات بأن أبولو قد لا يختار عروساً، فقررت أن تلتفت لشخص آخر، أو ربما كانت تحاول فقط إثارة غيرته. لكن يبدو أنني كنت محقاً حين وصفتها بأنها رهان خطير.
حاولت إيفانجلين أن تتجاهل الهمسات القريبة والقلق الدائم في معدتها. كانت الآن في "الشمال البهي"، موطن حكايات أمها الخيالية، محاطة بمناظر مذهلة، وعلى وشك تذوّق تفاحة مشوية على نار تنّين. لكن الهمسات كانت مثل الأشرار في نهاية الحكاية... لا تختفي أبداً.
"إنها هي، أقسم !"
"قرأت أنها قبّلت أحد أصدقاء الأمير أبولو البارحة."
قالت ماريسول وهي ترمق المتحدثين خلفهم بنظرة حادة: "تجاهليهم. يجب أن يعرفوا أن لا يصدقوا كل ما يُكتب في صحف الفضائح." ثم رفعت صوتها أكثر لتتأكد أنهم سمعوها.
في تلك اللحظة، أحبتها إيفانجلين قليلاً. لكن المشكلة أن ما كتبه كريستوف في الصحيفة صباح اليوم لم يكن كله كذباً. بالفعل رآها الناس في موقف فاضح مع جاك، حين أمسك بها وكأنه على وشك تقبيلها، ودفعها نحو الطاولة، ثم رسم على شفتيها بدمه. فقط تذكّر الأمر جعل معدتها تنقلب.
ماريسول صدقت أن كل ما في الصحيفة مجرد افتراء منذ اللحظة التي قرأته فيها، وإيفانجلين لم تصحح لها الأمر. فقط حاولت أن تنسى ما حدث، بينما خرجت هي وأختها غير الشقيقة ذلك الصباح ليستمتعن بوقتهن في الشمال عبر زيارة متاجر الأبراج المتنوعة. ماريسول كانت تبحث عن وصفات شمالية ومكونات نادرة، أما إيفانجلين فقد أرادت العثور على الأشياء المستحيلة التي قرأت عنها في قصص أمها—مثل التفاح الملتصق المشوي بنار التنّين الذي كانتا تنتظرانه الآن.
كانت والدتها تقول دائماً إن نار التنين تجعل كل شيء أحلى. كان من المفترض أن تكون التفاحات المشوية على نار التنين بطعم الحب الحقيقي.
طابور الانتظار لهذه الحلويات كان طويلاً جداً، حتى إن إيفانجلين وماريسول انتظرن ما يقارب نصف ساعة، وكل هذا بينما كان السكان المحليون لا يزالون يتحدثون عن إيفانجلين وقبلة الشائعات مع صديق أبولو.
شعرت إيفانجلين ببعض الراحة لأن هذه كانت فضيحة اليوم. كان يمكن أن يكون الأمر أسوأ بكثير. فقد غادرت الحفل ليلة البارحة وهي خائفة أن تكون قبلتها الحقيقية مع أبولو قد وضعته تحت سحر. وكانت نصف مرعوبة من أن تفتح صحيفة الفضائح صباح اليوم لتكتشف أن شيئاً فظيعاً قد حدث للأمير. لكن الشيء الوحيد الذي تغير فعلاً هو سمعتها، وما يقوله الناس لم يكن حتى سيئاً للغاية. ومع ذلك، كان يربكها.
تساءلت مجدداً عما يريده جاك حقاً. لقد شعرت بوجود منافسة بين جاك وأبولو، لكنها لم تفهم سبب كونها جزءاً من ذلك. لا بد أن جاك يريد شيئاً من قبلتها، لكن ماذا؟
مسحت إيفانجلين معصمها. بقيت ندبتان فقط على شكل قلب مكسور. اختفت الثالثة بعد قبلة الليلة الماضية. لقد ألمح جاك أنه سيحصل على قبلة أخرى الليلة، لكن أولاً، عليه أن يمسك بها، وهذا المساء، لم تخطط لتُمسك .
تجنب الليلة الأولى من مهرجان "الليلة التي لا تنتهي " لم يكن خياراً. ربما قلّلت شائعات هذا الصباح من فرصها مع أبولو، لكن إيفانجلين لم تستطع تصديق أنها دمرت فرصها بالكامل. لقد حدث شيء بينهما حين تقبّلا. السؤال الوحيد: هل كانت قبلة إيفانجلين مع أبولو جزءاً من خطة جاك، أم شيئاً لم يكن يتوقعه؟ لم تكن تعرف الإجابة، لكنها كانت تأمل أن تجد أبولو مجدداً الليلة وتكتشف الأمر قبل أن يجدها جاك.
"ملح! احصلوا على أملاحكم وتوابلِكم!" صاح بائع وهو يدفع عربة ثقيلة عبر الشارع المرصوف. "مستوردة من مناجم الشمال الجليدي. لديّ الحلو، ولديّ المالح…"
"إيفانجلين، هل ستكرهينني إذا تركتك وحدك؟" ألقت ماريسول نظرة حنونة على عربة الملح. "كنت أحب أن أحصل على بعض التوابل الجليدية لأخذها إلى المنزل."
"افعلِ ما تريدين"، قالت إيفانجلين. "سأحضّر لك تفاحة."
"لا بأس، في الواقع لا أريد واحدة." بدأت ماريسول بالابتعاد.
شعرت إيفانجلين أنه رغم أن أختها غير الشقيقة كانت تستمتع بالشمال، إلا أنها لم تتجاوز بعد شعورها بعدم الراحة مع كل تلك التنانين الصغيرة.
قالت ماريسول: "ما زلت ممتلئة من فطائر العفاريت التي اشتريناها في وقت سابق. لكن استمتعي أنت! سألتقي بك في النزل لاحقاً."
قبل أن تتمكن إيفانجلين من الرد، كانت قد وصلت إلى مقدمة الطابور، وكانت ماريسول في طريقها لتحقيق حلمها بالحصول على التوابل المستوردة.
"تفضلي، آنسة." سلّمها البائع تفاحة مشتعلة على عصا، لا تزال تتلألأ بنيران التنين.
كان لون التفاحة من الخارج كالذهب المكرمل، وعندما بردت بما يكفي لتعض، ذاقتها إيفانجلين بحلاوة لاذعة، وذكّرها ذلك بجاك—
أغلقت إيفانجلين عينيها ولعنت نفسها.
فجأة، لم تعد تريد التفاحة.
حلّ حول يديها زوج من التنانين الزرقاء الملطخة، وأعطتها لها كوجبة، بينما بدأت في التوجه نحو متاجر الأبراج المتسلسلة.
اقترب الغروب. كان السماء مغطاة بضباب أرجواني وغيوم رمادية، تدل على أن الوقت ربما قد حان للعودة إلى غرفتها في "حورية البحر واللآلئ" والاستعداد لمهرجان "الليلة التي لاتنتهي". لكن إيفانجلين لم تكن مستعدة بعد.
لقد زارت هي وماريسول على الأقل خمسين متجرًا ذلك اليوم، وكان هناك متجر واحد ترغب في زيارته مجدداً: "قصص ضائعة ومفقودة وأشياء مميزة أخرى". كان واجهة المتجر متعبة ومغطاة بطلاء باهت، لكن عندما نظرت إيفانجلين من نافذة المتجر المغبرة، لمحت كتابًا لم يصل أبداً إلى أي رف خارج الشمال: أغنية الرامي والثعلب.
القصة التي كانت والدتها ترويها لها، القصة التي لم تعرف نهايتها الحقيقية أبداً. كان شعور التجسس على الكتاب مثيراً للغاية، حتى لاحظت أيضاً اللافتة:
ذهب للغداء
سيعود لاحقاً
للأسف، بدا أن "لاحقاً" لم يحدث بعد. وجدت إيفانجلين اللافتة لا تزال موضوعة عند الباب المتهالك. طرقت الباب، في حال كان صاحب المتجر قد عاد ونسى إزالة اللافتة أو فتح القفل أو إشعال أي من المصابيح.
"مرحباً؟"
"الباب لن يجيبك."
فوجئت إيفانجلين وهي تستدير، ولاحظت مدى الظلام الذي خيم على الأبراج، وكيف حلّ الليل أسرع من المعتاد. الجندي الذي كان أمامها بدا أكثر ظلّاً من كونه رجلاً. ربما كانت ستهرب لو لم تتعرف على الخوذة البرونزية القاسية التي كانت تغطي كل شيء إلا عينيه، وشعره المموج، وعظام خديه البارزة. كان هو الجندي الذي كان يحرس القوس ليلة البارحة. لقد دعابها حينها وسمّاها أميرة، وسحرها قليلاً. لكن الليلة لم يبدو جذاباً بهذا الشكل.
"هل تتبعني؟" سألت.
"لماذا أتابعك؟ هل تخططين لسرقة الحكايات الخيالية؟" قالها وكأنها مزحة، لكن كانت هناك شرارة مفترسة في عينيه، كما لو كان يتمنى أن تكون هناك لتسرق شيئاً، حتى يتمكن من ملاحقتها وصيدها.
بسرية، نظرت إيفانجلين خلفه لترى إن كان هناك أحد آخر قريب.
أطلق الجندي صوت "توت توت توت" خفيف. "إذا كنت تبحثين عن من يساعدك، فلن تجديه هنا. وليس من المفترض أن تكوني هنا أيضاً." كان صوته يحمل قلقاً غير متوقع، لكن حضوره ظل يربكها .وهي ترفع رأسه نحو كل الدرجات التي انتهت الآن بمصاطب ضبابية وجسور ضيقة تختفي في الظلام بدلاً من المتاجر.
قال:
"الأبراج ليست آمنة ليلاً. معظم من يضلون هنا لا يُعثر عليهم أبداً." وأشار إلى الباب خلف إيفانجلين.
بغريزتها، استدارت. كان الظلام قد كثُر لدرجة جعلت قراءة اللافتة صعبة، لكنها استطاعت أن ترى أنها بالية ومتهالكة، ومن تلك اللحظة، ستظل تتساءل إذا ما كانت اللافتة موجودة على الباب أكثر من يوم واحد.
عندما استدارت مرة أخرى، لم يعد الجندي الغامض موجوداً. ولم تنتظر لترى إن كان سيعود. أسرعت بالعودة على أقرب مجموعة من الدرجات النزولية، متعثرة في ثيابها أكثر من مرة.
كانت لتقسم بأنها قضت أقل من ساعة في البرج، لكن لابد أن وقتاً أطول قد مضى.
أضواء مصابيح الغاز أضيئت، والشوارع امتلأت بالعربات، جميعها تحمل الناس إلى مهرجان "الليلة التي لا تنتهي".
كانت ماريسول قد ارتدت ملابسها بالفعل عندما وصلت إيفانجلين أخيراً إلى غرفتهن في النزل.
وبما أن ماريسول تحب الخَبز، أرسلت لها الإمبراطورة فستاناً فخماً برغوة خفيفة، وياقة متموجة مكشوفة الكتفين وتنورة مزدوجة تبدو وكأنها طبقة من العسل وطبقة من السكر الوردي.
قالت إيفانجلين: "تبدين وكأنك وُلدت لحضور الحفلات."
ابتسمت ماريسول، متألقة أكثر مما كانت عليه في الجنوب. "لقد وضعت فستانك بالفعل على السرير."
"شكراً." كانت إيفانجلين لتحتضن أختها، لكنها لم ترغب في تجعد الفستان. " دقيقة واحدة فقط."
حاولت إيفانجلين الإسراع. لم يكن هناك وقت لتجعيد شعرها بالمكواة الساخنة، لكنها تمكنت من عمل ضفيرة سريعة على شكل شلال، وزينتها بالزهور الحريرية التي اشترتها في وقت سابق من ذلك اليوم.
في هذه الليلة، كان فستانها مصمماً ليحاكي شبكة الزهور في حديقة والدتها، حيث أنقذت زفاف ماريسول. لكن أي شخص ينظر إليها لم يكن سيفكر في ذلك. كانت قاعدة الصدر في فستان إيفانجلين من الحرير العاري، مما جعلها تبدو كما لو أنها ملفوفة فقط بأشرطة مخملية كريمية متقاطعة تصل إلى وركيها. هناك، بدأت الزهور الباستيلية بالظهور، تزداد كثافة حتى غطت كل سنتيمتر من تنورتها السفلية بتداخل رائع من البنفسج الحريري، وفاونيا مرصعة بالجواهر، وزهور الزنبق، والكروم المتعرجة،وبعض الورشات الذهبية .
قالت إيفانجلين: "أنا جاهزة."
تجمدت وهي تصل إلى غرفة الجلوس، حيث كانت ماريسول واقفة بلا حراك، ممسكة بورقة من الصحف بالأبيض والأسود.
صرخت ماريسول : "أحدهم دفعها تحت الباب" ، وأصابعها البيضاء تمسك بحافة الصفحة بينما تحاول إيفانجلين انتزاعها.
تعليقات
إرسال تعليق