كان يا مكان قلب منهار ٦
الجزء الأول
قصة إيفانجلين فوكس
[الفصل السادس]
مرّ الوقت.
بردت الأيام.
وتغيّرت ألوان الأوراق.
ظهرت أكشاك التفاح في زوايا الشوارع، تبيع الفطائر والحلويات الموسمية. وكلما مرّت إيفانجلين بجانب أحدها وشمّت رائحة الفاكهة الحلوة، تذكّرت جاك والدين الذي ما زال يثقل قلبها، فيخفق صدرها كحصان يحاول الهرب. لكن يبدو أن جاك نسي أمرها، كما قال "بويسن".
ولم يعد "لوك" أيضًا، ولم يُفتح متجر الفضول من جديد.
أقنعت إيفانجلين "أغنيس" بأن تسمح لها بالعمل في مكتبة والدها السرية. لم تكن ساحرة مثل متجر الفضول، لكنها منحتها شيئًا تتطلّع إليه. رغم أن بعض الأيام كانت تشعر فيها وكأنها كتاب قديم على الرف الخلفي، كان محبوبًا في زمنٍ ما، ولم يعد أحد يلمسه.
كانت لا تزال معروفة بما يكفي ليصعب على زوجة أبيها طردها إلى الشارع، لكنها كانت تخشى أن يحدث ذلك يومًا ما. فقد نشرت الصحف الفضائحية إشاعة عن قُبْلتها التي تحوّل الرجال إلى حجر. ومنذ ذلك الحين، لم يظهر اسمها إلا نادرًا. حتى الصحفي"كتلاس" بدأ ينساها، كما قالت "أغنيس".
لكن إيفانجلين رفضت أن تفقد الأمل.
فأمها، "ليانا"، نشأت في الشمال الساحر، وربّتها على حكاياتهم الخرافية.
في الشمال، كانت الحكايات والأساطير تُعامل كأنها تاريخ حقيقي، لأن كل القصص هناك كانت ملعونة. بعضها لا يمكن كتابته دون أن يشتعل الورق ، وبعضها لا يستطيع مغادرة الشمال، وكثير منها يتغيّر في كل مرة يُروى فيها، حتى يفقد واقعيته شيئًا فشيئًا. وكان يُقال إن كل قصة شمالية بدأت كحدث حقيقي، لكن لعنة القصص هناك شوّهتها مع الزمن، حتى لم يبقَ منها سوى شظايا من الحقيقة.
من بين القصص التي كانت "ليانا" ترويها لابنتها "إيفانجلين" كانت "أنشودة الرامي والثعلبة"—قصة رومانسية عن فتاة فلاحية ماكرة تستطيع التحوّل إلى ثعلبة، وعن الرامي الشاب الذي أحبّها، لكنه كان ملعونًا بلزوم مطاردتها وقتلها.
أحبت إيفانجلين هذه القصة، لأنها كانت ترى نفسها ثعلبة أيضًا، وإن لم تكن من النوع الذي يتحوّل إلى حيوان. وربما كان لديها إعجاب صغير بالرامي. كانت تطلب من والدتها أن تعيد سرد القصة ، و بما أن القصة ملعونة، كانت الأم تنسى نهايتها في كل مرة تقترب من ختامها. لم تستطع يومًا أن تخبر إيفانجلين إن كان الرامي قد قبّل فتاته الثعلبة وعاشا معًا بسعادة، أم أنه قتلها وانتهت قصتهما بالموت.
وكانت إيفانجلين تسأل والدتها دائمًا أن تخبرها فقط كيف تتصور نهاية القصة. لكن الأم كانت ترفض في كل مرة.
كانت تقول:
"أنا أؤمن أن هناك احتمالات أكثر بكثير من نهاية سعيدة أو مأساوية. كل قصة تحمل في داخلها إمكانيات لا نهائية للنهاية."
كرّرت الأم هذه الفكرة كثيرًا، حتى ترسّخت في قلب إيفانجلين، وأصبحت جزءًا من إيمانها العميق. ولهذا السبب شربت السم الذي حوّلها إلى حجر. لم يكن لأنها شجاعة أو بطولية، بل لأنها كانت تملك أملاً أكثر من معظم الناس.
جاك أخبرها أن خيارها الوحيد لنهاية سعيدة هو أن تبتعد، وأن شرب السم سيجعلها حجرًا إلى الأبد. لكن إيفانجلين لم تستطع تصديق ذلك.
كانت إيفانجلين تؤمن أن قصتها تحمل احتمالات لا نهائية للنهاية—ولم يتغيّر هذا الإيمان.
كانت تؤمن أن نهاية سعيدة ما تزال تنتظرها.
رنّ الجرس المعلّق على باب المكتبة. لم يُفتح الباب بعد، لكن الجرس بدا وكأنه شعر بدخول شخص مميز، فسبق الحدث برنين خفيف.
حبست إيفانجلين أنفاسها، تأمل أن يكون "لوك" هو من دخل. كانت تتمنى لو استطاعت التخلّص من هذه العادة. لكن ذلك الأمل الذي جعلها تصدّق أن النهاية السعيدة ما تزال ممكنة، هو نفسه الذي جعلها تؤمن أن "لوك" سيعود يومًا ما. لم يكن يهم كم من الأسابيع أو الشهور مرّت. فكلما رنّ جرس المكتبة، كانت تأمل.
كانت تعلم أن البعض قد يراها ساذجة، لكن من الصعب أن تتوقف عن حب شخص ما حين لا يوجد أحد آخر لتحبه بدلاً منه.
قفزت إيفانجلين بسرعة من على السلّم الذي كانت تقف عليه، واندفعت بين الزبائن المتجولين في الممرات. لم يكن "لوك" من دخل، لكن الزائرة كانت مفاجئة أيضًا.
"ماريسول" لم تزُر إيفانجلين في المكتبة من قبل. في الواقع، ماريسول بالكاد كانت تغادر المنزل، ونادرًا ما كانت تخرج من غرفتها، وكانت تبدو غير مرتاحة تمامًا لكونها فعلت الأمرين في هذا اليوم. كانت تعصر يديها المغلّفتين بالقفازات مع كل خطوة.
وبما أن المكتبة كانت سرية نوعًا ما، لم تكن تبدو مميزة من الخارج. مجرد باب بمقبض يبدو وكأنه سيسقط في أي لحظة. ومع ذلك، كان هناك نوع من السحر بمجرد أن تخطو إلى الداخل. إحساس بضوء الشموع عند الغروب، وغبار الورق العالق في الهواء، وصفوف ثم صفوف من الكتب الغريبة على رفوف ملتوية.
كانت إيفانجلين تعتز بها، لكن ماريسول كانت تتحرك بين الرفوف وكأنها تخشى أن تنهار فوقها.
خلال الأشهر الماضية، أصبحت "العروس الملعونة" جزءًا من الأساطير المحلية. لم تعد حفلات الزفاف تُقام في الحدائق، وإذا أُلغي زفاف، أصبح يُعتبر نذير شؤم...
نظرًا لأنها نادرًا ما كانت تخرج، لم يكن الناس يعرفون أن ماريسول هي "العروس الملعونة" الحقيقية. لكن إيفانجلين كانت ترى بوضوح كيف أن توتر خطوات أختها غير الشقيقة بدأ يثير القلق في نفوس الزبائن. خفَتَت الأصوات، وبدأ البعض يتجنب ماريسول عمدًا.
تابعت إيفانجلين السير نحوها بابتسامة، تأمل ألا تلاحظ ماريسول النظرات غير الودودة.
"ما الذي أتى بكِ؟ هل تبحثين عن كتاب؟ وصلتنا مجموعة جديدة من كتب الطبخ."
هزّت ماريسول رأسها بعنف تقريبًا.
"من الأفضل ألا ألمس شيئًا. قد يظن الناس أنني لعنت الكتب."
وألقت نظرة سريعة نحو الباب، حيث كان زوجان يغادران على عجل.
قالت لها إيفانجلين مطمئنة:
"هم لا يغادرون بسببك."
لكن ماريسول عبست، غير مقتنعة.
"لن أطيل البقاء. جئت فقط لأعطيكِ هذا."
ومدّت يدها بورقة حمراء فاخرة، مزخرفة بلفائف من ورق الذهب، ومختومة بشمع أحمر يحمل رمزًا.
"عندما رأيت الرسالة تُسلّم، شعرت أنها مهمة، وأردت التأكد من أن والدتنا لم تُخْفِها عنك."
وأخيرًا، ارتسمت على وجه ماريسول ابتسامة، فيها شيء من المكر الخفيف.
"أعلم أنني لن أستطيع تعويض الأسابيع التي كنتِ فيها حجرًا، لكن هذا شيء بسيط."
ردّت إيفانجلين، وهي تشعر بوخزة مألوفة من الذنب:
"لقد قلتُ لكِ من قبل، أنتِ لا تدينين لي بشيء."
كانت تفكر كل يوم في أن تخبر ماريسول بالحقيقة، لكنها لم تكن تملك الشجاعة الكافية بعد.
بين عمل إيفانجلين في المكتبة، وانعزال ماريسول في غرفتها، لم تتوطد العلاقة بينهما كثيرًا.
ومع ذلك، كانت ماريسول أقرب شخص إلى العائلة بالنسبة لإيفانجلين.
في يومٍ ما، ستخبرها بالحقيقة.
لكن ذلك اليوم لم يحن بعد.
ولم تمنحها ماريسول حتى فرصة الرد. فما إن سلّمت إيفانجلين الورقة الحمراء، حتى اختفت بنفس الطريقة التي جاءت بها، تاركةً إياها وحدها تفتح الرسالة الغامضة.
كانت الورقة فاخرة، بلون أحمر عميق، مزينة بزخارف ذهبية، ومختومة بشمع يحمل رمزًا ملكيًا.
عزيزتي الآنسة فوكس
أنا وأختي يسعدنا دعوتكِ لشاي بعد الظهيرة غدًا في بلاط طائر الطنان الملكي، الساعة الثانية. لقد أعجبنا بكِ من بعيد، ونود مناقشة فرصة مثيرة معكِ.
أطيب التحيات
سكارليت ماري دراغنا
إمبراطورة إمبراطورية الميريديان
تعليقات
إرسال تعليق