كان يا مكان قلب منهار ٥

الجزء الأول

قصة إيفانجلين فوكس

[الفصل الخامس]




لو كانت العواصف تُصنع من صحف الفضائح، وطوابير من السادة بربطات عنق، وملاحظات غامضة المصدر، لكانت العاصفة المثالية تقبع في عالم إيفانجلين في صباح اليوم التالي. لكنها لم تكن تعرف ذلك بعد.

كل ما كانت تعرفه هو الملاحظة ذات الأصل المريب، التي دفعتها للتسلل خارج البيت عند أول ضوء للفجر:

---------------

"قابلني.
في متجر الفضول.
أول شيء بعد شروق الشمس.
– لوك"

----------------

كاد قلب إيفانجلين ينفجر من شدّة الخفقان عندما وجدت الرسالة في غرفتها الليلة السابقة. لم تكن تعلم إن كانت رسالة جديدة أُرسلت للتو، أم قديمة لم تنتبه إليها إلا الآن. لكنها نامت وهي تعيد قراءتها مرارًا، متمنية أن تلتقي بلوك صباحًا، ومعه حكاية تختلف عن تلك التي سمعتها من ماريسول.

حديث الأمس مع ماريسول زعزع ثقتها، وكاد يقنعها بأنها خدعت نفسها في ما يخص لوك. لكن الأمل ليس من السهل إخماده؛ مجرد شرارة صغيرة كافية لإشعال النار. وهذه الرسالة منحت إيفانجلين تلك الشرارة من جديد.

كان والدها يملك أربع متاجر ونصف في مدينة فاليندا. النصف كان شراكة صامتة مع خيّاطٍ كان  يخيط أسلحة داخل الملابس.
وبنى كذلك مكتبة سرّية لا يدخلها أحد إلا عبر ممر خفي.
أما متجره في حي التوابل فكان مغطّى بإعلانات مطلوبة، مكتوبة كقصص جريمة غريبة وعبثية.

وكان له متجر ثالث ظلّ سرًا حتى عن إيفانجلين نفسها.
أما الرابع فكان الأحب إلى قلبها: متجر ماكسيميليان للفضول والعجائب والأشياء الغريبة.

هناك بدأت إيفانجلين العمل ما إن سمح لها والدها بذلك. كان يخبر الزبائن أن كل ما في الداخل يكاد يكون اسطورياً. لكنها كانت تؤمن حقًا بأن بعض ما مرّ من خلال متجره كان اسطورياً بالفعل. كم من مرة طاردت قطع شطرنج ضلّت طريقها بعيدًا عن رقعتها، وأحيانًا كانت اللوحات تغيّر ملامحها من يوم إلى آخر.

ضاق صدرها بشيء يشبه الحنين وهي تستدير إلى الشارع المرصوف بالطوب، حيث يقف متجر الفضول. كانت قد افتقدته طوال الأسابيع التي قضتها متحجرة من الحجر، لكنها لم تدرك حجم هذا الشوق إلا الآن. افتقدت الجدران التي لوّنتها أمها، والرفوف المزدحمة باكتشافات والدها، وجرس الباب—

توقفت إيفانجلين فجأة.

لقد أُغلق المتجر.
النوافذ المبطّنة بالنحاس أُغلقت بالألواح، والمظلّة اقتُلعت، واسم المتجر على الباب طُمس بطلاء عريض:

تحت إدارة جديدة
مغلق حتى إشعار آخر

"لا!" شهقت إيفانجلين. "ليس المتجر!" راحت تضرب الباب بيديها بقوة. كان هذا المتجر آخر ما تبقّى لها من والدها. كيف يمكن لأغنِس أن تفعل ذلك؟

"عذرًا يا آنسة " ظلّ ضخم لشرطي غطّى جسدها. "عليك أن تتوقفي عن الطرق."

لكنها أجابته بيأس:
"أنت لا تفهم… هذا المتجر كان لأبي—لقد أوصى به لي." وواصلت الطرق، كما لو أن الأبواب يمكن أن تنفتح بالإصرار وحده.
كأنه قد تُفتح بسحرٍ مفاجئ، وكأن لوك ينتظر خلفها، وكأنها لم تفقد للتو آخر ما تبقّى لها من والديها.
سألت بصوت متوتر:
"منذ متى أُغلق المتجر؟"

"آسف يا آنسة، أظن أنه أُغلق منذ ستة أسابيع تقريبًا و—"
لكن ملامح الشرطي الشاب أشرقت فجأة، وعيناه اتسعتا بدهشة:
"يا إلهي !  إنها أنتِ… أنتِ مُنقذة فاليندا المحبوبة!"
توقف لحظة ليمرر يده على شعره ويصففه بسرعة.
"إن لم يكن يزعجك قولي يا آنسة… فأنتِ أجمل حتى مما تصفه الصحف. هل تعلمين أين يمكن أن أحصل على واحدة من تلك الطلبات؟"

"طلبات… ماذا؟"
توقفت إيفانجلين عن الطرق، والقلق بدأ يتسرب إليها، بينما أخرج الشرطي ورقة مطبوعة بالأبيض والأسود من جيب بنطاله الخلفي.

            -------------------------------------
         صحيفة الهمس
  من الشوارع… إلى الحجر… إلى الشهرة:
       مقابلة مع منقذة فاليندا المحبوبة
             بقلم: كوتلاس نايتلنجر

إيفانجلين فوكس، ذات السبعة عشر عامًا، تبدو كأميرة من حكايات الأساطير، بشعرها الوردي المتلألئ وابتسامتها البريئة. لكنها لم تكن سوى يتيمة بلا والدين قبل أسابيع قليلة. حين قابلتها مؤخرًا، أخبرتني أنها لا تتذكر آخر مرة تناولت فيها طعامًا.

لم تُدعَ إلى حفل زفاف لوك نافارو وماريسول تورمالين—التي يعرفها الكثيرون بلقب "العروس الملعونة". ومع ذلك، حين صادفت التجمع وقد تحوّل كله إلى حجر على يد إحدى الاساطير، لم تتردد إيفانجلين في إنقاذ الحفل بأسره، بأن أخذت مكانهم وتحولت هي إلى تمثال.

قالت لي بهدوء:
"أظن أني فعلت فقط ما قد يفعله أي شخص آخر لو كان في موقفي. لستُ بطلة حقًا."

لقد كانت متواضعة للغاية، وكان من الصعب أن تدع الحديث يتركز على بطولتها الخاصة. لكن "منقذة فاليندا المحبوبة" بدت متحمسة للكلام عندما ذكرتُ والدة العروس الملعونة، أغنِس تورمالين، وخططها الكريمة لتبنّي إيفانجلين.

قالت إيفانجلين بابتسامة صغيرة:
"أشعر وكأن الرعب الذي مررتُ به يتحول إلى حكاية خيالية."

كما أضافت أغنِس أنها أخبرتني بأن إيفانجلين حريصة على المضي قدمًا في حياتها بأسرع وقت ممكن… وأنها تقبل الخطّاب عبر طلبات رسمية ليدها في الزواج—

  ----------------------------------------------------

"يا إلهي…" همست إيفانجلين وهي تجبر نفسها على ابتسامة مهزوزة للشرطي. "أنا آسفة، هذه الصحيفة مخطئة. لستُ أبحث عن خطّاب."
حتى الكلمة نفسها جعلتها ترتجف وهي تقولها. لم تتفاجأ؛ فقد عرفت منذ البارحة أن أحضان أغنِس وابتساماتها لم تكن صادقة. لكنها لم تتوقع أن تبادر زوجة أبيها ببيعها بهذه السرعة.

كان المارة قد بدأوا بالتوقف والتحديق. وبعض السادة المتحمسين بدوا وكأنهم يستجمعون شجاعتهم للاقتراب منها.

لو كان جاك حاضرًا، لاعتبر الأمر دليلًا على أنه أسدى لها خدمة بجعلها محطّ الأنظار. لكن هذا لم يكن ما تريده.

رمَت إيفانجلين صحيفة الفضائح في أقرب سلة مهملات، ثم أعادت النظر إلى رسالة لوك. لقد كانت قديمة، وعرفت الآن أنه لم يكن ليطلب منها اللقاء في متجر أغلق أبوابه منذ زمن.

لم تكن رغبتها في البكاء بقدر رغبتها في العودة إلى الماضي، إلى ما قبل كل شيء. إلى ما قبل أغنِس، وما قبل لوك، وما قبل أن تفقد والديها معًا. لم تكن تريد سوى عناقٍ آخر من أبيها، ولحظة إضافية لتمشط أمها شعرها. أما وجع غياب لوك، فلم يكن سوى خدش صغير مقارنة بالفراغ الذي خلّفه غياب والديها. نعم، كانت ما تزال تريد لوك، لكن ما أرادته حقًا هو حياتها القديمة، وكل الحب الذي فقدته.


                       ⭐⭐⭐

كان من الصعب ألا تشعر بالأسى وهي تخطو ببطء عائدة إلى البيت، ذاك البيت الذي لم يعد بيتًا منذ رحيل والدها. كانت عادةً تعشق المدينة: صخبها المتشابك، حركة ناسها المستمرة، ورائحة الكعك الطازج التي تتسلل من المخبز عند زاوية شارعها. لكن في ذلك المساء، كان الشارع يعجّ برائحة عطور غريبة، خانقة، لا تشبه شيئًا مألوفًا.

كانت الرائحة تصيبها بالغثيان، لكن ما جعلها تتجمد في مكانها هو المشهد أمام البيت: رجال متأنقون في أبهى المعاطف والقبعات والعباءات، مصطفّون على امتداد الطريق المؤدي إلى منزلها، حيث وقفت أغنِس على العتبة تستقبل الورود، والمديح، وأوراق الطلبات بابتسامة عريضة.

"إنها تقبل الخطّاب عبر طلبات ليدها في الزواج—"

قبضت إيفانجلين يديها في غضب. بعض الرجال بدوا جذّابين إلى حد ما، لكن كثيرين منهم كانوا في عمر والدها، أو حتى أكبر. لعلها كانت لتستدير وتغادر لو كان هناك مكان آخر تلجأ إليه، لكن متجر الفضول قد أُغلق بفضل أغنِس. والآن، لم تكن في مزاج للهرب، بل للمواجهة.

تقدمت نحو المنزل بابتسامة رقيقة متكلفة.

غردت أغنِس بصوت مفعم بالرضا : "ها هي ذي!" .

لكن إيفانجلين لم تمنحها الفرصة لتقول المزيد. استدارت بسرعة نحو الرجال ورفعت صوتها:
"شكرًا لكم جميعًا على حضوركم، لكنني أرغب في صرفكم جميعًا."
ثم توقفت لحظة، ورفعت ظهر كفها إلى جبينها وأغمضت عينيها بحركة درامية، كما كانت تفعل ممثلة في مسرحية حزينة شاهدتها مع والدها يومًا.
"لم أعد تمثالًا، صحيح… لكنني ما زلت ملعونة. أي رجل أقبّله سيتحوّل فورًا إلى حجر."

ترددت الهمسات في الأرجاء:
"حجر…"
"ملعونة!"
"يجب أن أرحل فورًا."

تفرّق الرجال مسرعين، ومع رحيلهم تلاشت واجهة اللطف المصطنع التي كانت ترتديها زوجة أبيها.

انقضّت أغنِس على كتفي إيفانجلين، وغرست أصابعها النحيلة فيهما.
"ماذا فعلتِ أيتها الفتاة البائسة؟ هؤلاء الخُطّاب لم يكونوا لك وحدك. كانت هذه فرصة ماريسول لتستعيد مكانتها من جديد!"

تألّمت إيفانجلين وهي تفلت نفسها من قبضتها. شعرت بوخزة ذنب تجاه أختها غير الشقيقة، لكن منذ الأمس… ماريسول لم تعد—

ولا لوك أيضًا.

قالت إيفانجلين بحدة:
"لا تتظاهري بأنني الشريرة هنا. ما كان يجب أن تفعلي هذا، ولا أن تبيعي متجر والدي. لقد أوصى به لي."

خطت أغنِس خطوة مهدِّدة وهي ترد:
"لقد كنتِ في حكم الميتة."

شحب وجه إيفانجلين. لم يسبق لزوجة أبيها أن ضربتها، لكنها لم تمسك بها من قبل كما فعلت اليوم. وأزعجها مجرد التفكير بما قد تفعله لاحقًا. فإذا رمتها أغنِس إلى الشوارع، فلن يكون لها مكان تلجأ إليه.

ربما كان يجدر بها التفكير في ذلك قبل أن تصرف الخُطّاب، لكن فات الأوان الآن على التراجع—ثم إنها لم تكن واثقة أنها كانت ستفعل غير ما فعلت.

قالت بصوت ثابت قدر ما استطاعت:
"أتمنى ألا يكون هذا تهديدًا يا أغنِس. فأنتِ لا تعلمين من قد يكون ما زال يستمع، وسيكون من المؤسف أن تصل حقيقتك إلى شخص مثل كوتلاس نايتلنجر."

اتسعت فتحات أنف أغنِس غيظًا.
"كوتلاس لن يحميكِ إلى الأبد. كان يجدر بك أن تعلمي كم سريعًا يتبدل اهتمام الشبان. كوتلاس إمّا سينقلب عليك، أو سينساك قريبًا… تمامًا كما نسيك حبيبك لوك."

كانت الطعنة مباشرة في صدر إيفانجلين.

ابتسمت أغنِس ابتسامة ظافرة، وكأنها كانت تنتظر الفرصة لتقول هذه الكلمات منذ زمن.
"كنت أنوي أن أُطلعك على هذا بعد أن تراه ماريسول، لكنني غيّرت رأيي."

مدّت يدها إلى طاولة الطلبات، وأخرجت ورقة مطويّة، ثم ناولتها لإيفانجلين.

بحذر، فتحتها إيفانجلين، لتجد فيها كلمات خطّت بخط مألوف:
   -----------------
"ماريسول، أثمن كنوزي،
ليتني لم أُضطر لوداعك بهذه الطريقة. لكنني آمل ألا يكون هذا فراقًا نهائيًا. سأغادر فاليندا بحثًا عن معالج، وعسى أن يكون لقاؤنا القادم قريبًا…
في المرة القادمة التي أرى فيها وجهك الجميل، سأكون ذلك اللوك الذي أحببتِه أول مرة، وسنكون معًا من جديد.
مع كل نبضة من قلبي—"

     ---------------

لم تستطع إيفانجلين متابعة القراءة. لم تكن بحاجة إلى الوصول إلى النهاية لتعرف أن الخطّ خط لوك.

كان لوك يكتب لها رسائل أحيانًا، لكنها كانت دومًا قصيرة، مثل تلك المذكرة التي وجدتها ليلة أمس. لم يسبق له أن ناداها "أثمن كنوزه"، ولا أن تحدث عن قلبه ونبضاته.

تمتمت بصوت مبحوح:
"هذا لا يمكن أن يكون حقيقيًا… ماذا فعلتِ به؟"

قهقهت أغنِس ببرود:
"يا لك من طفلة غبية حقًا. كان والدك يقول إنكِ تؤمنين بأشياء لا تُرى وكأنها هبة. لكن ربما حان الوقت لتبدئي بالإيمان بما ترينه أمام عينيك."

                         ⭐⭐⭐


عاشت عائلة لوك نافارو في طرف المدينة الراقي، حيث البيوت أكبر، والمسافات بينها أبعد. حيّ من النوع الذي كان يجعل إيفانجلين دائمًا تأخذ نفسًا عميقًا قبل أن تخطو نحوه.

في اليوم الذي أعلنت فيه ماريسول خطبتها إلى لوك، هرعت إيفانجلين إلى هناك. طرقت باب بيته بيقين أن لوك حين يفتح سيقول لها إن كل ما سمعته ليس سوى سوء فهم كبير.

كان لوك حبها الأول، قبلتها الأولى، وكان قلبها حين توقف قلبها عن النبض. لم يكن واردًا في خيالها أنه لا يحبها، بدا ذلك مستحيلًا مثل السفر عبر الزمن. كان هناك جزء منها يعرف أن الأمر قد يكون صحيحًا، لكن روحها كانت تصرخ لها بأنه ليس كذلك. كانت تنتظر من لوك أن ينفيه، أن يقول شيئًا… لكن لوك لم يقل شيئًا قط.

الخدم أبعدوها وأغلقوا الباب في وجهها. فعلوا الأمر ذاته في اليوم التالي، وفي كل يوم تلاه.

لكن اليوم… كان مختلفًا أخيرًا.

في ذلك اليوم، لم يجب أحد حين طرقت الباب.

لم تسمع إيفانجلين وقع خطوات في الداخل، ولا همسات أصوات. وحين وجدت فجوة صغيرة بين الستائر المسدلة، لم ترَ سوى أغطية بيضاء تُغطي الأثاث.

لقد رحل لوك وعائلته، تمامًا كما قال في رسالته.

لم تكن تعرف كم من الوقت بقيت واقفة هناك، جامدة أمام الباب. لكن في النهاية، عادت إلى ذهنها كلمات جاك، وتساءلت إن كان محقًا حين قال لها:
"لو كان يحبك فعلًا، لما تزوّج بغيرك. القصة انتهت."

                          ⭐⭐⭐





تعليقات

المشاركات الشائعة