لايت لارك | الفصل الثاني

 [2]
(الجزيرة)
---------


انغلقت البوابة خلفها بتموج خافت، خنق الهتافات فجأة، ولم يبق سوى أنفاس إيسلا المتقطعة. خطت خطوة واحدة إلى الأمام، فاندفعت نحوها أضواء كأنها آلاف النجوم والشموس المحتضرة، تعمي بصرها.

ترنحت قليلاً، فامتدت يد لتسندها.

قال صوت عميق، آسر كمنتصف الليل:  
"افتحي عينيك."

لم تكن إيسلا قد أدركت أنها أغمضتهما. رمشت، فاهتز العالم من حولها ثم استقر، وكان هذا الانتقال عبر البوابة أسوأ بكثير من استخدام عصا النجوم خاصتها.

الوجه الذي نظر إليها كان يحمل شيئًا من التسلية... ومن الألفة. كان طويلًا جدًا، حتى أن إيسلا اضطرت لرفع ذقنها لتلتقي بعينيه السوداوين كالفحم. شعره انساب كالحبر فوق جبينه الشاحب. لا شك أنه من عشيرة "نايتشيد" ، وهذا يعني .....

قالت إيسلا بحزم: "شكرًا لك. غريمشو"  

سارعت لتعتدل في وقفتها، ونظرت حولها، تأمل ألا يكون أحد قد رأى تعثرها. كانت تكاد تسمع صوت بوبي وتيرا في أذنيها، يوبخانها.

لكن لم يكن على الجرف أحد سواها وسيد "نايتشيد".  
استدارت، فخرج صوت مكتوم من حلقها.  
البحر كان يزمجر بعنف على بعد مئات الأقدام تحتها. كانت على وشك أن تسقط فوق الصخور البارزة، وتنهي كل خططها لإنقاذ شعبها قبل أن تبدأ "المائوية".

تنهي كل شيء.

قال حاكم "نايتشيد" بابتسامة كشفت عن غمازة واحدة، بدت غريبة تمامًا وسط ملامحه القاسية:  
"كان ذلك ليكون مزعجًا."  
ثم أضاف: "ناديني غريم، إيسلا."

غريم. يا له من اسم كئيب، فكرت إيسلا، لكنه يُقال بفخر.  
ومع ذلك، الاسم يليق به.  
كان هناك شيء قاتم خلف تلك الابتسامة، ظل خافت قد يتحول إلى وحش في الظلام.

قالت: "هل التقينا من قبل؟"  
لم يكن الأمر أنه يعرف اسمها، فذلك متوقع.  
ولا حتى أنه نطقه بدقة، كهمسة أفعى، تُلفظ كل حرف فيه.  
كان هناك شيء آخر...

تلاشت ابتسامته قليلًا.  
"لو كنا قد التقينا..."—انخفضت عيناه للحظة—"لما كان ذلك مرة واحدة فقط."

شعرت إيسلا بحرارة تتصاعد في وجهها تحت نظرته.  
باستثناء لقاءات نادرة ومراقبة بدقة، أو رحلاتها السرية إلى الأراضي الجديدة باستخدام عصا النجوم، لم تكن تقضي وقتًا كثيرًا مع الرجال.

خصوصًا رجال يشبهونه.

خصوصًا رجال لا يبدو عليهم الخوف منها ومن لعنة "الوايلدلينغ".

قطبت حاجبيها. كان عليه أن يخاف.  
فـ"الوايلدلينغ" إن أرادو، يستطيعون أن يجعلوا أحدهم يقفز من فوق الجرف لمجرد مطاردتهم.  
قوة الإغواء لديهم لا تُقاوم، رغم أنها ممنوعة خلال أيام المناسبة المئوية.  
يبدو أن سيد "نايتشيد" يظن نفسه في مأمن.

لكنه ليس كذلك.

كل مناسبة في "الذكرى المئوية" كانت أشبه بلعبة ضخمة، فرصة للحصول على قدرات لا مثيل لها.  
وكان يُقال إن من يكسر اللعنات ويحقق النبوءة، يُمنح كل القوة التي استُخدمت في لصنع المناسبة—الجائزة القصوى.

هل كانت مغازلته لها محاولة لتشتيت انتباهها؟

حدّقت إيسلا فيه بنظرة صارمة ،فابتسم غريم ابتسامة واسعة.

مثير للاهتمام.

كل مئة عام، ومنذ أن أُطلقت اللعنات، تظهر جزيرة "لايتلارك" لمدة مئة يوم فقط، محررة من العاصفة التي لا يمكن اختراقها. يُدعى حكّام كل مملكة للسفر من الأراضي الجديدة التي استقروا فيها بعد فرارهم من "لايتلارك"، لمحاولة كسر اللعنات التي تقيد قواهم والجزيرة نفسها.

كل الممالك... باستثناء "نايتشيد".

فـ"النايتشيد" يمتلكون القدرة على نسج اللعنات، مما يجعلهم المشتبه بهم الرئيسيين في كونهم من صنعها أساسًا، رغم إنكارهم لذلك.  
ويبدو أن ملك "لايتلارك" هذا العام كان يائسًا.

فهذا أول احتفال "مئوي" يُدعى إليه "نايتشيد".

أمسك غريم بذراعها مرة أخرى. وقبل أن تعترض إيسلا، حرّكها بلطف إلى الجانب.
  
وبعد لحظة، توهج الرمز الضخم على حافة الجرف—شعار يمثل الممالك الست—بلون ذهبي، وظهر شخص آخر من العدم، في نفس المكان الذي كانت تقف فيه إيسلا.

عباءة زرقاء باهتة تصدعت بفعل الريح قبل أن تستقر على كتفين عاريين داكنين جدًا، وذراعين عضليين.  
كان للرجل حاجبان أكبر من عينيه، وذقن منحوت، و لحية مشذبة بإتقان تحيط بفمه الوردي.  
أزول، حاكم "سكاي لينغ".  
إيسلا تعرف أسماءهم منذ أن بدأت بالكلام.  
أزول وغريم كلاهما من القدماء، تجاوزا الخمسمئة عام.  
كانا على قيد الحياة يوم أُطلقت اللعنات.  
أساطير حية—وبالمقارنة بهما، كانت إيسلا لا شيء.

ويبدو أن قرونًا من الزمن لم تكن كافية ليصبح أزول وغريم صديقين.  
اكتفى "السكاي لينغ" بإيماءة مقتضبة نحو "النايتشيد"، فانعكست ابتسامة غريم إلى شيء شرير... ساخر.  
ثم التفت أزول نحو إيسلا، وانحنى لها بكامل جسده، مادًا يده نحوها.

قال: "من الجيد أن نرى دمًا جديدًا من الوايلدلينغ في هذا الاحتفال المئوي."  
التقت عيناه اللامعتان بعينيها، ثم انتقلتا إلى أصابعها، المغطاة بخواتم تحمل أحجارًا كريمة بحجم حبّات البلوط.  
ورغم أن بقية الممالك ينظرون إلى "الوايلدلينغ" كمتوحشين، إلا أن ثروتهم لا جدال فيها.  
فالسيطرة على الطبيعة لها مزاياها.  
قال بدهشة: "لم أرَ ماسة بهذا الحجم من قبل."

أما بالنسبة لإيسلا، فكانت مجرد حجر.  
جميل، نعم، لكن لا شيء في أرض "السبيدز" بدا مميزًا أكثر من اللازم.  
فالأحجار الكريمة هناك تُخلق عندما تُمارس قوة عظيمة على الطبيعة، وعلى مدار القرون، كانت تلك الجواهر اللامعة تتفتح تحت الأرض في أرض "الوايلدلينغ"، ثم ترتفع تدريجيًا، وتزهر مثل الزهور.  
كان من الصعب على إيسلل أن تخطو في تلك الأراضي دون أن تتعثر بإحدى الأحجار الكريمة، رغم أنها لم تعرف تلك الأرض إلا من الكتب، لا من التجربة.

على الأقل، كما تعتقد تيرا وبوبي.

كانت تيرا تقول دائمًا إن تلك الصخور المتلألئة هي السبب في وفرة القلوب لديهم.  
لصوص من عوالم أخرى—حمقى، جريئون، وشرسون—يتسللون إلى أراضيهم طمعًا في الألماس.

ابتسمت إيسلا.  
إذًا، "السكاي لينغ" يحب الجواهر.  
نزعت الخاتم من إصبعها بانسيابية، ومررته إلى أطول أصابع أزول دون أن تتردد.  
"يليق بك أكثر مما يليق بي."

بدا أن أزول على وشك الاعتراض... لكنه لم يفعل.

ثم ظهرت شخصية أخرى، تخطّت الجميع بخفة، وكأن عبور البوابات لا يختلف عن مدّ البحر.  
استدارت نحو إيسلا.  
وكان عبوسها يأتي بسهولة، كما تأتي الابتسامة لمعظم الناس.  
قالت ببرود: "إذًا، هذه هي الحيوية الجديدة؟"

شعلة صغيرة اشتعلت في صدر إيسلا.  
فبقية العوالم كانت ترى المحاربات من "الوايلدلينغ" كإغواءات متوحشة، مفترسات تغوي العشاق... ثم تلتهم قلوبهم.
ولم يكن بوسع إيسلا أن تلومهم حقًا.  
فما يعتقدونه... يكاد يكون صحيحًا.

لكن "الوايلدلينغ" كانوا أكثر من ذلك بكثير.  
على الأقل، كانوا كذلك. وربما لا يزالون قادرين على أن يكونوا.

ورغم أن جزءًا منها أراد أن ترد بكلمات ستندم عليها لاحقًا،  
كانت إيسلا تعرف أن الحاكمة تريد منها أن تهاجم.  
كانت تحاول استفزاز الوحش الكامن فيها، لتُظهر للآخرين أنها ليست سوى مخلوقة متعطشة للدماء.  
لكن بدلًا من ذلك، انحنت إيسلا.  
وقالت باحترام خافت: "شرف لي لقاؤك، كليو."

كليو كانت الأقدم بينهم، حتى أقدم من ملك "لايتلارك" نفسه، الذي يحكم أيضًا "السَنلينغ".  
عمرها كان يتناقض مع وجهها الناعم، الشاب.  
ورغم أن معظم الحكّام تجاوزوا مئات السنين،  
كان من الصعب التمييز بينهم وبين إيسلا.  
تقريبًا.

وبدلًا من أن تطلق إهانة أخرى،  
اكتفت كليو برفع ذقنها نحو إيسلا، ونظرت إلى فستانها الأخضر وكأنها ظهرت على الجزيرة عارية.  
وبالمقارنة مع لباس "المونلينغ"، ربما كانت كذلك.  
فثوب كليو الأبيض كانت أكمامه طويلة كأشعة القمر الحليبية،  
وفتحة عنقه تصل حتى ذقنها،  
وتنورة تغطي ثلاثة أرباع جسدها بالكامل.  
والجلد الذي استطاعت إيسلا رؤيته كان ناصع البياض، حتى أن عروقها الزرقاء بدت كخطوط من الضوء على لوح من الرخام الأبيض.  
لم تكن فقط أفتح منها بدرجات كثيرة، بل أطول أيضًا.  
وجهها طويل، حاد في ثلاث نقاط—عظام الوجنتين والذقن—منحوت كألماسة.

توهّج الشعار للمرة الأخيرة، وظهرت فتاة جديدة، تتقدّم بخطوة متعثرة بالكاد تُلاحظ.  
كانت فضية كنجوم الليل، من شعرها الطويل المسترسل، إلى فستانها المتلألئ، إلى قفازَيها اللذين وصلا حتى مرفقيها.  
ابتسمت بخجل، واتسعت ملامح وجهها القلبي الشكل، ثم اعتدلت في وقفتها.  
قالت: "أعتقد أنني آخر من وصل؟"

وجهت كليو نفورها مباشرة نحو الفتاة.  
فحاكمة "ستارلينغ"، مثل إيسلا، كانت جديدة.  
ولعنة "ستارلينغ" كانت من أقسى اللعنات—لا أحد في مملكتهم يعيش بعد سن الخامسة والعشرين.

تقدّمت إيسلا ومدّت يدها.  
"سيلست، صحيح؟"

ابتسمت "الستارلينغ" بحرارة.  
"مرحبًا، إيسلا."

قال غريم: "ساحرة بالفعل"، وانحنى لها بانحناءة بدت وكأنها تسخر من تلك التي قدّمها أزول قبل لحظات.

قطّب "السكاي لينغ" حاجبيه للحظة، ثم مدّ أصابعه نحو سيلست، وقد بدأت تتلألأ بـألماسة إيسلا.  
قال أزول وهو يتأملها: "دم جديد آخر. لدي شعور جيد تجاه هذا الاحتفال المئوي."

رفعت كليو حاجبًا نحوه.  
"من الأفضل أن تأمل ذلك"، قالت وهي تشير برأسها نحو سيلست.  
"لأنها لن تكون هنا في الاحتفال القادم."

تغيرت ملامح "الستارلينغ"، وانكمش وجهها.  
أما "المونلينغ"، فاكتفت بأن استدارت، وعباءتها البيضاء ترفرف خلفها بخفة.

قال أزول وهو يغمز: "لا تشعري بأنك مميزة جدًا. فهي بهذا الجفاء مع الجميع."

بدأ الحكّام السير نحو القصر، وقلب إيسلا تعثر من فرط الترقب.  
كانت منشغلة بهم إلى درجة أنها لم تنتبه حقًا لما حولها.  
طوال بقية القرن، كانت الجزيرة محاطة بعاصفتها.  
لكن الآن... انقشعت الغيوم.

"لايتلارك" كانت شيئًا لامعًا، صخريًا، أخّاذًا.  
منحدراتها بيضاء كالعظام،  
والشمس تنهمر عليها كستائر من الذهب المغبش.  
كانت إحدى منابع القوة الأصلية،  
وأرضها لا تزال تنبض بها، تغني لإيسلا بأغنية صفير خافتة، كنداء حورية.

كانت تشعر بتلك القوة في كل خطوة، كل نفس.  
تشربت إيسلل الجزيرة بنهم، كما لو كانت شيئا لم يُسمح لها بتذوقه قط.
نبيذ...  
بالقدر نفسه من الإغراء والخطر.

كانت دروس بوبي تتردد في ذهن إيسلا، حقائق مكتوبة على الورق أصبحت الآن واقعية، ملموسة أمام عينيها.

قبل آلاف السنين، قُطّعت الجزيرة إلى عدة أجزاء، كي تتمكن كل مملكة من المطالبة بجزء منها.

غادر "النايتشيد" الجزيرة بعد ذلك بوقت قصير، ليؤسسوا أرضهم الخاصة.  

أما "الوايلدلينغ"، فقد رحلوا بعد أن أُطلقت اللعنات.  
الأجزاء التي بقيت كانت: جزيرة النجوم لـ"الستارلينغ"، جزيرة السماء لـ"السكاي لينغ"، جزيرة القمر لـ"المونلينغ"، وجزيرة الشمس لـ"السَنلينغ".  
ثم كانت هناك "الأرض الأم"، حيث اعتادت جميع الممالك أن تجتمع.  
وهي قاعدة الاحتفال المئوي.

وكانت أيضًا، تاريخيًا، موطنًا لملوك "لايتلارك".

قلعة "الأرض الأم" كانت تلوح في الأفق، شامخة فوق الجرف كجوهرة تاج، تمتد بخطورة فوق البحر.  
كبيرة بما يكفي لتكون مدينة بحد ذاتها.  
وهذا جيد، نظرًا لأن ساكنها الرئيسي لا يستطيع مغادرتها.

على الأقل... ليس خلال النهار.

لا بد أن إيسلا كانت تحدّق بها، لأن سيلست تنهدت بجانبها وقالت بهدوء:  
"هل تعتقدين أنه يراقبنا؟"

هو.  
حاكم "السَنلينغ" وملك "لايتلارك".  
آخر من تبقّى من "الأصول"، بدم يجري فيه من كل واحدة من الممالك الأربع التي لا تزال حاضرة على الجزيرة.  
كان بوسعه أن يتحكم في قوى "لايتلارك" الأربعة جميعها.

وبحسب كل الروايات... كان لا يُطاق.

في "لايتلارك" وما بعدها، كان للحب ثمن.  
الوقوع في حب عميق وصادق يعني تكوين رابطة تمنح الطرف الآخر وصولًا كاملًا إلى قدراتك.  
يمكنه أن يستخدمها، يرفضها، بل حتى يسرقها.

وبما أنه يعرف تمامًا كم من الناس يتوقون إلى نبع قوته الذي لا ينضب،  
كان حاكم "لايتلارك" لا يثق بأحد.  
مرتابًا. باردًا.  
وكانت إيسلا تهاب لقائه.  
خصوصًا وأن أول خطوة في خطة بوبي وتيرا... تبدأ به.

حدّقت مجددًا نحو القلعة، وقاومت رغبة في التراجع.  
وبدلًا من ذلك، كسرت قناع المجاملة، ولوّحت بإشارة فظة نحو القصر.

اللعبة بدأت رسميًا.

قالت سيلست: "آمل ذلك."

كان الحشد ينتظرهم عند أبواب القلعة.  
"ستارلينغ"، "مونلينغ"، "سكاي لينغ".

في ليلة اللعنات، قبل خمسمئة عام،  
مات الحكّام الستة جميعًا.  
وانتقلت سلطتهم ومسؤولياتهم إلى ورثتهم،  
وجميعهم—ما عدا الملك الجديد—فرّوا من الجزيرة...

الاضطراب دفعهم إلى إنشاء "الأراضي الجديدة"، على بُعد مئات الأميال من الجزيرة، ومن بعضهم البعض.

لكن بعض الرعايا ظلّوا في "لايتلارك".

ذات مرة، سألت إيسلا "شيخة الوايلدلينغ" لماذا قد يبقى أحد في العاصفة الملعونة التي تكاد لا تهدأ أبدًا.

قالت لها:  
القوة تسري في دماء الجزيرة وعظامها.  
"لايتلارك" تطيل أعمارنا، وتمنحنا وصولًا إلى قوة تفوق ما نملك.  
وأكثر من ذلك... بالنسبة للكثيرين، "لايتلارك" هي الوطن.

لكن لم يبقَ أي من "الوايلدلينغ".  
لن تجد عونًا من شعبها.

كانت وحدها.

قال صوت عميق ساخر بجانبها:  
"لا تقلقي، ليس لدي معجبون أيضًا."

كان الحشد يراقب غريم بمزيج من الخوف والازدراء—وإيسلا كانت تراقب ردودهم بعناية.  
كان يبدو كأن الليل قد اتخذ شكلًا بشريًا، وملابسه نسجت من ظلٍ حريري.  
وإن كان يُنظر إلى "الوايلدلينغ" بازدراء في "لايتلارك"،  
فـ"النايتشيد" كانوا يُكرهون علنًا.  
وبحسب دروس تيرا وبوبي، لم يُقبلوا يومًا بشكل كامل على الجزيرة.  
كان لهم أرضهم الخاصة، حصن حافظوا عليه لآلاف السنين ، و لم تكن الحرب بين "نايتشيد" و"لايتلارك" تُحسّن الأمور.

إيسلا لم تلتقِ بنظراته، رغم أنها شعرت بعينيه تلتفّان حولها. 
كان ذلك مربكًا.  
جلدها ارتجف بشحنة كهربائية غامضة.  
قالت، وهي تبتسم للحشد بابتسامة مهذبة:  
"أنا متأكدة أنك تحظى بالكثير من الاهتمام في موطنك."

كانت تختبر ردود فعلهم تجاهها.  
بعضهم ردّ التحية بتحفّظ،  
والبعض الآخر تراجع بوضوح عند رؤيتها—المغوية التي تلتهم القلوب.  
لم تتفاجأ.  
فكل ما تمثّله... كان محرّمًا.

امرأة من "المونلينغ" غطّت عيني طفلها، ورسمت شكلاً في الهواء، وكأنها تطرد شيطانًا.

قال غريم، معترفًا:  
"أجل، أحصل على الكثير... ومع ذلك، أبقى غير راضٍ."

تجاهلته إيسلا.  
لن تدخل لعبته، أيًّا كانت.  
فلديها لعبتها الخاصة.

داخل القلعة بدا وكأن الشمس انفجرت في قلبها،  
تغمر الجدران بضوءها—تحية لـ"السَنلينغ" الذين بنوها.  
كل شيء كان ذهبيًا.  
ضوء الشمس الدافئ انسكب من النوافذ الطويلة،  
يغمر البهو ببريق متلألئ ينعكس على الأرضية المصقولة اللامعة.  
أغمضت إيسلا عينيها قليلًا، وكأنها لا تزال في الخارج.  
نار هادرة كانت تشتعل في حلقة عالية فوقهم على الثريا تتوهج، لكن بدلًا من البلّور، كانت النيران تتصاعد من أطرافها.

لم يكن حاكم "السَنلينغ" حاضرًا لاستقبالهم.  
ولم يكن بوسعه أن يكون، حتى لو أراد ذلك—وإيسلا كانت تشك في أنه يرغب أصلًا.  
فـ"السَنلينغ" قد لُعنوا ألا يشعروا بدفء الشمس، ولا يروا نور النهار.  
أُجبروا على تجنّب ما يمنحهم قوتهم.  
ملك "لايتلارك" كان محاصرًا في ظلمة حجراته، لا يظهر إلا ليلًا.  
وفي ذلك، رأت إيسلا شبهًا بينهما.  
فهي أيضًا قضت وقتًا طويلًا محبوسة في الداخل.

امرأة ترتدي فضة "الستارلينغ" انحنت أمامهم.  
وخلفها، مجموعة صغيرة من الخدم كرّروا حركتها.  
كل حاكم يُمنح مرافقًا خاصًا طوال فترة الاحتفال المئوي.  
قالت المرأة: "سيكون من دواعي سرورنا أن نرافقكم إلى حجراتكم."

اقتيد كل حاكم إلى جزء مختلف تمامًا من القلعة.  
بعيدًا عن الآخرين.  
لم تكن إيسلا تعرف ما الذي يجب أن تفكر فيه حيال ذلك.  
لكنها تذكّرت ما علّمَتها تيرا:  
في الاحتفال المئوي، لا شيء يحدث صدفة.  
كل تفصيل... مقصود.

اقتربت منها فتاة صغيرة من "الستارلينغ"، بخطوات جانبية مترددة،  
كما يقترب طفل من أفعى ملتفّة.  
قالت بصوت خافت، حتى أن إيسلا اضطرت للانحناء لتسمعها:  
"سيدتي..."
وهو ما جعل الفتاة ترتجف أكثر.  
قاومت إيسلا رغبتها في أن تدور بعينيها.  
هل كانت الفتاة تظن حقًا أنها ستلتهم قلبها وسط البهو؟  
نعم، جنسها كان بريًّا... لكنهم ليسوا وحوشًا.

قالت بنبرة هادئة: "اتبعيني."

ثم أضافت، وهي تخاطب ظهر الفتاة المتيبّس التي كانت تسرع مبتعدة بصعوبة واضحة:  
"إيسلا. يمكنك مناداتي بإيسلا."

همست الفتاة دون أن تلتفت:  
"كما تشائين."

قادتها عبر سلّم واسع يتوسط القلعة، ثم إلى شبكة مستحيلة من الممرات المتشابكة، تتقاطع وتعلو كأنها جسور معلّقة.  
لكن، على عكس قصرها في أرض "الوايلدلينغ"،  
كلما تعمّقت أكثر، ازدادت القلعة انغلاقًا.  
ذكّرتها بكهف... أو بسجن.

تخيلت الملك فجأة كوحش قديم، محاصر في الظلام،  
تائهًا في متاهة قلعته.

وصلتا إلى ممر بلا نافذة واحدة.  
الجدران ازدادت سماكة، والهواء صار أبرد.

توقفت الفتاة أمام باب حجري عتيق.  
وبكل ما بدا أنه جهدها الكامل، دفعته ببطء...

شخص ما تمكّن من زرع شجرة في قلب الغرفة—شجرة بلوط تتفتح عليها زهور بلون الخجل، وتثمر فاكهة لم تتعرّف عليها إيسلا، جذورها مغروسة في أرضية الحجر مباشرة.  
اللبلاب كانت تتسلّق السقف في نمط جميل، تقود إلى الجدار الذي تستند إليه سريرها، والمغطّى بأوراق حتى الأرض.

لكن كان هناك المزيد.  
سارت إيسلا عبر الغرفة حتى وصلت إلى شرفة واسعة ملتفّة، تمتد فوق البحر مباشرة.  
بشكل خطير.  
الأمواج كانت تغلي تحتها.  
القلعة بدت كطفل فضولي جاثم على قمة الجبل، يميل أكثر مما ينبغي نحو الحافة.

قطّبت إيسلا حاجبيها.  
"هل هذا متين فعلًا؟"  
بدا وكأن الشرفة قد تنهار في أي لحظة، أو أن القلعة نفسها قد تنزلق عن الجرف خلال عاصفة.

قالت الفتاة:  
"بمتانة الملك نفسه، على ما أظن."

صحيح.  
إيسلا كانت تعرف ذلك من دروسها.  
ملك "لايتلارك" لا يتحكم في القوة فحسب—بل هو القوة ذاتها.  
إن حدث له شيء، ستنهار الأرض كلها، وتسقط كل ممالك "لايتلارك".

لهذا كان يمشي بحذر.  
ليس خوفًا من الموت،  
بل خوفًا من أن يُسرق منه ذلك السلطان الرهيب... من تحت قدميه.

تشابه آخر.  
إيسلا لم تكن قادرة على الوقوع في الحب أيضًا.

أو بالأحرى، كانت تستطيع...  
لكن الجميع كان يخاف من أن تحبهم "وايلدلينغ".  
فلعنتهم تجعل الحب حكمًا بالإعدام.

ليسوا بالضبط مادةً مناسبة للرومانسية، بصراحة.

ولم يكن الأمر مشكلة حتى الآن، في حياة إيسلا القصيرة والمضبوطة.  
لكن الآن—في منتصف الطريق— فكرت كم سيكون الامر قاسيًا لملكٌ خاف من الحب لأكثر من خمسمئة عام؟

ويبدو أنها ستكتشف ذلك قريبًا.

قالت فتاة "الستارلينغ" قبل أن تبدأ في تحريك النار الهائلة المشتعلة أمام سرير إيسلا:  
"العشاء عند الرنّة الثامنة."

قالت إيسلا:  
"النار مشتعلة بما يكفي. لا تجهدي نفسك."

لكن الفتاة تابعت، تحرّك الفحم بخبرة واضحة.  
"الملك أمر بأن تبقى النيران مشتعلة باستمرار."

يا له من أمر غريب، فكّرت إيسلا.  
وقبل أن تسأل عن السبب، كانت الفتاة قد عبرت الغرفة،  
انحنت مرة واحدة، ثم أغلقت الباب خلفها بسرعة.

كانت إيسلا قد انتهت للتو من تفقد حمّامها—أوسع بكثير من ذاك الذي في موطنها، وفيه حوض كبير بما يكفي لتسبح فيه ذهابًا وإيابًا—  
حينها، دوّى طرقٌ خفيف على بابها.

فتحت إيسلا الباب بتردد.

ووجدت سيلست واقفة هناك.

على الفور، ألقت إيسلا ذراعيها حول حاكمة "الستارلينغ".  
قفزتا في دائرة صغيرة، تتعانقان وتضحكان بشدة،  
حتى أن إيسلا ركلت الباب ليغلق، كي لا يتردد صوته في الممر.

رفعت سيلست حاجبًا وقالت، مقلّدة إيسلا بشكل مفاجئ وغير جذّاب:  
"سيلست، صحيح؟"  
ثم ألقت برأسها الفضي إلى الخلف وضحكت.

تصلّبت ابتسامة إيسلا، تتساءل إن كانت قد بدت غير مقنعة بما يكفي.

"هل تعتقدين أنهم—"

قاطعتها سيلست:  
"لا يشكّون في شيء."  
ثم نقرت بلسانها، ومدّت يدها لتسحب خصلة من شعر إيسلا.  
"ظننت أنك ستقصّينه."

تنهدت إيسلا:  
"حاولت. لكن بمجرد أن رأت بوبي المقص، كادت تطعنني به. صادرت كل مجموعة في غرفتي."

قالت سيلست، رافعة حاجبها:  
"صادرت؟ ، هل أحتاج أن أذكّرك بأنك حاكمة مملكتك؟"

ضحكت إيسلا، لكن بلا مرح.  
ثم استدارت لتتابع السير في عمق الغرفة، ومدّت سيلست يدها مباشرة نحو ظهر إيسلا.  
"أحضرتِه؟"

لمحت إيسلا انعكاسها في المرآة.  
كان هناك وهج خافت يمتد على طول عمودها الفقري—لا بد أنه بفعل وجود سيلست.  
تمتمت بلعنة خفيفة، تأمل ألا يكون أحد قد لاحظ،  
ثم أخرجت عصا النجوم.  
"لم أستطع تركها خلفي."

قطّبت سيلست حاجبيها.  
"هذا خطر. أخفيها جيدًا."  
وكانت محقّة.  
لو اكتشف أحد أن إيسلا تملك تلك التعويذة، فستُفضَح تحالفهما السري.

كانت إيسلا قد وجدت عصا النجوم بين أغراض والدتها قبل خمس سنوات.  
وكانت أكثر يأسًا للحرية من خوفها من أن تُنقل إلى مكان مجهول،  
فجابت الأراضي الجديدة في الممالك لأشهر،  
حتى التقت بسيلست.  
وكان ذلك أول لقاء بينهما.

عرفت سيلست فورًا أن العصا أثرٌ قديم من مملكة "الستارلينغ".  
أما إيسلا، فلم تكن تعرف كيف وصلت العصا إلى يد والدتها قبل وفاتها.  
وسيلست، التي فقدت عائلتها منذ زمن بعيد بسبب اللعنة التي تقتل كل من في مملكتها عند بلوغ الخامسة والعشرين،  
لم تكن تعرف أيضًا.

ورغم أن العصا تنتمي إلى "الستارلينغ"،  
لم تطلبها سيلست يومًا.  
ومن هنا بدأت صداقتهما—حاكمتان من عالمين، و أراضين تفصلها مئات الأميال، لكن يجمعها شيء واحد:  
كلاهما بحاجة ماسّة لكسر اللعنات في هذا الاحتفال القرني.

بالنسبة لسيلست، كسر اللعنة يعني الفرق بين الحياة والموت.  
ليس لها فقط، بل لشعبها بأكمله.

أما إيسلا، فالأمر كان أكثر تعقيدًا.  
لا أحد يدرك كم تقلّصت مملكتها.  
مات من "الوايلدلينغ" أكثر بكثير مما وُلد.  
قواهم ضعفت مع كل جيل.  
الغابات انكمشت.  
الحيوانات انقرضت.  
وبالوتيرة التي تتدهور بها أرضها وشعبها،  
لن يبقى أي "وايلدلينغ" في الاحتفال القادم.

لم توافق إيسلا يومًا على خطة بوبي وتيرا.  
كانت معقدة أكثر من اللازم.

ومهينة أكثر مما تحتمل.

لذلك، وضعت خطة جديدة... مع سيلست.

قالت صديقتها بعد أن تأملت الغرفة جيدًا:  
"يجب أن أذهب.  
وللتاريخ، غرفتك أجمل من غرفتي.  
رغم أن غرفتي ليست في زاوية قديمة وباردة من القلعة."

دارت عينا إيسلا.  
"أراكِ على العشاء."

استدارت سيلست نحو الباب، وارتسمت على وجهها ابتسامة ماكرة.  
"وهكذا... تبدأ اللعبة."

تعليقات

المشاركات الشائعة