لايت لارك | الفصل الثالث
[3] ( دماء)
حين فتحت إيسلا الأبواب المزدوجة وحدّقت في السماء ، كانت الشمس قد انحدرت، لم يبقَ منها سوى كتلة صفراء، نصفها ابتلعته الأفق.
كانت تتهيأ للخروج، ترتدي قميص نومٍ خفيف.
الستائر البيضاء الشفافة تراقصت مع النسيم، لامست ذراعيها، ونسابت على ركبتيها العاريتين، وداعبت أطراف قدميها.
تسللت إلى الشرفة، والحجر البارد يلسع أخمص قدميها. تنفّست ملح البحر ورائحة الطحالب.
تسلّقت بحذر الحافة الحجرية العريضة، وضمت ركبتيها إلى صدرها. وكما كانت تفعل في غرفتها حين تكون وحيدة، حين يشتد بها القلق أو يطوقها الشعور بالوحدة، بدأت تغني.
الغناء كان شيئًا بريًّا، إغوائيًّا، كأنّه من نسل الحوريات البحريات. صوت إيسلا لم يكن عاديًا، بل كان كالحلم، عميقًا وساحرًا. وكانت تعرف ذلك تمامًا...
أحبت الصوت. أحبّت كيف يمكن لصوتها أن يغوص عميقًا كقاع المحيط. لم تكن بحاجة إلى موسيقى. البحر أسفلها كان آلةً كافية، بأمواجه التي ترتطم بعنف بجروف الجزيرة البيضاء، وكأنها تحاول أن تتأملها عن قرب.
غنّت وغنّت، بكلمات لا معنى لها، بألحان تتراقص وتعلو وتخفت، كأنها ترسم على لوحة لا تنتهي. غنّت للبحر، للقمر، للظلام الصاعد. لأشياء لم تكن تراها من خلف نوافذها المطلية في مملكة الولديلينج. وفي النهاية، أنهت غناءها بنغمة عالية، مدّتها قدر ما استطاعت دون أن تأخذ نفسًا آخر. ابتسمت لنفسها، دائمًا ما تدهشها الأصوات التي تخرج منها، ودائمًا ما تشعر بالراحة حين تسكن تلك الأصوات حتى أظلم أفكارها.
ثم جاء التصفيق.
استدارت إيسلا بسرعة لترى رجلًا يقف في شرفةٍ أخرى، على بُعد أمتار، مخفية في عمق القصر حتى أنها لم تلحظها من قبل.
شبه عارية، و تبدو ملابسها الداخلية، ومباغتة تمامًا، شهقت أيسلا.
دارت بسرعة، مذعورة. راحت ذراعاها تتأرجحان بجانبها كدواليب الريح، لكن دون جدوى فالجاذبية كانت أقوى.
سقطت إلى الخلف مباشرة، انزلقت عن الحافة بسلاسة مروّعة.
انفلتت أنفاسها من صدرها، وصرخت بلا صوت وهي تهوي، تمدّ يديها في الهواء كأن النجوم سلالم يمكن التعلّق بها.
لكن الهواء فقط هو ما مرّ بين أصابعها، وظلّت تسقط، تسقط
حتى زمجر البحر تحتها، وارتطم رأسها بسطحه بقوة.
جلست إيسلا فجأة، بسرعة جعلتها تتقيأ ماء البحر. حلقها كان يحترق. رمشت مرارًا، ومسحت فمها بظهر يدها.
لتكتشف أنها عادت إلى شرفتها، جالسة وسط بركة ماء. شعرها يقطر، وقميص نومها يلتصق بجسدها، مبلول بالكامل. رأسها ينبض بالألم من أعلاه، وحين مرّت أصابعها برفق على موضع الضربة، كانت تتوقع أن تجد دمًا. لكنها لم تجد.
كانت حيّة تمامًا. لم تغرق، كما كان ينبغي أن يحدث. ذلك الشخص... الذي كان يراقبها... لا بد أنه أنقذها.
ثم رماها هنا، دون أن يكلف نفسه عناء التأكد من أنها ستستيقظ.
من قد يفعل شيئًا كهذا؟
ما كان مفاجئًا حقًا لم يكن أنه تركها...
بل أنه أنقذها !
بعد أن نُسجت اللعنات، عمّت الفوضى. في تلك الليلة نفسها، ضحّى حكّام الممالك الستة بأنفسهم مقابل نبوءة قيل إنها المفتاح لكسر تلك اللعنات. تيرا وبوبي كانتا تؤكدان أن سلفهما هو من قاد طقوس التضحية، وكان أول من مات.
سواء كان ذلك صحيحًا أم لا، لم تستطع إيسلا أن تتخيل القوة التي احتاجها أولئك الحكّام ليقدموا حياتهم فداءً لأمل خلاص شعوبهم. الطاقة التي بثّها أولئك الستة في الجزيرة، ثم نقلوها إلى ممالكهم، هي ما جعل "الذكرى المئوية" ممكنًا. مرة كل مئة عام، ولمدة مئة يوم، تُمنح الممالك الست فرصة لإنقاذ نفسها، بفضل تلك التضحية.
النبوءة التي قيل إنها تكسر اللعنات كانت تتألف من ثلاثة أجزاء، وقد فُسّرت بطرق مختلفة عبر القرون. لكن جزءًا واحدًا كان واضحًا: لكي تُمحى اللعنات، لا بد أن يموت أحد الحكّام الستة. ولهذا كانت "الذكرى المئوية" حدثًا محفوفًا بالمخاطر، يُخشى ويُستعد له، ولهذا أيضًا درّبت تيرا أيسلا على القتال منذ أن بدأت تخطو أولى خطواتها.
ربما كانت وفاة إيسلا المفاجئ غرقًا هي الخطوة الأولى نحو تحقيق تلك النبوءة. لكن لسببٍ ما، الشخص الذي كان على الشرفة أراد أن يُبقيها حيّة.
لماذا؟
دقّت الأجراس في أرجاء القصر، فاخدت إيسلا تقفز من مكانها. عدّتها بسرعة، ثم تمتمت بلعنة.
في أول عشاء رسمي، كان من المفترض أن تقضي ساعةً كاملة في تصفيف شعرها، ترتّبه في شكل معقّد فوق رأسها. كان عليها أن تختار الفستان المثالي، وتدهن بشرتها بكريم معطّر برائحة الورد حتى تلمع، وتضع مكياجها بدقة، مستخدمة أدواتٍ أتقنتها كما أتقنت رمي السكاكين. كل ذلك كانت بوبي قد درّبتها عليه مرارًا.
لكن بدلًا من ذلك، سرّحت شعرها المبلل بأصابعها وكادت تنزلق على أثره، ارتدت أول فستان وقعت عليه يدها، انتعلت حذاءً حريريًا، وأمسكت بتاجها في اللحظة الأخيرة، وضعته كيفما اتفق على رأسها، وانطلقت خارجة من الباب.
وكادت أن تصطدم بنفس فتاة "ستارلينغ" التي قابلتها من قبل. كان فم الفتاة الصغير مفتوحًا من الصدمة، ورفعت يديها غريزيًا وكأنها تتهيأ لتلقي ضربة.
قالت بتردد: "من هنا... يا إيسلا."
بعد أن عبرت عشرات الممرات، انفتحت أبواب قاعة الطعام، والتفت الجميع نحوها.
تمنّت إيسلا لو كانت من سلالة "نايتشيد"، فقط لتختفي عن الأنظار.
جلست سيليست في مقعدها، حاجباها مرفوعان بدهشة.
وضع أزول الكأس الذي كان يمسكه جانبًا.
أما كليو، فنظرت إليها بازدراء أشد من ذي قبل.
ففي عجلتها، كانت إيسلا قد اختارت أحد أكثر فساتنها جرأة، ذلك الذي طُلب منها أن ترتديه في مرحلة متأخرة من اللعبة. كانت عظام الصدرية ظاهرة، والأقمشة شبه شفافة. أما التنورة، فكان فيها شقّ يصل حتى أعلى فخذها. ورداءها من الدانتيل الأخضر، يتدلّى من فتحة عنق منخفضة.
غريم بدا مستمتعًا، يتابع خطواتها بنظرات جعلتها تحمرّ خجلًا، تشعر بالإحراج.
وكان هناك شخص آخر في رأس الطاولة. نفس الشخص الذي كان يراقبها وهي تغني والذي لا بد أنه أنقذها... ثم تركها.
أورو، ملك "لايت لارك"، حاكم "سنلينغ ". شعره كأنه خيوط من الذهب مضفور، وعيناه كالعسل، كهرمانيتان مجوّفتان.
عينان قاسيتان، ثبتتاها في مكانها. عبس قليلًا، ثم أومأ برأسه بجفاء، كان ترحيبًا لا يحمل سوى طابع الواجب.
لماذا أنقذها الملك؟
فقط ليحدّق فيها بذلك البرود؟
بادلته الإيماءة الباردة وجلست على المقعد الفارغ إلى جواره، تلعن في سرّها من وضعها هناك.
كان شعر إيسلا المبلّل يتدلّى فوق ذراعها، يقطر على بشرتها ثم إلى الأرض، مشكّلًا بركة صغيرة بجانبها. جسدها يرتجف قليلًا من البرد، وفستانها الخفيف، الذي بالكاد يُسمّى فستانًا، لم يكن يمنحها أي دفء.
عاد الصوت الساخر في رأسها:
هل أنتِ جاهزة، يا إيسلا؟
بالطبع لم تكن كذلك. كيف كانت ساذجة بما يكفي لتقبل دعوة "الذكرى المئوية"؟ و تدخل مباشرة إلى لعبة قاتلة كهذه؟
أحد الحكّام الستة لا بد أن يموت. وبصفتها الأصغر سنًا والأقل خبرة، ستكون غبية إن ظنّت أن الدور لن يكون عليها. خاصةً وقد كادت أن تموت مرتين بالفعل، ولم يمضِ على بدء المراسم سوى يوم واحد.
لو كانت ذكية، لرحلت تلك الليلة، مستخدمة عصا النجوم خاصتها.
ولو كانت تريد النجاة، لكانت تخلّت عن الجزيرة، عن مملكتها، عن شعبها، وعن واجبها... ولم تنظر خلفها أبدًا.
الأراضي التي تقع خلف "لايت لارك" و"الأراضي الجديدة" ما تزال مجهولة إلى حد كبير.
لطالما تساءلت عنها.
كان السفر إلى ما وراء تلك الأراضي محفوفًا بالمخاطر، لكنّه بالتأكيد لم يكن أكثر خطرًا من "الذكرى المئوية"...
لم يكن بوسعها أن ترحل. ليس إن كانت تطمح إلى حرية حقيقية. لعنتها لن تسمح لها أبدًا بأن تحيا الحياة الكاملة التي تتوق إليها، مع أولئك الذين تحبهم أكثر من أي شيء. تيرا ، بوبي ، سيليست.
إن سارت الأمور كما خُطّط لها، فلن تضطر بعد اليوم إلى أن تُخفى كسرّ. لن تشعر بالخجل من حقيقتها. ستقود شعبها نحو الازدهار، وتسافر إلى "الأراضي الجديدة" متى شاءت، وتزور سيليست وقتما أرادت.
لقد قضت إيسلا ساعات لا تُحصى من حياتها تدرس الآخرين، تحاول أن تفهم دوافعهم.
والآن، كانت الحرية بين يديها.
تأمّل أورو شعرها المبلّل وهو يقطر، وامتلك الجرأة ليبتسم.
قال: "أعلم أن بحارنا لا تُقاوَم... لكن رجاءً، في المستقبل، حاولي أن تكتفي بالسباحة في وقتٍ أبكر من المساء، حتى لا تُبقينا جميعًا في الانتظار."
رفع ذقنه قليلًا. التاج فوق رأسه كان من ذهبٍ لامع، أشواكه حادّة بما يكفي لتُحدث جرحًا.
"تصرف غير لائق رغم أنني ربما كنت أُبالغ في توقّعاتي من مملكتك منذ البداية."
تلألأت عينا كليو بوميضٍ ساخر، تستمتع بالاحمرار الذي غمر وجه إيسلا...
"سباحة في ذلك البحر، في مثل هذا الوقت؟ إنها حقًا حيوان بري مدلّل. حتى مونلينج لن تفكر في فعل شيء كهذا خلال مراسم الذكرى المئوية. لا يفعل ذلك إلا أحمق."
بريّة. مدلّلة. حمقاء.
تمكّنت كلي" من غرز ثلاث إهانات في جملة واحدة.
ردّت إيسلا بسلاسة، قبل أن تدرك ما قالت:
"بالتأكيد ليس في ليلة اكتمال القمر."
صمت.
صوت أدوات الطعام يتشابك في الجهة الأخرى من القاعة.
لعنة المونلينج تعني أن كل اكتمال للقمر، يبتلع البحر عشرات الأرواح من مملكتهم، يغرق كل من يقترب من الساحل.
جعلت تلك اللعنة التجارة البعيدة شبه مستحيلة، والعيش قرب البحر خطرًا دائمًا، وأصابت اقتصاد المونلينج بالشلل التام.
ندمت إيسلا على كلماتها فورًا.
نظرة كليو التي ضاقت نحوها، كأنها سهم يصيب هدفه، جعلتها تشعر بأنها قد صنعت أول أعدائها رسميًا.
وقبل أن ينبس أحد بكلمة، وُضع طبق أمام إيسلا.
وفيه... قلبٌ ينزف.
"من أسوأ سجوننا،" قال أورو بنعومة ، تابع : " قاتل نساء"
احتاجت إيسلا إلى كل ما تملك من إرادة لتبتسم له بحرارة.
"يا لك من كريم. لكنني أفضل أن أتناول الطعام على انفراد. البعض يجد الأمر... مزعجًا."
نظرت حولها تبحث عن فتاة الستارلينغ التي قادتها إلى قاعة الطعام.
"هل يمكن إرسال هذا إلى غرفتي لاحقًا؟"
"هراء،" قال أورو.
حدّق في القلب، ثم في إيسلا.
"كلي."
شعرت بنظرات الجميع تتركّز عليها.
لقد مرّ وقت طويل منذ أن واجهوا أحد أبناء الولدلينج.
أمسكت إيسلا بالشوكة والسكين بحذر، أومأت لمضيفها بأدب، وقطعت قطعة من القلب، فاندفعت الدماء منه، تغمر صحنها.
استنشقت الرائحة.
ثم أخذت قضمة.
وضع غريم كأس النبيذ على الطاولة بخشونة.
"إيسلا، رغم أن الدم على شفتيك يليق بك، إلا أنني أشعر بأن صديقي العزيز أزول لا يحب طقوس الولدلينج"
وبالفعل، بدا السكايلينغ وكأنه يحاول التماسك، لكنه كان شاحبًا.
أشار غريم إلى الخدم:
"أرجو إرسال هذا إلى غرفتها."
تحدث وكأن القصر ملكه لا ملك أورو
أخذ أحد الخدم طبق إيسلا بعيدًا.
قال "أورو" ساخرًا:
"معدة ضعيفة، يا غريمشو؟"
ابتسم "نايتشيد"، وعادت الغمّازة إلى وجنته.
"لكلٍّ منّا نقاط ضعف، يا أورو،" تابع : "وأنا أعوّل عليها."
وبطريقة ما، تمكّنت إيسلا من اجتياز بقية العشاء دون أن تضطر إلى الانسحاب.
لكنها قضت الليل تتقيأ دمًا.
تعليقات
إرسال تعليق