كان يا مكان قلبّ منهار ٢
الجزء الأول
قصة إيفانجلين فوكس
[الفصل التاني]
همست بصوتٍ يكاد لا يُسمع.
"انه انت ، أنت أمير القلوب."
تناول أمير القلوب قضمة أخيرة من التفاحة، قبل أن تسقط على الأرض وتتناثر قطرات حمراء حوله كدمٍ طازج.
"أولئك الذين لا يحبونني يسمونني جاك."
كانت إيفانجلين تريد أن تقول له إنها لا تكرهه، وأنه كان دوماً عاقدها المفضل.
لكن هذا لم يكن الأمير المليء بالعشق الذي نسجته في خيالها.
جاك لم يكن صورةً مجسدةً للحسرة كما ظنت.
هل كان هذا كله مزحةً سوداء؟ فالعاقدون، بحسب ما يُقال، اختفوا من العالم منذ قرون.
ومع ذلك، فإن كل شيء ارتداه جاك—من وشاحه المنفلت إلى حذائه الجلدي العالي—كان من أحدث صيحات الموضة.
تجولت عيناها في الدار البيضاء وكأن أصدقاء لوك قد يقفزون من أحد الزوايا ويضحكون ساخرين.
كان لوك الابن الوحيد لرجلٍ نبيل، ورغم أنه لم يتعامل مع إيفانجلين كما لو أن لذلك شأنًا، فإن رفقاءه كانوا يرونها دون مستواهم.
كان والدها يمتلك عدة محلات في فاليندا، لذلك لم تكن فقيرة. لكن مكانتها لم ترتقِ إلى مرتبة النخبة مثل لوك.
"إذا كنتِ تبحثين عن طريق الخروج لأنك بدأت تدركين الحقيقة، فلن أمنعك."
ضم جاك يديه خلف رأسه الذهبي، واتكأ على تمثالٍ يمثله، ثم ابتسم تلك الابتسامة التي تخفي شراً ناعماً.
شعرت بمغص في معدتها كتحذير داخلي، يخبرها ألا تنخدع بابتسامته ذات الغمازات أو بملابسه الممزقة.
فهو أخطر من وطأت قدمها أمامه.
لم تكن تتصور أنه سيقتلها، ولم تكن من الحمق بحيث تسمح لأمير القلوب أن يُقبلها.
ولكنها كانت تدرك تمامًا أن بقائها، و إبراممها صفقةٍ مع جاك قد يُفسد شيئاً آخر فيها للأبد.
ومع ذلك، إن رحلت الآن، فلن يكون هناك سبيل لإنقاذ لوك.
"ما ثمن مساعدتك لي؟"
"هل قلت إنني سأساعدك؟"
نظر جاك إلى الشرائط التي تنساب من حذائها وتلتف حول كاحليها، وتختفي تحت فستانها المطرز.
كان فستانًا قديمًا من ممتلكات والدتها، تزينه خياطة ناعمة من أشواكٍ أرجوانيةٍ باهتة، وزهور صفراء صغيرة، وثعالب رقيقة.
انكمش طرف فم جاك باشمئزاز، وظل على حاله بينما يغير نظره نحو خصلات شعرها التي صففتها بعناية صباحًا بواسطة أدواتٍ ساخنة.
حاولت إيفانجلين ألا تشعر بالإهانة.
فمن خلال تجربتها القصيرة مع هذا العاقد، لم تكن تتوقع منه إعجابًا بأي شيء تقريبًا.
قال وهو يشير إلى شعرها بفتور :"ما لون هذا؟" .
أجابت بمرح. : "ذهب وردي،"
لم تكن تسمح لأحدٍ أن ينتقص من جمال شعرها الغريب. كانت زوجة أبيها دائمًا تحاول إقناعها بصبغه بنيًا.
لكن إيفانجلين كانت ترى في تموجات شعرها ذات اللون الوردي الناعم المشوب بالذهب الفاتح أجمل ما فيها.
أمال جاكس رأسه جانبًا، ولا يزال يحدّق بها بتجهم. وقال : "هل وُلدتِ في إمبراطورية ميريديان أم في الشمال؟"
"وما الفرق؟"
"سمّيه فضولًا."
قاومت إيفانجلين رغبتها في مبادلته ذلك التجهم.
عادةً، كانت تحب هذا السؤال. فوالدها، الذي أحب أن يجعلها تشعر أن حياتها كلها حكاية خرافية، كان دائمًا يمازحها بأن يقول لها انه وجدها داخل صندوق شحن مليء بالغرائب وصلت إلى متجره—ولهذا، كما كان يقول، كان شعرها ورديًّا كالجنيات. وكانت والدتها تومئ برأسها وتغمز موافقة.
حنت بتذكرها ذلك الى إيماءة والدتها ولمزات والدها المازحة.
أنها اشتاق لكل لحظةٍ معهم، لكنها لم تكن ترغب في مشاركة أيٍّ من تلك الذكريات مع جاك ، لدى اكتفت بهزّ كتفيها دون أن تنطق بكلمة.
انخفض حاجبا جاك بحدة. "ألا تعرفين أين وُلدتِ؟"
"هل هذا شرط للحصول على مساعدتك؟"
رمقها مجددًا، وهذه المرة توقفت عيناه عند شفتيها.
لكن نظرته لم تكن شهوانية، بل كانت أقرب للفحص البارد.
نظر إلى شفتيها كما ينظر أحدهم إلى بضائعٍ في محل فضوليات، كما لو أن تلك الشفتين شيء يمكن شراؤه، شيء قد يصبح ملكًا له.
سأل بنبرة لا تخلو من استجواب. : "كم عدد الأشخاص الذين واعدتهم ؟"
شعرت بشعلةٍ صغيرة تمرّ بعنقها.
منذ كانت في الثانية عشرة، كانت تعمل في متجر والدها للغرائب، ولم تُربَّى على نهج الفتيات المحافظات.
لم تكن مثل أختها غير الشقيقة، التي تعلمت أن تبقى على بعد ثلاثة أقدام من أيّ رجل، وألا تتحدث إلا عن الطقس.
لقد شجّعها والدها ووالدتها على أن تكون فضولية، مغامِرة، وودودة.
لكنها لم تكن جريئةً في كل شيء. بعض الأمور كانت تُربكها، ومنها طريقة جاك في التحديق بوجهها.
"لم اواعد سوى لوك."
"هذا أمر مؤسف."
"لوك هو الوحيد الذي احببته."
حك جاك فكه الحاد، وعلى وجهه نظرةٌ متشككة ثم قال : "أنا على وشك أن أصدقك."
"ولِمَ أكذب؟"
"الجميع يكذبون—يظنون أنني أكثر استعدادًا للمساعدة عندما يكون السبب نبيلًا، كالحب الحقيقي."
تسللت نبرة السخرية إلى صوته، وكأنها تُقشر طبقةً أخرى من صورة أمير القلوب التي رسمتها في خيالها.
"لكن حتى لو كنتِ صادقة فعلًا أحبّبتِ ذلك الفتى، ستكونين أفضل حالًا من دونه. فلو كان يحبك حقًا، لما تزوّج بفتاةٍ غيرهك . نهاية القصة. "
قالت إيفانجلين بنبرةٍ تحمل نفس يقين قلبها. : "أنت مخطئ."
لقد راودتها الشكوك بشأن علاقتها بلوك بعد خطبته المفاجئة لماريسول،
لكن الشكوك كانت تختفي أمام سيل من الذكريات العميقة.
في الليلة التي تُوفي فيها والدها—حين بدا أن قلبها لن يتوقف عن الخفقان أو الألم—
وجدها لوك تتجول في متجر الفضوليات، تبحث بيأس عن علاجٍ للقلوب المنكسرة.
كان وجهها مخضبًا بالدموع، وعيناها محمرتين.
خشيت أن ينفر منها، لكنه بدلًا من ذلك، ضمّها إلى صدره وقال:
"لا أعرف إن كنت قادرًا على إصلاح قلبك المكسور، لكن يمكنك أن تأخذي قلبي، لأنه بالفعل ملكك."
كانت تعرف أنها تحبه، لكن تلك اللحظة أخبرتها بأن لوك يحبها أيضًا.
رُبما كانت كلماته مقتبسةً من حكاية شهيرة، لكنها كانت مدعومةً بالفعل الحقيقي.
لقد ساعدها على تثبيت قلبها تلك الليلة، والعديد من الليالي بعدها.
والآن، حان دورها لتعيد له ذلك الحب.
فالخِطبة لا تعني دائمًا وجود الحب،
لكنها كانت تعرف أن اللحظات التي شاركتها معه كانت تحمل ذلك بكل وضوح.
لا بد أنه ملعون.
رغم أن الفكرة قد تبدو متطرفة أو سخيفة للآخرين، كانت هي الوحيدة التي يمكن أن تُفسر ما يحدث.
فكيف يعقل ألا يحادثها؟
أو أن كلّ مرة حاولت فيها كشف الحقيقة لماريسول، كانت تفتح فمها… لكن الكلمات لا تخرج.
توسلت : "أرجوك ساعدني."
"لا أظن أن ما تسعين إليه سينفعك."
أضاف باهتمامٍ ساخر: "لكنني أقدّر القضايا الخاسرة. سأُوقف الزفاف مقابل ثلاث قبلات."
أخذت عيناه تتلألأ بمتعة خفية بينما عادت إلى فمها.
صعدت دفعةٌ ساخنة من الخجل إلى وجهها.
كانت مخطئة… هو أراد تقبيلها فعلًا.
لكن إن صدقت القصص، فقبلة واحدة منه قد تعني نهايتها...
ضحك جاكس ضحكة جافة وقصيرة. "اهدئي، صغيرتي، لا أرغب في تقبيلك.
ذلك سيقتلك، وحينها ستكونين بلا فائدة بالنسبة لي.
ما أريده هو أن تُقبّلي ثلاثة أشخاص آخرين. أنا من يختارهم. وأنا من يحدّد متى."
"أي نوعٍ من القبل؟ تقصد قبلة الخد او الجبهة اليس كذلك ؟"
دفع جاكس نفسه مبتعدًا عن التمثال، وتقدم نحوها بخطوات بطيئة، حتى اقترب منها.
"انتي تعرفين اي نوع اقصد."
اشتعل الخجل في وجهها حتى امتدت حرارته إلى عنقها وخديها وشفتيها.
"لم التردد يا عزيزتي؟ إنها مجرد قبلات."
كان صوته يحمل نبرة تهكم كأنه يكتم ضحكة أخرى.
قالت : "لا أريد تقبيل غرباء؛ كل ما اريده هو ان استعيد لوك."
قال جاك بجمود : "إذن، سيكون هذا ثمنًا بسيطًا،" .
كان محقًا، لكن إيفانجلين لم تستطع القبول بهذه السهولة.
فوالدها علمها أن العاقدين غير صادقين ابدا .
غالبًا ما تُفضي إلى صفقات يائسة أخرى لإصلاح الصفقة الأولى السيئة.
وقد حدث هذا في الكثير من القصص… ولم تكن إيفانجلين تريد أن تصبح قصتها واحدة منها.
قالت بنبرة واثقة :"لا أريد لأحد أن يموت ، لايمكنك ان تقتل احدا " .
بدت خيبة الأمل على وجه جاكس. "ولا حتى أختك غير الشقيقة؟"
"لا!"
رفع أصابعه إلى فمه، وبدأ يعبث بشفته السفلية، يغطي نصف تعبيرٍ لم يُعرف إن كان امتعاضًا أم تَسلية.
"أنتِ لستِ في موضع للمساومة حقًا."
تحدّته بنبرة ثابتة : "ظننت أن المعاقدين يحبون الصفقات،" .
"فقط عندما نضع نحن القواعد. ومع ذلك، أنا في مزاجٍ جيد، لذا سأمنحك هذا الطلب."
ثم أضاف بلهجة غامضة: "لكن أريد أن أعرف شيئًا أخيرًا. كيف جعلتِ الباب يفتح لك؟"
أجابت ببساطة : "طلبت منه بأدب،" .
فرك جاكس زاوية فكه. "فقط هذا؟ لم تعثري على مفتاح؟"
أجابت : "لم أر حتى ثقبًا للمفتاح." .
لمعت في عيني جاكس نظرة نصر، ثم أمسك بمعصمها ورفعه نحو فمه البارد.
شهقت إيفانجلين : "ماذا تفعل؟"
"لا تقلقي، لن أقبّلك."
فمه البارد انساب بنعومةٍ فوق نبض معصمها المتسارع، حتى غاصت أسنانه الحادة في بشرتها.
صرخت: "لقد عضَضتَني !"
"اهدئي، صغيرتي، لم أُسبب أي نزيف."
سطع بريق غريب في عينيه وهو يُسقط ذراعها.
مررت إصبعها فوق جلدها الرقيق في المكان الذي غاصت فيه أسنانه.
ظهرت ثلاث ندوب بيضاء رفيعة، تشبه قلوبًا صغيرة محطّمة، تصطفّ على معصمها من الداخل.
همس "ندبةٌ لكل قبلة."
"مالذي .....؟"
رفعت إيفانجلين نظرها إليه. لكنه كان قد اختفى بالغل . لم تره حتى وهو يغادر؛ كل ما سمعته كان صوت باب الدار يُغلق بعنف.
لقد حصلت على ما أرادت.
فلماذا إذًا لا تشعر بالارتياح؟
قد فعلت الصواب. لوك يحبّها.
لا يمكن أن تصدّق أنه تزوّج ماريسول بإرادته.
ليست المشكلة أن إيفانجلين تكره ماريسول؛ فالواقع أنها بالكاد تعرفها.
بعد وفاة والدتها بعام، أقنع والدها نفسه بأنه يحتاج إلى زوجة تعتني بإيفانجلين إن حدث له مكروه.
تتذكر تمامًا القلق الذي أزاح النور من عينيه، وكأنه كان يعلم أن وقته قصير.
لم يعش والدها مع أغنيس سوى ستة أشهر قبل أن يرحل. وخلال تلك الفترة، لم تزر ماريسول المتجر الذي قضت فيه إيفانجلين أغلب وقتها.
قالت إنها تتحسس من الغبار، لكنها كانت متوترة من كل ما هو غريب.
لطالما شعرت إيفانجلين أن أختها غير الشقيقة تخاف من اللعنات والأشياء الخارقة.
أما هي ولوك، فكانا يقولان مازحين: إن لُعنّا يومًا… فذلك سيُثبت أن الاساطير حقيقة.
الآن، ها هو الدليل أمامها، لكن لوك لم يعد معها.
حتى لو عاد جاك وسمح لها بتغيير رأيها، لم تكن لتنقض الصفقة.
لقد وعد بإيقاف الزفاف، وأقسم ألا يقتل أحدًا.
ومع ذلك… لم تستطع أن تتخلص من شعورٍ بأنها ارتكبت خطأ.
لم يكن قرارها متسرّعًا، ومع هذا لم تستطع أن تنسى البريق الذي لمع في عيني جاك عندما أمسك بمعصمها.
بدأت إيفانجلين في الركض.
لم تكن تعرف إلى أين تتّجه، ولا لماذا شعرت فجأة بالغثيان.
كل ما عرفته هو أنها بحاجةٍ ماسةٍ إلى لقاء جاكك مرةً أخرى… قبل أن يُوقف الزفاف.
لو كانت الدار عادية، ربما استطاعت اللحاق به بسهولة.
لكنها كانت دار "اسطورية"، تحرسها بوابةٌ تملك عقلًا خاصًا بها.
وعندما فتحتها، لم تُعدها إلى حي . بل قذفتها إلى صيدليةٍ قديمة، تعبق برائحة العفن والغبار، مملوءة بزجاجاتٍ فارغة وساعاتٍ تكتك.
تك. توك. تك. توك. تك. توك.
لم تمر الثواني بهذه السرعة من قبل.
بين كل "تك" و"توك"، اختفت البوابة التي دخلت منها، وظهر مكانها نافذةٌ مشبكة تطلّ على شارعٍ ملتوي كصفٍ من الأسنان المعوجّة.
لقد أصبحت في حي التوابل—على الطرف الآخر من المدينة.
شتمت إيفانجلين وهي تهرع هاربة.
وحين وصلت أخيرًا إلى منزلها بعد عبور المدينة، خافت أن يكون الوقت قد فات بالفعل.
كان من المفترض أن يتبادل لوك وماريسول عهودهما في حديقة والدتها، تحت المظلة التي بناها والدها بيديه.
والآن، وهي تدخل الحديقة، كانت تسمع تلك الأغنيات الصغيرة… لكن لا وجود لأصوات بشرية.
فقط طيورٌ رقيقة تطير بمرحٍ داخل المظلة قبل أن تهبط على مجموعةٍ من التماثيل الجرانيتية.
ارتعشت رُكبتيها.
لم يكن هناك أي تماثيل في الحديقة من قبل.
لكن الآن، بات هناك تسعة.
كلٌ منهم يحمل كأسًا، وكأنهم للتو أنهوا نخبًا احتفاليًا.
وكل وجه بدا حيًّا بشكلٍ مخيف، ومألوفًا بشكلٍ مرعب.
شاهدت إيفانجلين بدهشةٍ ونفورٍ، ذبابةً تحطّ على وجه تمثال يشبه أغنيس تمامًا،
ثم تطير لتقف على عين ماريسول المتحجرة .
جاك… أوقف الزفاف بتحويل الجميع إلى حجارة.
تعليقات
إرسال تعليق