كان يا مكان قلب منهار ١

  الجزء الأول
قصة إيفانجلين فوكس


[الفصل الاول]




نشر مقال في جريدة الهمس بعنوان "دار لاصحاب القلوب المكسورة " 

كُتب فيه : "ظهرت دارٌ صغيرة في احد ازقة المدينة من العدم ، بابها مطليًا بلون أحمر قانٍ، كلون القلوب المنكسرة، ، ظهر خلال الليل ، لكن خلف بابه جدارًا لايمكن اختراقه. قيل انه لا يمكن ان يدخل الى تلك الدار سوى اصحاب القلوب المنكسرة..."

                           ----------

 دفعت إيفانجلين بالصحيفة القديمة، التي مرّ على صدورها أسبوعان، إلى جيب تنورتها المُزهرَة.


كان الدار الذي ذكرته الجريدة موجود في نهاية الزقاق المتهالك لم يكن الباب أطول منها بكثير، كان مختبئًا خلف شبكة حديدية صدئة، بعيدًا عن طلاء اللون الأحمر القاني الذي ذكرته الجريدة.

 كانت لتراهن بمحل والدها للتحف والغرائب على أن هذا هو الدار الذي بدات الشائعات تتحدث عنه.


فلا شيء في المدينة يبدو بهذه البشاعة. كل الأبواب هناك كانت منقوشة ومزينة بأقواس فخمة، مظلات زجاجية، وفتحات مفاتيح مذهّبة. 

 أما هذا الباب فكان شيئًا آخر تمامًا — مجرد لوح خشبي خشن، بلا مقبض، يعلوه طلاء أبيض متقشر. وكأن هذا الباب لم يشأ أن يُكتشف. ومع ذلك، لم يستطع إخفاء هويته عن إيفانجلين.


كان والدها رجلاً يملك محلاً للاشياء الغريبة كان مولعا بالاساطير، اعتاد أن يقول إن تلك الدارات الاسطورية . لم تُبنَ للسكن ، بل للتغرير والاصطياد.


اصدرت إيفانجين تنهيدة راحت وقالت : "وأخيرًا..."


لو كانت الآمال جناحين، لكانت أجنحة إيفانجلين قد انبسطت خلفها، ترفرف شوقًا للتحليق من جديد. بعد أسبوعين من البحث في المدينة ، وجدته أخيرًا.


حين نشرت صحيفة الشائعات، تلك المطوية المهترئة التي تحملها في جيبها، خبر ظهور دار القلوب المكسورة لم يتخيل أحد أن الأمر حقيقي. كان ذلك أول مقال تنشره، وقال الناس إن المسألة مجرد خدعة تهدف لبيع الاشتراكات. فالدارات لا تظهر هكذا ببساطة...


لكن إيفانجلين آمنت بأنها تستطيع ذلك. القصة لم تبدُ لها كخدعة صحفية، بل كعلامة، تخبرها أين تبدأ البحث إن أرادت إنقاذ قلبها، وأن تستعيد الشاب الذي يسكنه.


ربما لم ترَ الكثير من الاشياء الغريبة خارج متجر والدها، لكنّها كانت تؤمن بوجوده. فوالدها، ماكسيمليان، كان يتحدث عن الاساطير وكأنه حقيقة. أما والدتها، التي جاءت من بلد اخر، فكانت تقول إن التاريخ والحكايات الخرافية في موطنها لا يفترقان. "كل القصص مزيج من الحقيقة والخيال"، 


وكانت إيفانجلين تتمتع بموهبة الإيمان بالأشياء التي يعتبرها الآخرون مجرد أساطير.


فتحت الشبكة المعدنية، والباب نفسه لم يكن يملك مقبضًا، مما اضطرها إلى إدخال أصابعها بين حافته المتكسرة والجدار الحجري المتسخ.

 قرصها الباب، وسالت نقطة دم، وأقسمت أنها سمعت صوتًا مشققًا ينبعث من الباب يقول:  

"هل تعلمين ما الذي على وشك أن تدخليه؟"

"لن تجني من هذا سوى كسر آخر في قلبك."


لكن قلب إيفانجلين كان مكسورًا بالفعل. وكانت تعرف تمامًا ما هي المخاطر التي تواجهها. كانت تعرف قواعد زيارة دار القلوب المنكسرة...


 "دائمًا عِد بأقل مما يمكنك أن تعطي، فالدار تأخذ دومًا أكثر."

"لا تعقد الصفقات مع أكثر من شخص واحد داخل الدار ."

"وفوق كل شيء، لا تقَع في حب العاقد ."


كان هناك ستة عشر عاقدا، كائنات لا تموت ، كل واحدة منها تملك دار خاصا بها.

 قبل أن يختفوا منذ قرون، كان يُقال إنهم حكموا جزءًا من العالم بقدارتهم العجيبه، إنهم كائنات آسرة ومؤذٍية في آن واحد . لم يكن بينهم من ينقض عهده، لكنهم غالبًا ما يؤذون من يطلب عونهم. ومع ذلك، ورغم أن معظم الناس يعتبرونهم مجرد أساطير، فإنهم كانوا في لحظات يأسهم يعقدون الصفقات معهم .


لطالما راودت إيفانجلين رغبة في معرفة اصحاب هذه الدارات ، لكنها كانت تدرك جيدًا مدى تقلبهم، وقسوة صفقاتهم، فتجنّبت الاقتراب من أماكنهم... حتى قبل أسبوعين فقط، حين أصبحت واحدة من أولئك اليائسين الذين كانت القصص تحذّر منهم.


همست للباب : "أرجوك،" ، وملأت نبرتها بذلك الأمل الممزق الجامح الذي قادها إلى هذا المكان، "أنا أعلم أنك كائن ذكي... لانك سمحت لي بأن أعثر عليك. فاسمح لي بالدخول."


شدّت الخشب مرة أخيرة.

وهذه المرة... فتح الباب.


 خفق قلبها بخوف وتوق، وهي تخطو أولى خطواتها. خلال بحثها عن الدار ، قرأت أن دار القلوب المنكسرة تحمل لكل زائر عبقًا مختلفًا... يفوح منها رائحة لأشد كسرة قلبٍ في حياتهم.


لكن حين دخلت الدار الباردة، لم تكن هناك روائح تذكّرها بلوك — لا جلد ممسوح، ولا نفحات نجيل الهند. بل كان جو المدخل المعتم يحمل مزيجًا خفيفًا وساخنًا من الحلاوة والمعادن شيء مثل رائحة التفاح ودم.


ارتجف جلدها بقشعريرة. لم يكن هذا العبق يخص الشاب الذي أحبته. يبدو أن القصة التي قرأتها عن الدار خطأ… لكنها لم تلتفت.  

كانت تعرف أن سكان هذه الدار ليسوا صالحين أو منقذين، لكن في قلبها أمل أن يكون مالك دار القلوب المكسورة أكثر إحساسًا من سائرهم.


خطواتها أخذتها نحو أعماق الدار. كل شيء كان أبيض بشكل صادم — سجاد بيضاء، شموع بيضاء، مقاعد من الخشب الأبيض.


مرّت إيفانجلين بين صفوف المقاعد البيضاء غير المتناسقة، كانت أنيقة ، لكن الكثير منها مكسور الساق، أو ممزق الوسائد، أو مشطورًا إلى نصفين.


كان كل شيء في تلك الدغر محطّم.  


ليس غريبًا أن الباب قاوم دخولها.  

ربما لم تكن هذه الدار شريرة… بل حزينة.


صوت تمزيق خشن مزّق سكون الدار. فاستدارت إيفانجلين بسرعة، وتكاد تختنق من المفاجأة.


في زاوية مظلمة خلفها، ظهر شاب، وكأنه في حداد .  

شعره الذهبي انسدل على وجهه، ورأسه منحني، وأصابعه تُمزق أكمام معطفه القرمزي بلا توقف .


شعرت بوخزة في قلبها وهي تراقبه. أرادت أن تسأله إن كان بحاجة للمساعدة.

  لكنه اختار تلك الزاوية، على الأرجح، كي لا يراه أحد.

 ولم يكن لديها الكثير من الوقت.  

لا توجد ساعات داخل الدار، ومع ذلك أقسمت أنها سمعت صوت عقرب الثواني... ينهش الدقائق الثمينة قبل زفاف "لوك".


أسرعت في خطواتها على طول الممر حتى وصلت إلى المنصة ، حيث تتوقّف صفوف المقاعد المكسّرة، وتعلوها منصة من الرخام النقي.  

كانت المنصة متلألئة، يضيئها جدار من شموع ، تحيط بها أعمدة بيضاء مزخرفة، تحرس تمثالًا يفوق الحياة حجمًا لصاحب الدار المسمى بأمير القلوب.

 وخز في مؤخرة عنقها أنذرها بخطرٍ خفي.  

كانت إيفانجلين تعرف شكل الأمير، بفضل "بطاقات الاساطير" التي شاعت مؤخرًا في متجر والدها للتحف الغريبة.  

بطاقة أمير القلوب كانت ترمز إلى الحب غير المتبادل، وغالبًا ما تُصوّره بوسامة حزينة، وعيون زرقاء دامعة، ودماء أبدية تلطّخ زوايا فمه المتجهم.


لكن هذا التمثال المتوهّج لم تلطّخ وجهه الدموع الدموية.  

ومع ذلك، حمل ملامح جمالٍ لا يرحم — ذلك النوع الذي تتوقّعه من صاحب دار أسطورية.  

 تقول الأساطير إن أمير القلوب لا يعرف الحب، إذ توقف قلبه عن النبض منذ زمن.  

ولا يُمكن لأي شيء أن يحييه، سوى قبلة "حبٌ الحقيقي".  

ويقال إن كل من احبهم ماتوا... 


ولم تستطع إيفانجلين أن تتخيّل وجودًا أكثر مأساوية منه.  

فإن كان أحد اصحاب الدارات الاسطورية يملك قدرة على التعاطف، فلا شك سيكون أمير القلوب.

 نظرت نحو أصابعه الأنيقة، التي تحتضن خنجرًا بطول ساعدها، تتجه نصلته نحو وعاءٍ حجري موضوع فوق موقد، تحيط به دائرة من لهب أبيض .  

وعلى جانب الوعاء نُقش:  

"دم من أجل العقد."


 تنفست إيفانجلين بعمق. ها قد وصلت إلى غايتها.

وضعت إصبعها على طرف النصل.  

اخترق الرخام الحاد جلدها، فتساقطت قطرات الدم واحدةً تلو الأخرى،  

تئن وتفور بصوتٍ يشبه الهسهسة... والهواء من حولها امتلأ برائحة المعدن والدم .


جزء منها تمنى أن يحصل شيء عجيب . أن يتحرك التمثال، أو أن يملأ صوت أمير القلوب أرجاء الدار. لكن لا شيء تحرّك سوى ألسنة اللهب فوق جدار الشموع. حتى الشاب المعذّب في الزاوية الخلفية، لم يعد يُسمع له صوت. كانت وحدها... هي والتمثال.


بدأت حديثها بتردد : "أمير القلوب صاحب دار القلوب المكسورة ..." . لم يسبق لها أن تكلمت مع كائن اسطور ، ولم تكن تريد أن تفسد الأمر.  

"أنا هنا... لأن والديّ قد فارقا الحياة."

انكمشت إيفانجلين من كلماتها — لم يكن هذا بداية مناسبة.


"ما أردت قوله هو... لقد مات كلا والديّ. فقدتُ والدتي قبل عامين، ثم فقدت والدي في الموسم الماضي. والآن... أنا على وشك أن أفقد الفتى الذي أحب."


اختنق صوتها وهي تنطق اسمه "لوك نافارو..." ، 

كانت صورة ابتسامته الملتوية تتراقص في ذهنها. ربما لو كان أبسط، أو أفقر، أو أقسى، لما حدث هذا كله.  

تابعت : "كنّا نلتقي سرًّا. كان يفترض بي أن أكون في حداد على والدي، لكن قبل أسبوعين، في اليوم الذي خططنا فيه لإخبار عائلتينا بأننا نحب بعضنا، أعلنت أختي غير الشقيقة، ماريسول، أنها ولوك مخطوبان للزواج."


أغمضت إيفانجلين عينيها — لا يزال هذا الجزء يصيبها بالدوار.  

الخطوبات السريعة لم تكن أمرًا غريبًا. ماريسول كانت جميلة، ومتحفظة، لكنها لطيفة... ألطف كثيرًا من زوجة أبيها، أغنيس.  

ومع ذلك، لم ترَ لوك قط في يتحدث مع ماريسول.


"أعلم كيف يبدو الأمر... لكن لوك يحبني. وأنا أؤمن بأنه قد تعرّض للعنة. منذ إعلان الخطوبة، لم يتحدث إليّ... ولا حتى نظر إليّ. لا أعلم كيف فعلتها، لكنني واثقة أن هذا من فعل زوجة أبي، أغنيس."  

لم تكن لدى إيفانجلين أي دليل على أن أغنيس ساحرة أو أنها ألقت تعويدة على لوك، لكنّها كانت متيقنة بأن زوجة أبيها قد علمت بشأن علاقتها مع لوك، وأرادت الاستحواذ عليه — وعلى اللقب الذي سيرثه يومًا ما — لابنتها.


تابعت : "أغنيس تحمل لي ضغينة منذ موت أبي. حاولت أن أتحدث مع ماريسول بشأن لوك. وعلى عكس زوجة أبي، لا أظن أن ماريسول قد تتعمد أذيتي... لكن في كل مرة أحاول النطق بالكلمات، لا تخرج، وكأنها ملعونة، أو أنا ملعونة. لهذا أنا هنا... أرجوك ساعدني. الزفاف اليوم، وأنا بحاجة لأن توقفه."


نظرت إيفانجلين اليه .

التمثال الجامد لم يتغيّر. كانت تعرف أن التماثيل لا تتحرك عادةً، لكن ما زال في داخلها إحساس بأن شيئًا كان يجب أن يحدث — أن يتحرّك، أو يتكلم، أو يرمقها بعينيه الرخاميتين.  

"من فضلك... ، لقد ارقت دمي من اجل هذا العقد ، انك صاحب هذه الدار و أعلم أنك تفهم ما يعنيه كسر القلب. أوقف لوك عن الزواج من ماريسول... أنقذ قلبي من الانكسار مجددًا."


صفقتان بطيئتان رافقتا صوتًا متكاسلًا : "يا له من خطاب بائس."  

 بدا الصوت وكأنه يقف خلفها ببضع خطوات فقط.


استدارت إيفانجلين بسرعة، وكل الدم انسحب من وجهها. لم تتوقع أن تراه — ذلك الفتى الذي كان يمزّق ملابسه في آخر الدار. ومع أن ملامحه كانت مألوفة، إلا أن من أمامها بدا وكأنه شخص مختلف تمامًا.  

ظنّت أنه غارق في الألم، لكن يبدو أنه مزّق حزنه ايضا عندما كان يمزق أكمام سترته، التي تدلّت الآن ممزّقة فوق قميص مخطط أسود وأبيض، نصفه فقط داخل بنطاله.


جلس على درجات المنصة، متكئًا بكسل على أحد الأعمدة، وساقاه الطويلتان ممدودتان أمامه.  

شعره ذهبي ومبعثر، عيناه الزرقاوان باهتتان ومحمرّتان، وفمه عابس وكأنه لا يعرف الفرح، لكنّه استمتع بالوخزة التي تركها في قلبها.  

كان يبدو... مملًا، ثريًا، وقاسيًا.


قال بسخرية لاذعة : "هل ترغبين أن أقف وأستدير... حتى تشاهدي بقيّتي؟" .


 عادت الحرارة إلى وجنتي إيفانجلين على الفور.  

"يالك من قليل ادب ! ."


بحركة أنيقة، مدّ الشاب يده داخل جيب معطفه الممزق، وأخرج تفاحة بيضاء ناصعة، ثم قضَم منها قضمةً واحدة. ليتساقط العصير الأحمر الداكن على أصابعه الطويلة الشاحبة، ومنها إلى درجات المنصة البيضاء النقيّة.


"لا تفعل ذلك!"  

لم تكن إيفانجلين تقصد أن تصرخ. صحيح أنها لا تخجل من الغرباء، لكنها عادةً ما تتجنب الجدال معهم. ومع ذلك، لم تستطع أن تسيطر على نفسها مع هذا الشاب الوقح.  

"أنت تتصرّف بطريقة غير محترمة."


"وأنتِ تعقدين صقتا مع كائن اسطوري يقتل كل فتاة يحبها. هل تعتقدين حقًا أنه يستحق الاحترام؟ "  

وأتبع كلماته بقضمة أخرى واسعة من التفاحة.

حاولت تجاهله. فعلًا حاولت.  

لكن الأمر كان كما لو أن شيئا مظلمًا تملّكها. بدلاً من الابتعاد، اخدت تتامل بشفتيه المنقوعتين بعصير الفاكهة.


همس بصوت ناعم مستفز. : "أنتِ تحدّقين بي مجددًا"، 

أسرعت إيفانجلين بإبعاد نظرها، وعادت تتأمل التمثال الرخامي.  

قبل دقائق، كانت مجرد نظرة إلى شفتيه الحجرية تُربك قلبها، أما الآن، بدا لها جامدًا وعاديًا، خاليًا من الحياة... مقارنة بهذا الشاب المتوحش.


قال الشاب : "بالنسبة لي، أعتقد أنني أكثر وسامة." وفجأة اخد يقترب منها حتى ، وقف إلى جانبها مباشرةً.

 شيء ما تحرّك داخلها—فراشات مذعورة، ترفرف بجنون في بطنها.  

كل نبضة وكل جناح كان يصرخ: "اهربي!"

لكنها لم تستطع أن تُبعد نظرها.


عن قرب، بدا أكثر جاذبية، وأطول مما ظنّت.  

ابتسم لها ابتسامة حقيقية، كشفت عن غمازتين جعلتاه يبدو، للحظة، وكأنه كائن اسطوري.  

لكنها كانت تعرف أن الكائنات الاسطورية اكثر من يجب أن يحذروا منها...  

يمكنها أن ترى بوضوح كيف يستخدم تلك الغمازات المخادعة ليغوي من يشاء.

همست بصوتٍ يكاد لا يُسمع. 

"انه انت ، أنت أمير القلوب."


تعليقات

المشاركات الشائعة