أجنحة من ضوء النجوم ٨
طوال الأسبوع، لم تستطع كلاريون أن تركز على شيء سوى الشمس وهي تزحف ببطء نحو الغرب.
في وضح النهار، كانت الحياة تسير كالمعتاد. لكن مع إقتراب اليل، كان الرعب يخيم على أرض الجنيات.
حتى كلاريون كانت ترتجف عند كل صرخة بعيدة من حيوان مجهول.
واليوم، كانت أكثر وعيًا بطول الظلال المتزايد. لأن غروب الشمس يعني شيئًا واحدًا: أن الأسبوع الذي منحه لها ميلوري قد انتهى.
كان نفاد الصبر كشوكة مغروسة في عقلها. فمؤخراً كانت واجباتها تلتهم كل دقيقة فراغ في حياتها ، واليوم لم يكن استثناءً.
خلال اجتماع المجلس، كانت تحدّق في كرسي روان الفارغ بينما كان ممثلو الكشافة والمعالجين يقدمون تقاريرهم عن الكوابيس.
الكلمات الوحيدة التي استوعبتها حقًا كانت: "لا أثر" و"علاج". وهذا لم يؤكد سوى ما كانت تخشاه: لا يمكن للفصول الدافئة وحدها أن تحل هذه الأزمة.
فكرت "أنا بحاجة إلى التحدث إلى ميلوري."
لحسن الحظ، سيكون المكان فارغاً بعد الاجتماع ، لكن أرتميس ستكون بلا شك عقبة ! ، فمنذ صدور أوامر إلفينا، أصبحت أكثر يقظة من أي وقت مضى.
إن لم تستطع كلاريون التسلل من تحت أنظارها، فعليها أن تجرب طريقة أخرى مثل طلب الإذن ؟
ربما لم تكن تعرف أرتميس كما تعرف بيترا، لكنها تعرف قيمها. والأهم، أنها تعرف قلبها.
إن كان هناك من يمكنه فهم عبء الرغبة في حماية أرض الجنيات، فهي أرتميس.
وبمجرد انتهاء الاجتماع، تجاهلت كلاريون نظرة إلفينا الفاحصة، وعادت مسرعة إلى غرفتها.
فتحت أبواب الشرفة ، وأخرجت وجهها لتشعر بحرارة ما بعد الظهيرة.
وكما توقعت، كانت أرتميس جالسة على أحد فروع الشجرة المغطاة بالطحالب، وسيفها الخشبي مستند بين رقبتها وكتفها.
لاحظت كلاريون أن شجرة غبار الجنيات قد أنبتت توتة واحدة فوق رأس أرتميس مباشرة، وكأنها تقدم لها ضيافة صامتة بينما تواصل حراستها المنفردة.
كانت كلاريون تراقب الشجرة من حين لآخر، وتلاحظ تقلباتها . فذات مرة، بعد يوم مرهق ، تفتحت الأغصان خارج نافذتها فجأة بأزهار ذهبية ، وكأن الطبيعة نفسها تحاول مواساتها.
"جلالتكِ،" قالت أرتميس بتحية رسمية، بصوتها المعتاد البارد المهذب.
اتكأت كلاريون بمرفقيها على حاجز الشرفة، تحاول أن تبدو عفوية.
أدركت أنها نادرًا ما تفعل ذلك، أن تحاول أن تبدو "عادية"، ولم تكن تعرف ما تفعل بيديها أو وجهها.
قالت : "لدي فترة راحة هذا العصر ، كنت آمل أن أخرج قليلًا."
نظرت إليها أرتميس بريبة. "إلى أين؟"
"إلى الحدود بين الربيع والشتاء؟"
وما إن خرجت الكلمات من فمها، حتى شعرت بالندم. كانت تنوي أن تبدو واثقة، لكنها بدت وكأنها تسأل الإذن.
تجهم وجه أرتميس. "لا أظن أن جلالتها ستُسر بذلك."
كلاريون : " لا، لا أظن أيضاً أنها ستكون كذلك."
بدت أرتميس مرتاحة. "إذن نحن متفقتان."
أضافت كلاريون بابتسامة مرحة : "لو ، كانت تعلم أنني ذاهبة."
اعتدلت أرتميس في جلستها، وقد فهمت الآن اللعبة.
وضعت سيفها الخشبي على حجرها، ونظرت إليها بتعبير لا يوصف إلا بالذهول.
"أنتِ تطلبين مني أن أكذب على جلالتها من أجلك ؟"
كلاريون : "إن أردتِ قولها بهذه الطريقة… نعم."
أرتميس : "بالتأكيد..." وكأن الطبيعة نفسها قررت التدخل، سقط غصن يحمل التوتة على كتف أرتميس. نظرت إليه بدهشة، ثم التقطته وحدّقت فيه.
أرتميس : "ما هذا؟"
ابتسمت كلاريون. "رشوة، على ما أعتقد. هل نجحت؟"
لم تبدُ أرتميس متأثرة، ولم ترد على مزاحها ، قالت : "أنا متأكدة أن هناك مكانًا آخر تودين الذهاب إليه."
وبعد لحظة، وبنبرة فيها شيء من الأمل، أضافت: "ربما ركن الصناع؟"
نظرت كلاريون في عينيها، بكل ما تحمله من إصرار داخلي. : "لا يوجد مكان يناسبني أكثر من الحدود."
شعرت أرتميس أن كلاريون لن تتراجع، فتنهدت بعمق.
"هل لي أن أتكلم بصراحة؟"
كلاريون : "بالطبع."
وقفت أرتميس، وبخفة جناحيها، هبطت على حاجز الشرفة ، بينما ألقت أوراق الشجرة ظلالًا متقطعة على وجهها.
"جلالتك، مهمتي هي الحفاظ على سلامتك. وبالنظر إلى الظروف، وبصراحة، إلى معرفتي بك، فإن الحدود هي آخر مكان يجب أن أسمح لك بالذهاب إليه."
كانت كلاريون تتوقع هذا الرد. فأرتميس، في النهاية، أكثر الجنيات التزامًا ممن تعرفهم، وأكثر إخلاصًا مما تستحق ، ورغم أن ذلك كان يزعجها، إلا أنه كان يمسّ قلبها ! أرتميس لم تكن لتكون صارمة بهذا الشكل لو لم تكن تهتم لأمرها.
كلاريون : "لن أصرّ لو لم يكن الأمر مهمًا. ثقي بي."
ترددت أرتميس. لكن ما رأته في وجه كلاريون ليّن قلبها، فجلست حتى أصبحت على مستوى نظرها تقريبًا ، أخذت قضمة من التوتة، ومضغتها بتفكير.
"ما الذي يوجد على الحدود ويستحق كل هذا الإصرار؟"
كلاريون : "حارس غابة الشتاء."
لمعت الصدمة في عيني أرتميس. سألت بحذر:
"ولِمَ ترغبين في لقائه ؟"
"أظن أنه يعرف كيف نهزم الكوابيس."
عبست كلاريون : "إرض الشتاء ليس مختلفاً عن باقي مملكة الجنيات. إن كان بإمكاني إنقاذ المزيد من الجنيات، فعليّ أن أحاول."
بدت أرتميس أكثر ترددًا مما رأتها كلاريون من قبل. وبنبرة تحمل مودة لا تخطئها الأذن، قالت:
"لطالما كنتِ عنيدة."
توهّج الأمل في قلب كلاريون. "إذًا ستسمحين لي بالذهاب؟"
"لا ينبغي لي، من أجل سلامتك." تنهدت أرتميس، وابتسامة حزينة ارتسمت على وجهها، ثم تابعت كأنها ضائعة في حلم قديم : "الملكة إلفينا والقائدة بيلا منحاني فرصة ثانية حين عيناني كحارسة ملكية. إن أصابكِ مكروه، لا أعلم كم سيكلفني ذلك."
تفاجأت كلاريون بتلك الهشاشة في صوت أرتميس، وذلك الاعتراف.
كانت أرتميس حضورًا دائمًا في حياتها، حتى أن فكرة أنها عاشت حياة قبل وصول كلاريون بدت غريبة. هناك أشياء عنها لا تعرفها، وربما لن تعرفها أبدًا.
وحين نظرت إليها مجددًا، عادت ملامحها الصارمة إلى مكانها. لكن كلاريون، ولو للحظة، رأت حقيقتها. وكل هذا أكّد ما كانت تشك فيه منذ زمن: أرتميس لم تختر هذه الحياة—حياة الحارسة الشخصية لملكة تحت التدريب. كم مرة رأتها تحدّق بشوق إلى دوريات الحراسة؟ كم مرة رأتها تشحذ سيفها الحاد استعدادًا لمعركة لن تأتي؟
في الواقع، أكثر لحظة بدت فيها أرتميس حيّة بحق كانت حين دفعت كلاريون بعيدًا عن الوحش.
ربما، بعد كل شيء، يمكنها أن تتخيل نسخة متهورة من أرتميس. فهي ليست من النوع الذي يسمح للآخرين بالمخاطرة، خاصة إن كانت قادرة على تحملها بنفسها.
"لن يصيبني مكروه،" ، تابعت كلاريون بهدوء : "أقسم أنني لن أفعل شيئًا يهدد مكانتك عن قصد."
مررت أرتميس يدها في شعرها، وأطلقت تنهيدة طويلة : "إن كنتِ تؤمنين حقًا أن هذا هو الطريق الصحيح، فأنا أثق بك."
—أنا أثق بك. كم تمنت كلاريون سماع تلك الكلمات. بالكاد صدقتها حين نطقتها .
قالت كلاريون بسرعة، فقط لتمنع العاطفة من التسرب إلى صوتها : "نعم،"
بدت أرتميس وكأنها ندمت على قرارها. "اذهبي إذًا. وإن جاءت جلالتها تسأل عنك، سأقدم لها أعذارك."
أمسكت كلاريون بيدها الحرة وضغطت عليها بلطف. "شكرًا لك."
نظرت أرتميس إلى يديهما بتعبير غريب، فيه شيء من التوتر. ثم سحبت يدها، وأعادت ترتيب ملامحها لتعود إلى قناع الاحتراف.
"عودي قبل أن يحلّ الظلام."
------------------------
قبل دقائق فقط من غروب الشمس، كانت كلاريون تنتظر على الجسر الذي يصل بين الربيع والشتاء.
جلست على الطحالب الرطبة التي تغطي الجذور، و تركت قدميها تتدليان فوق الماء.
انعكاسها كان يحدّق بها، محاطًا بهالة ناعمة من أجنحتها في ضوء الشفق ، و هناك، رغم ما توعد به الليل من خطر، شعرت بشيء يشبه السلام ، مع همهمة النهر الصامتة تحت قدميها، وتساقط الثلج المستمر على الجانب الآخر من الحدود، بدا الأمر كأنه...
"لقد جئتِ."
شهقت كلاريون، وكادت تسقط في الماء.
وحين استعادت توازنها، رفعت نظرها لتجد ميلوري واقفًا على بعد خطوات منها.
متى وصل؟ بدا وكأنه خرج من الثلج نفسه.
فتحت فمها لتتحدث، لكن شيئًا في دهشته الهادئة سلب الكلمات من لسانها. لم تعرف إن كان ذلك قد أزعجها أم جعلها تشعر بالقرب منه. ثم فكرت، ربما لم تمنحه سببًا كافيًا لينتظرها.
بعد لحظة، أدركت أنها نصف مستلقية على الأرض، تحدّق فيه وفمها مفتوح. ولم يساعدها أن ميلوري بدا وسيماً في ضوء المساء.
كانت اثار الثلج قد تجمعت على رموشه، تتلألأ فوق شعره الأبيض، حتى بدا وكأنه مغطى بالصقيع.
تمنت كلاريون بصدق أن الحرارة التي تصاعدت في عنقها لم تصل إلى وجهها. أن تُؤخذ على حين غرة بهذا الشكل… لا يليق بها.
بخفة جناحيها، اعتدلت كلاريون وطفَت إلى الأرض، ثم نفضت العشب عن تنورتها بأناقة.
قالت : " لقد فعلتُها،" ، تابعت بصوت أكثر خفوتًا: "استغرق الأمر وقتًا أطول مما توقعت. كان عليّ أن أجد طريقة للعودة."
قال : "بالطبع،" تابع وقد عادت نبرة السخرية إلى صوته :: "لقد ذكرتِ التزاماتك في آخر مرة تحدثنا فيها."
أزعجها هذا التلميح. مهما كانت تصورات الناس عن حياة الملكات في جوف الجنيات، فهي مشغولة بحق.
"لم يكن الأمر سهلاً. كنتُ تحت مراقبة دائمة، وحظر التجول الجديد زاد الأمور تعقيدًا."
لانت تعبيراته، وظهر القلق في عينيه. "حظر تجول؟"
"نعم. تعرضنا لهجوم." بدا التفسير ضئيلًا مقارنة بما حدث فعلاً. وحين استرجعت التفاصيل، شعرت بمعدتها تبرد من الرعب والذنب. كانت تتمنى لو استطاعت منعه.
"سقط أحد عشر جنّيًا في نوم غريب. معالجونا يحاولون إيقاظهم، لكن..."
"أنا آسف."
بدا وكأنه يعنيها حقًا. والأسوأ، بدا وكأنه يظن أن ذلك خطأه.
"عدة جنيات شتوية تعرضن لنفس المصير. ولم نتمكن من تطوير ترياق أيضًا."
غمره حزن رهيب، واضطرت كلاريون إلى مقاومة رغبة غريبة… في ماذا؟ لم يكن لديه عزاء ليقدمه لها. لكن على الأقل، هو يفهم. لا شيء أسوأ من أن تكون عاجزًا حين يعتمد الآخرون عليك. ابتسمت كلاريون ابتسامة حزينة وقالت :
"هل ما زلتَ تظن أنني أستطيع مساعدتك؟"
"نعم." تابع بتردد : "فقط لم أظن أنكِ ستعودين. لماذا فعلتِ ذلك؟"
قالت : "لأنني أريد أن أسمع خطتك." ، ثم ضمّت ذراعيها إلى صدرها، تحتمي من برد الحدود ومن الأخبار التي عليها أن تنقلها.
"بما أن لا أحد يعرف كيف يُدمّر تلك الوحوش، فإن إلفينا تنوي حبسها في الشتاء. ستقطع الجسور التي تربط الشتاء بباقي الفصول. ستحصلون على غبار الجنيات، لكن..."
تحوّل وجه ميلوري إلى شاحب كثلج الشتاء. شعرت كلاريون، ولأول مرة منذ أيام، بأنها أقل وحدة؛ أن ترى شخصًا يشاركها نفس الرعب الذي يسكنها كان عزاءً غير متوقع.
مئات المشاعر والأفكار مرّت على وجهه، لكنها اختزلت في سؤال واحد:
"ألا توافقينها الرأي؟"
"بالطبع وافقتها. لقد رأيت الوحش بنفسي." حين تغلق عينيها، كانت لا تزال ترى الكابوس، كصورة محترقة في ذاكرتها. ربما لم نسقط في النوم، لكن الكائن ظلّ يطارد أحلامها.
تابعت : "لن أتركك تواجههم وحدك. لم أكن قوية بما يكفي لحماية أحد، لكن حين ضربته بسحري… لا أعرف ما حدث بالضبط. بدا وكأنه خائف. إلفينا منعتني من التدخل، لكنني أرفض أن أسمح لها بتنفيذ خطتها إن كنت قادرتاً على تدميرهم."
"لا أحد في الشتاء استطاع صدّهم،" تابع ميلوري، بنبرة أقرب إلى الذهول.: "ربما تكونين المفتاح !"
المفتاح. لم يكن ليقول ذلك لو عرف كم هي قليلة خبرت في سحر المواهب الحاكمة.
اسرت : "لا أعلم إن كنت كذلك. "
نظرت بعيدًا وقالت : "الشيء الوحيد الذي يمكنني إضافته هو أنهم يُدعون الكوابيس. إلفينا أخبرتني بذلك على الأقل. لكنك كنت تعرف ذلك، أليس كذلك؟"
"نعم،" قال بتردد. "أعرف ما هم عليه."
—سابقتم لم تكن صريحتاً معك، هكذا قال لها ذات مرة.
لا، لم يكن كذلك على الإطلاق.
وبدا أنه فهم صمتها على أنه خيانة، فأضاف:
"معرفتي ناقصة، لكنني أؤمن أن ملكات الجنيات يملكن معلومات لا أملكها. وحين أدركت أنك تعرفين أقل مني..."
عبس، وكأنه يبحث عن الكلمات التي تجعلها تفهمه ...
"لم يكن هناك الكثير من حسن النية بين مملكتينا. كنت خائفًا ألا تثقي بي إلا إن سمعتِ الأمر من الملكة إلفينا نفسها."
قالت كلاريون بهدوء : "أفهمك "
—لم يكن مخطئًا، على ما يبدو.
ارتخت كتفاها، وشعرت ببعض الراحة. "كيف عرفت عنهم؟"
"هناك بحيرة متجمدة في أعماق غابة الشتاء، لطالما استخدمت لاحتواء الكوابيس."
وحين تأملت وجهه، لاحظت كم بدا مرهقًا. الظلال تحت عينيه كانت ثقيلة، كأن النوم قد جافاه لأيام. كم من الليالي قضى مستيقظًا، قلقًا على شعبه؟
تابع : "لقد هربوا أخيرًا."
"كأنها سجن،" همست. ثم أدركت فجأة. "إذًا أنت..."
"نعم،" قال بتعب. "لهذا يُطلق عليّ لقب حارس غابة الشتاء."
—يا له من عبء ثقيل! فكرت كلاريون. لا عجب أن الذنب يثقل ملامحه الآن.
هل كان يظن حقًا أن هذا كله خطؤه؟ جزء منها أراد أن تمد يدها، أن تزيل التوتر من جبينه، أن تضع يدًا مطمئنة على ذراعه. لم يعد هذا عبئًا عليها وحده.
لكنها قاومت تلك الرغبة، وقالت، بلطف فاجأها:
"أريد أن أساعدك. أخبرني كيف."
خفّف ذلك بعضًا من يأسه.
"هناك مكان يُدعى قاعة الشتاء، حيث تُحفظ نسخة من كل النصوص التي تخص جوف الجنيات . يشرف عليها جني تيعرف باسم حافظ معرفة الجنيات. هناك كتاب واحد في مجموعته لا يستطيع هيطو ولا أنا قراءته. ونعتقد أن سحر المواهب الحاكمة وحده قادر على فتحه."
—كل نصوص جوف جوف الجنيات؟ يا له من أمر مذهل.
شعرت كلاريون بحماس يتصاعد، لكنها سرعان ما خمدت حين تذكّرت أن سحرها بالكاد يُستدعى. كانت ذات موهبتة حاكمة بالاسم فقط. وحين احتاجها الأمر حقًا، خذلته.
لكن لم يعد هناك جدوى من قول ذلك الآن.
أجبرت كلاريون ابتسامة على وجهها. وقالت : "هل يمكنك إحضاره لي؟"
."الكتاب ثقيل جدًا، ولا يمكن حمله ، كما أن الحافظ....."
تجهم وجه ميلوري، وكان ذلك أبلغ من أي كلمات ، لا بد أن الحافظ جنّي مهيب بحق، ليحصل على هذا القدر من الاحترام في قلب حارس غابة الشتاء نفسه.
تابع : "لا أعرف ما الذي قد يحدث له إن تعرّض للعوامل. إنه كتاب قديم جدًا."
حسنًا، هذا سيجعل الأمور أكثر تعقيدًا.قالت كلاريون : "ما الذي تقترحه إذًا؟"
أجاب دون تردد:
"عليك أن تأتي إلى الشتاء معي."
أول فكرة خطرت لها كانت: مستحيل. وغريزتها الأولى كانت أن تضحك، لكنها على الأقل نجحت في إخفاء ردّ فعلها بفضل تدريبها الملكي على ضبط النفس.
هل طلب منها أن تذهب معه إلى الشتاء؟
هذا خارج نطاق التفكير، إن كان ممكنًا أصلًا. لم تستطع إخفاء دهشتها وهي تقول:
"وكيف تقترح أن أفعل ذلك؟"
قال ميلوري بتردد، وكأنه لا يصدق الأمر بنفسه:
"الحافظ أخبرني أن الجنيات الدافئات كنّ يعبرن إلى الشتاء في الماضي."
إن كان ذلك صحيحًا، فبالتأكيد لم يحدث في عهد إلفينا.
لكن فكرة أن الآخرين قد عبروا من قبل جعلت قلبها يخفق. كم مرة تساءلت عن وجود الجسور، وكم أعجبت بنقوش الشتاء في أرجاء القصر؟
—الأمر منطقي. ربما كانت ممالكهم تنتمي لبعضها بالفعل.
قال : "إن استطعتِ إيجاد طريقة لحماية أجنحتك من البرد،فستتمكنين من العبور لفترة قصيرة."
نظريًا، هذا صحيح. طالما بقيت أجنحتها معزولة، فلن تتجمد.
أطلقت كلاريون تنهيدة طويلة، محاولة طمأنة نفسها ، لم تصدق أنها تفكر في خطة بهذه الخطورة، خاصة بعد الوعد الذي قطعته لأرتميس ، لكن إن كان ذلك سيحمي شعبها، في الشتاء وفي الفصول الدافئة، فلم يكن أمامها خيار آخر.
قالت : "حسنًا. لا أعرف كيف سأفعلها بعد، لكن..."
وقبل أن تكمل، جاءتها الإجابة ، بيترا ! ، إن كانت هناك جنية واحدة يمكن الاعتماد عليها لاختراع شيء عبقري، فهي بيترا.
تلألأت عينا ميلوري الرماديتان بتوقّع. : "لديكِ فكرة ؟ "
قالت بتردد : "نعم ، لكنها تتضمن إشراك أكثر جنية حذرة في جوف الجنيات… في أكثر خطة متهورة وضعتها في حياتي."
"لا أطلب أكثر من المحاولة. شكرًا لك."
كان يتحدث بصدق، وبأمل جعل قلبها يرتجف. امتنانه، ومعرفته بأنها موضع ثقة بهذا العمق، كانا ثمينين. أرادت أن تبقيه قريبًا.
"بالطبع."
شعر بثقل الصمت أيضًا. نظر بعيدًا قبل أن يكسره بقول :
"لا يبدو أن لدينا وسيلة للتواصل في الوقت الحالي. إن أردتِ، يمكنني الاستمرار في انتظارك هنا عند الغروب."
"كل ليلة؟" ، رفعت كلاريون حاجبًا. ، "ألا يفتقدك أحد؟"
أمال رأسه. "ماذا تقصدين؟"
سألت : "ألا يتبعك أحد؟" ، ثم شعرت بالحرارة تتصاعد في وجهها حين أدركت ما قالته بالضبط.
"أعني… ألا يهتم أحد بأنك تتسلل إلى حدود الربيع كأنك شبح؟"
إن كان قد شعر بالإهانة، فلم يظهر ذلك. بل بدا وكأنه يستمتع بالعلاقة التي تشكّلت بينهما.
"لو علمت جنيات الشتاء أنني... ماذا قلتِ؟ أتسكع عند الحدود؟ فلن يعجبهن الأمر. لكننا الآن في الربيع، وكل شيء هادئ. ثم، من يهتم حقًا بما أفعله؟ لا أحد أعلى مني في المكانة… سوى أنتِ."
—سواكِ.
تعثّر قلبها وهو تعيد تلك الكلمات في ذهنها. وكأنها نسجت تعويذة جعلت العالم كله ينحصر في هذه اللحظة: الثلج يتساقط برفق على الأرض، ونظراته الثابتة عليها.
أزاحت خصلة شعر خلف أذنها، وامتنعت عن تذكيره مجددًا بأنها لم تصبح ملكة بعد ، وجدت نفسها تتوق لمعرفة المزيد عن طريقة سير الأمور في الشتاء، فقط لتتخلص من هذا الخفقان الذي يربكها.
"هل كان هناك حارس سابق لغابة الشتاء درّبك؟"
هزّ رأسه : "ترك ملاحظاته فقط. هذا كل ما تركه لي."
قالت : "واو."
لم تستطع كلاريون تخيّل مدى صعوبة أن تضطر لتجميع الأمور من بقايا ما تركه شخص آخر، وأن تفعل ذلك وحدك تمامًا.
وزراء الفصول في المواسم الدافئة يعملون بنفس الطريقة: يختفي أحدهم قبل أن يصل الآخر، دون أن يتقاطعوا ، لكن الملكة كانت دائمًا النور الذي يهديهم، الصخرة التي يستندون إليها.
وهذا كان وجهًا آخر من أوجه الإهمال الذي عانت منه مملكة الشتاء ، شعرت كلاريون بثقل الذنب في معدتها.
ميلوري، وقد شعر على ما يبدو بانحدار أفكارها، ابتسم ابتسامة صغيرة و قال :
"كانت ملاحظات دقيقة جدًا، لا تقلقي."
ضحكت كلاريون، والصورة الذهنية لميلوري الجديد، المرهق، يبحث في كتاب قديم عمره قرون عن إجابات، اخترقت كآبته كزخة مطر صيفية.
"أتمنى أن تكون منظمة جيدًا، على الأقل."
أجاب بجدية مصطنعة : "حسب الموضوع، .
"حسنًا."
ترددت كلاريون، فجأة فهي لا تريد المغادرة.
"لا ينبغي أن أتأخر. إن لم أعد قبل حلول الظلام تمامًا، ستقلق حارستي."
نظر إليها : "إذًا عليكِ أن تسرعي."
بالفعل، عليّها ذلك.
كان القمر قد ظهر في السماء، هلالًا رقيقًا، كعين تنفتح ببطء.
"سأراك بأقرب وقت ممكن."
"اعتني بنفسك، كلاريون."
صوت اسمها منه أغرقها بدفء مفاجئ. لكنه لم يدم طويلًا.
وحين رمشت، كان قد اختفى مجددًا، تاركًا خلفه دوامة من الثلج تتلألأ تحت ضوء القمر الخافت.
تعليقات
إرسال تعليق