أجنحة من ضوء النجوم ٩
في صباح اليوم التالي، وجدت كلاريون أرتميس متربعة بين أغصان الشجرة خارج شرفتها. بدا أن شجرة غبار الجنيات، وقد استبدّ بها مزاج عابث، قد نمت فوقها بستانًا صغيرًا بكل ما للكلمة من معنى.
توتات صغيرة بألوان متعددة كانت تتدلى من الأغصان، تنثر في الهواء عبيرًا خفيفًا من الحلاوة. أرتميس، إما غافلة أو تتظاهر بذلك، كانت منشغلة بنقشها اليدوي. كانت شفرة ورقتها الرفيعة تلمع تحت ضوء الصباح وهي تعمل. منظرها ملأ قلب كلاريون بمودة متجددة.
نادراً ما تجد من يمكن الوثوق به مثلها.
"حسنًا؟" سألت أرتميس دون أن ترفع نظرها. "هل وجدتِ حارس غابة الشتاء؟"
لم يعجب كلاريون ذلك الاضطراب الخائن في معدتها عند سماعها لتلك الكلمات. ميلوري لم يكن "لها" بأي شكل. لم تكن قد تسللت من أجل لقاء عاطفي، بعد كل شيء.
"وجدته."
أخيرًا، نظرت أرتميس إليها. وكان في عينيها بريق لا يُخطئه أحد—بريق أمل.
"وهل كان لديه المعلومات التي أردتها؟"
"ليس تمامًا. لكنه يعرف أين يمكن أن نجدها."
اتكأت كلاريون بمرفقيها على الحاجز، وعبست وهي تسند ذقنها إلى قبضتيها.
الآن، لم يتبقَ سوى مسألة صغيرة: إخبار أرتميس بما يتطلبه العثور على تلك المعلومات. بالكاد أقنعتها بالسماح لها بزيارة الحدود. أما أن تُشركها في خطة لعبورها... حسنًا، ستتكيف مع ذلك.
"وبهذه المناسبة، هناك مكان أود الذهاب إليه اليوم."
اهتز الغصن الذي كانت عليه، كما لو كانت تستشعر شيئًا خفيًا فيه. كلاريون لاحظت ذلك، لكنها لم تعلق.
"حقًا؟" بدت أرتميس مذهولة إلى درجة أن كلاريون لم تستطع منع نفسها من الضحك. نادرًا ما كانت ترى منها هذا القدر من التعبير الصريح.
"اعدك ليس مكان خطر هذه المرة ، أود الذهاب إلى ركن الصناع. أحتاج أن أطلب من بيترا معروفًا."
أرتميس أشرقت للحظة، لكنها سرعان ما أعادت ملامحها إلى الحياد.
"معروف؟"
من الأفضل أن تنهي الأمر الآن، هكذا فكّرت كلاريون.
"آمل أن أتمكن من فعل شيء يساعدني على عبور حدود الشتاء."
كادت أرتميس أن تسقط سكينها من يدها. تلعثمت للحظة قبل أن تحدق في كلاريون بنظرة لا تصدق.
"ماذا؟!"
أضاف كلاريون بسرعة: "لفترة قصيرة جدًا!، أحتاج فقط أن أقرأ له كتابًا."
"أن تقرأي له...؟"
تاه صوت أرتميس وهي تضغط على جسر أنفها. وحين أسقطت ذراعها بتراخٍ إلى جانبها، بدا على وجهها أنها قررت ألا تطرح المزيد من الأسئلة. وحين تحدثت مجددًا، بذلت جهدًا نبيلًا لتبدو دبلوماسية.
"جلالتك، هل أنت متأكد أن هذه فكرة جيدة؟ أنا أثق بحكمك على الأشخاص، بالطبع، لكن هذه رحلة محفوفة بالخطر."
"أعلم، وأعلم أنني أطلب الكثير. لكنني لا أرى طريقًا آخر."
تنهدت أرتميس باستسلام، ووضعت سكين الشحذ وتمثالها الصغير المشوه في جيبها.
"هل نذهب لزيارة ركن الصناع؟"
كلاريون، وقد غمره ارتياح شبه كامل، اتكأ على الشرفة.
"نعم. شكرًا لكِ."
وانطلقا معًا نحو ركن الصناع، محلقين فوق الأشجار. من هذا العلو، بدت "جوف الجنيات" كأنها بساط من الالوان.
هنا وهناك، لمح كلاريون بعض المستكشفين وهم يتشبثون بأعلى أغصان الصنوبر. أومأوا لها بصمت أثناء مرورها.
"هل وجدوا شيئًا بعد؟"
قالت أرتميس بصرامة :"لا ،ليس حسب علمي."
تابعت : "من الصعب تصديق أن شيئًا بهذا الحجم يمكن أن يختفي دون أثر."
"حتى لو وجدوا شيئًا..." بدا القلق على وجه أرتميس.
"ذلك الشيء لم يرتجف حتى عندما أصابته سهامي. لكنني رأيت ما فعلته سحرك."
شعرت كلاريون بدفء داخلي من نبرة التقدير الصريحة في صوتها. والحق يُقال، لم تكن تعرف تمامًا ما فعلته. في لحظة، شعرت وكأنها استسلمت لمصيرها: إن كان لا بد أن تموت، فلتكن وهي تحمي أحدهم. وفي اللحظة التالية: نور ذهبي، ساطع كنجمة ساقطة. لم تكن تعلم أن أرتميس قد رآته، خاصة أنه أسقطها أرضًا فورًا. حتى أنه لا تزال الجروح في مرفقيها تؤلمها.
قالت كلاريون بهدوء : "إذن أنت تفهمين، لماذا أفعل ما أفعل."
"لا أظن أنك تعرفين تمامًا ما تفعلين، لكنني وضعت ثقتي فيك."
ابتسمت أرتميس ابتسامة خفيفة، ثم تذكرت فجأة أنها كانت جريئة أكثر من اللازم. فأضافت بنبرة جادة:
"مع كامل الاحترام، بالطبع، يا جلالتك."
لم تكن تلك الثقة التي كانت كلاريون تأمل بها، لكنها كانت كافية في الوقت الحالي.
ظلّتا تحلقان بصمت حتى وصلتا إلى كوخ بيترا، في ركنه المنعزل من ركن الصناع .
، كانت قطرات الندى على السقف المغطى بالطحالب تتلألأ بشكل جذاب في ضوء الصباح ، وعندما وصلتا إلى الشرفة الأمامية للمنزل، مررت أرتميس أصابعها على الخشب الخشن وطرقته...
بنبرة تحمل دهشة حقيقية، قالت أرتميس:
"لم أكن أعلم أن الحرفية بهذه المهارة."
ابتسمت كلاريون ابتسامة صغيرة، خفية.
"هل رأيتِها يومًا وهي تركز على شيء؟ الأمر مرعب فعلًا."
وبما أن وجه بيترا الشاحب المرقط بالنمش لم يظهر خلف النافذة، فمن المرجح أنها كانت في إحدى حالات الغياب الذهني التي تشتهر بها. في الواقع، كانت جميع الستائر مسدلة، تحجب الضوء تمامًا. نعم، يمكن أن تكون بهذه الحدة. معظم الحرفيين الآخرين يتجنبونها حين تنغمس في مشروع ما. تتحول إلى جنية مختلفة تمامًا.
لم يأتِ رد من الداخل، لكن صوت ارتطام المعادن كان واضحًا. لا شك أن بيترا كانت غارقة في عالمها الخاص.
سألت أرتميس :"هل نعود لاحقًا؟" .
"لا حاجة." قالت كلاريون وهي تجرب المقبض. الباب كان مفتوحًا بالفعل .
نظرت أرتميس إلى الباب نصف المفتوح بنظرة مشوبة بالاستياء والارتباك. من الواضح أنها كانت تملك الكثير لتقوله عن هذا النوع من "الأمن"، لكنها اختارت الصمت.
دفعت كلاريون الباب، فاستقبلها اندفاع من الحرارة ورائحة الِحام. بدأ العرق يتجمع في مؤخرة عنقها ، و غبار الجنيات كان يتلألأ في الظلمة الخانقة.
أدوات لا يعرف أسماءها كانت تطوف في الهواء، كأن تيارًا خفيًا يحملها. وهناك، منحنية فوق منضدة العمل، تغمرها وهج فرنها، كانت بيترا.
خصلاتها الحمراء كانت فوضوية، ونمشها اختفى خلف خطوط من الذهب والسخام.
كانت تدق على صفيحة معدنية رقيقة، تشكّلها بتركيز كامل، حتى أن كلاريون ظنت أنها لم تلاحظ وجودها.
"كلاريون."
جاء صوت بيترا هادئًا بشكل غريب. وأشارت إلى أداة تطوف بالقرب.
"ناولني تلك."
وقفت أرتميس عند الباب، بينما ابتسمت لها كلاريون بتشجيع قبل أن تستجيب لطلب بيترا. وحين سلّمتها الأداة، قالت:
"أحتاج أن أطلب منكِ معروفًا."
أصدرت بيترا صوتًا شاردًا يدل على أنها تستمع، لكنها لم تنظر إليها.
على الأقل، لم تظن كلاريون أنها فعلت. كانت ترتدي نظارات الأمان التي ابتكرتها العام الماضي بمساعدة جنية من مواهب الماء. قطرات من الندى، مصبوغة بالتوت البري وقشور الجوز، تم لصقها داخل إطارات معدنية. ولهذا، لم تستطع كلاريون رؤية عينيها.
"أحتاجك أن تساعديني على عبور غابة الشتاء."
"ماذا؟!"
ترنحت بيترا بعيدًا عن منضدة العمل، وكادت تصطدم بالجدار. انزلقت نظاراتها على وجهها، وانفجرت عدسات الندى من شدة الحركة. تساقط الماء على وجنتيها، تاركًا خطوطًا سوداء، لكنها بالكاد لاحظت ذلك من شدة الصدمة.
"ماذا قلتِ؟!"
كررت كلاريون : "أحتاجك أن تساعديني على عبور غابة الشتاء."
"سمعتك،" قالت بيترا بجدية قاتمة، وهي تمسح بقايا النظارات بظهر يدها.
"ما لا أفهمه هو لماذا تريدين الذهاب إلى الشتاء ؟ "
—حاولت كلاريون : " لأجل سبب مهم جدًا جدًا؟" .
"لكن هذا مخالف للقواعد!"
"عبور الحدود ليس ممنوعًا."
تقنيًا، لم يكن كذلك. لكنه كان خطرًا دون احتياطات مناسبة، مما جعله وجهة غير محبذة.
قالت بيترا : "ربما ليس ممنوعًا بالنسبة لي،لكن بالنسبة لك، يكاد يكون كذلك."
قالت أرتميس من خلف الغرفة :"وأنا أميل إلى الموافقة." .
صرخت بيترا بدهشة، ثم ما إن أدركت من الذي تحدث، حتى تلاشى اللون من وجهها، ثم عاد إليه دفعة واحدة.
"أنتِ! ماذا تفعلين هنا؟"
نظرت أرتميس خلف كتفها، وكأنها تتأكد إن كان هناك شخص آخر قد أثار هذا الانفعال. وحين التفتت مجددًا، بدت عليها علامات التوتر. بلعت ريقها، ثم قالت:
"أرافق جلالتها، التي كانت... مصرة جدًا على هذا القرار. هل يمكنك المساعدة أم لا؟"
حدّقت بيترا فيها بذهول.
"أنتِ متورطة في هذا أيضًا؟"
تنهدت أرتميس.
"للأسف، نعم. والآن، أنتِ أيضًا."
قاطعهتا كلاريون بسرعة، قبل أن تفقد السيطرة على الموقف : "لن يعرف أحد أنكِ ساعدتني." .
لكن بيترا ضربت بمطرقتها في اتجاهها .
"لم أوافق بعد! دائمًا لديك خطة مجنونة، وهذه المرة، أنا..."
أمسك كلاريون بمعصمها وسحبها للأسفل، فقد بدأت تلوّح بالمطرقة بطريقة مقلقة.
"الكوابيس جاءت من الشتاء. إن استطعت عبور الحدود والتحقيق، ربما أتمكن من منع تكرار ما حدث. والأهم، يمكنني إقناع إلفينا بأن خطتها ليست ضرورية."
تأوهت بيترا.
"هذا لا يجعلني أشعر بتحسن، بل أسوأ. كدتي تموتين في ذلك اليوم، والآن تريدين أن ترمي نفسك في طريقه مجددًا؟ لن أكون السبب في ذلك."
امتزجت الرقة بالغضب في صوت كلاريون.
"وهل تريدين أن تعيشي حياتك كلها بهذا الشكل؟ خائفة من هجوم مفاجئ؟ محاطة بالحراس أينما ذهبت؟"
قالت بيترا بصوت خافت : "لا." .
قالت كلاريون، وهي تضغط على ساعدها: "أنا أستطيع إيقافه، لكنني بحاجة إلى مساعدتك. أرجوكِ؟"
فركت بيترا عينيها براحة يديها.
"لماذا أنا؟ لست موهوبة في الخياطة. إن أردت حماية أجنحتك من البرد، فأسهل طريقة هي ارتداء ملابس مناسبة."
ثم، وكأن فكرة خطرت لها فجأة، أضاء وجهها.
"لماذا لا تطلبين من باتش؟ يمكننا حينها أن نتظاهر بأن هذه المحادثة لم تحدث."
كان باتش موهوبًا في الخياطة، وقد صنع عدة فساتين لكلاريون على مرّ السنين. لكن معطفًا شتويًا؟ لن يوافق على طلب كهذا دون تفسير، وسيخبر إلفينا فورًا إن حصل عليه. كما أن لديه عادة مزعجة: التحديق دون رمش، مما يجعل كلاريون تشعر وكأن روحها تُقاس بكلماتها.
،" قالت كلاريون بتكاسل، وهي تدور أداة بين أصابعها : "يمكنني ذلك. ، لكن باتش ليس أفضل حرفي في جوف الجنيات ."
رفعت بيترا رأسها بفخر.
"حسنًا، أنا..."
انتزعت كلاريون إحدى أدواتها الطافية في الهواء وبدأت تعبث بها.
"إلا إذا كنتِ تعتقدين أنكِ غير قادرة على المهمة."
تذمرت بيترا : "اتركيها،"
تابعت : "وبالطبع أنا قادرة. لن تكون صعبة من الناحية العملية. قد لا تبدو أنيقة، لكن..."
قالت كلاريون بحماس زائد قليلًا. : "لا يهمني الشكل،"
تابعت : "هل يمكنك فعلها؟"
"لدي الكثير من الأمور الأخرى، كما تعلمين. لكن... أعتقد أنني أستطيع."
شحب وجه بيترا، ثم دفنت وجهها بين يديها.
"لا أصدق أنني سأفعل هذا. أرجوكِ، لا تجعليني أندم."
أسندت كلاريون رأسها على كتفه وهمست:
"شكرًا لك."
ردّت بيترا بصوت منخفض:
"أنتِ مدينة لي... بهذا على الأقل."
ابتسمت كلاريون رغمًا عنها.
"أعرف."
-----------
في تلك الليلة، ذهبت كلاريون إلى الحدود. لم تكن تعرف بالضبط لماذا، فلم يكن هناك شيء عاجل لتقوله لميلوري، لكنها لم تستطع تجاهل الحماس الذي شعرت به بعد انتصارات اليوم الصغيرة.
لأول مرة منذ ظهور الكوابيس، أصبح لديهم طريق واضح.
وكان هناك شيء مؤثر في فكرة أنه ينتظرها هناك، يتجول وحده على الحدود حتى تعود.
لقد فعل ذلك كل ليلة طوال الأسبوع، لكن الأمر بدا حزينًا جدًا.
وإن أراد، فلن يكون أيٌّ منهما وحيدًا بعد الآن.
وصلت في اللحظة التي بدأ فيها لون السماء يتحول إلى درجات وردية هادئة.
وعبرت الحدود، كانت أشجار الصنوبر والبتولا ترسم ظلالًا حادة مع غروب الشمس.
وهذه المرة، كان ميلوري هناك بالفعل.
يجلس على الجسر، وفي يده كتاب مفتوح.
التفت إليها في تلك اللحظة، وكأنها نادته.
لم يكن لديها القدرة على اخفاء مشاعرها، فقد ظهر على وجه ميلوري تعبير غريب لم تستطع تفسيره.
بدا مبهورًا، وكأنه كان يحدّق في الشمس مباشرة.
ولوهلة، نست كلاريون كيف تتنفس.
لكن حين رمشت، عاد وجهها إلى هدوئها المعتاد.
ربما تخيّلت تلك النظرة الحالمة.
إقناع نفسها بذلك جعل الأمور أسهل.
جلست كلاريون على حافة الجسر.
وبنبرة حاول أن تجعلها متزنة، قالت:
"مساء الخير."
"مساء النور."
أغلق الكتاب.
نظرة سريعة إلى الغلاف كشفت أنه كتاب لا تعرفه، لكن العمود الذهبي الرفيع ذكّرها بمجلدات الشعر في المكتبة.
فكرت في سؤاله عنه، لكنه قال:
"لم أتوقع عودتك بهذه السرعة."
لم يكن يبدو منزعجًا، لكن ملاحظته أحرجتها أكثر مما توقعت ، ربما كان عليها أن تنتظر ليلة أو اثنتين قبل أن تعود.
لكن إن كانا سيعملان معًا، فليس في العجلة ما يُخجل.
قالت بنبرة مزاح وكأنها تشعر بالإهانة:
"إذًا، لقد قللت من شأني."
"خطأ لن أكرره."
ارتسمت ابتسامة خفيفة على شفتيه، ابتسامة حاولت كلاريون ألا تلاحظها.
تابع : "وماذا أنجزتِ في يوم واحد؟"
مررت يدها على طيات غير مرئية في تنورتها.
"وجدت طريقًا للعبور، لكن قد يستغرق الأمر بضعة أيام قبل أن أتمكن من تجربته."
"هذا خبر رائع." قطّب حاجبيه بتفكير ثم تابع : "ألم تتورطي في أي مشكلة؟ قلتِ إن لديك التزامات..."
"صحيح." تنهدت ببطء : "تلك الالتزامات."
ساد الصمت بينهما بينما كانت كلاريون تفكر فيما يمكن أن تقوله له.
لم يكن الهدوء يومًا يربكها، لكنها وجدت نفسها تتوق لكسر هذا الفراغ.
هي وميلوري لن يكونا يومًا صديقين، ليس بالمعنى التقليدي.
لكن هنا، في هذا الشفق، بدا الفراغ بينهما كجدار صلب، لا شيء يبدو حقيقيًا تمامًا.
فما الضرر في أن تتظاهر؟
ببطء، جلست كلاريون إلى جانبه على الجسر، حتى أصبحا كتفًا إلى كتف تقريبًا.
كان السحر المتدفق عبر جذور شجرة غبار الجنيات يدفئ راحتيها، ويمنحها شعورًا بالثبات.
ومن هذا القرب، استطاعت أن ترى ندف الثلج تتجمع في شعره الأبيض، والظلال الرقيقة التي ترسمها رموشه على عظام وجنتيه.
تسللت إليها تلك الفكرة المقلقة من جديد، دون إذن:
جميل.
ثم همست لنفسها:
و الأشياء الجميلة خطرة.
قالت : "لم أكن أقدّر كم يتطلب التخطيط لحفل التتويج."
أسندت ذقنها إلى يديها، تحدّق في انعكاسها المتماوج على سطح النهر ثم تابعت :
"الجميع يريد رأيي في كل تفصيلة، وأنا بالكاد أستوعب أن الأمر سيحدث فعلًا. التوقعات..."
قاطعها : "يبدو أنه ضغط كبير."
نظرت إليه، وقد فاجأها صدق التعاطف في صوته.
وبخجل، أزاحت خصلة من شعرها خلف أذنها.
"لكن... لم تأتِ إلى هنا لتسمع مشاكلي. ليس كل شيء توترًا. هناك حفلة التتويج، ليلة اكتمال القمر القادم، قبل أسبوع من التتويج."
فتح ميلوري شفتيه، وكأنه أراد أن يقول شيئًا، لكنه تراجع.
وفي النهاية، قال:
"سنحتفل أيضًا في نفس الليلة."
ارتفعت نظرة كلاريون.
"حقًا؟"
"بالطبع."
كانت عيناها تلمعان بفرح هادئ.
"تتويجك يستحق الاحتفاء. نحن لا نفوّت فرصة للاحتفال في الشتاء."
ضحكت كلاريون بخفة، غير أنيقة، لكنها لم تهتم كثيرًا.
كانت قد تعلمت أن ميلوري يملك حس دعابة خفي، لكنها لم تستطع تخيّله في حفلة.
في الفصول الدافئة، تستمر الحفلات لساعات، مليئة بالاستعراض والرقص والضجيج.
أما الشتاء، وحارسه، فكانا أشبه بمياه بركة ساكنة.
: "حتى أنت؟"
"حتى أنا."
ردّ، وتعبير وجهه كان جادًا لدرجة أدهشتها.
وسمعت بوضوح ما لم يقله: في زمنٍ مضى.
أدركت أنه يفتقد ذلك البريق الدافئ في عينيه، وتساءلت كيف يمكنه أن يستعيده.
عدّلت تنورتها لتجلس متربعة، ثم اقتربت لتنظر إليه.
"وماذا تفعلون في حفلة شتوية؟"
ابتسم ميلوري لحماسها.
"أتخيل أننا نفعل ما يُفعل في حفلات الفصول الدافئة."
"لست واثقة."
تسلل إليها فضول لا يمكن كتمه.
"تذكّر أنني لا أعرف شيئًا عن الشتاء."
صمت ميلوري للحظات، وعيناه تبحثان في عينيها.
"وماذا تريدين أن تعرفي؟"
"كل شيء. "
الاعتراف بأنها لطالما شعرت بانجذاب ما لمملكته جعلها تشعر بانكشاف شديد.
لكن الآن، يمكنها أخيرًا أن تحصل على إجابات لكل الأسئلة التي راودتها منذ وصولها.
لكن من أين تبدأ؟
"لا أعرف... ما نوع المواهب التي لديكم؟"
اجاب : " عددها يفوق الحصر. لدينا مواهب الصقيع، ومواهب ندف الثلج، ومواهب الجليد، ومواهب الشُرَف الجليدية..."
بدأ رأس كلاريون يدور وهي تستمع إليه يعددها. كم من التعقيد يمكن أن يوجد في الماء المتجمد؟
سألت : "وأنت؟" .
بدت المفاجأة على ملامحه، وقد خفّفت من حدّتها.
"لا أعلم إن كان هناك اسم لما أنا عليه."
" بالطبع هناك ! "
لكل موهبة اسم، وحتى في الحالات النادرة التي تتطوّر فيها الموهبة الفطرية إلى شيء أكثر تخصصًا، يعرف الجني غالبًا ما يسميه دون تردد.
كم هو غريب إذًا أن تفوته هذه التفاصيل!
موهبة الحراسة بدت كأبسط تسمية، لكنها لم تكن مناسبة تمامًا.
كان فيها شيء غير مريح، كلوحة معلقة بشكل مائل، أو كنزة لا تناسب الجسد.
وفوق ذلك، كان يترك الكثير دون تفسير.
قالت بإصرار. : "مراقبة الكوابيس لا يمكن أن تكون كل ما تفعله،"
تابعت : "من يرحّب بالقادمين الجدد؟"
احابها : " نعم."
أجابها، فشعرت بالكهرباء تسري في جسدها.
اعتدلت في جلستها.
"ومن ينسّق التحضيرات لاجل موسم الشتاء ؟"
قال بحذر : "أعتقد ذلك،" .
تابع : ""لكنها جزء صغير جدًا من دوري. مهامي كحارس لغابة الشتاء تأتي في المقام الأول."
كلاريون : "لديك مسؤوليات مشابهة لإلفينا."
وحين أدركت ذلك، التفتت إليه، وعيناها تعكسان وهجه، تتّقدان بالحماس.
قالت : "ربما تكون موهبتك هي الحكم أيضًا! هل وُلدت من نجمة؟"
تردد ميلوري.
"لا، لم أولد من نجمة."
كلاريون : "أفهم."
ومن بين كل الاحتمالات، شعرت بخيبة أمل تتصاعد داخلها.
حاولت أن تبتلعها قدر ما استطاعت.
يا لها من سذاجة، أن تتوقع وجود شخص مثلها غير إلفينا.
وحين خفتت هالتها، ابتسمت له ابتسامة مترددة.
"ذهبت نظريتي إذًا. آسفة لأنني لم أكن مفيدة."
قال بلطف : "لا داعي للاعتذار. عدم المعرفة لا يزعجني،" .
كلاريون : "هل أنت بخير؟"
ميلوري : "أنا بخير."
حولت كلاريون نظرها نحو غابة الشتاء، غير قادرة على مواجهة الجدية التي ارتسمت في عينيه.
كانت ندف الثلج تتمايل مع الريح، وتذوب ما إن تقترب من الحدود.
كلاريون : "كنت أظن أن هناك شخصًا آخر مثلي في الشتاء. لكن من المنطقي ألا يكون. أن تكوني ملكة جيدة يعني أن تكوني باردة وبعيدة... كنجمة."
ومن زاوية عينه، لمح رد فعلها.
جسدها كله ارتدّ إلى الخلف، وكأن الكلمات أصابتها فعليًا.
قال : "هل هذا ما تؤمنين به؟"
ما الذي كانت تؤمن به حقًا؟
ما تؤمن به شخصيًا لم يكن مهمًا.
كلاريون : "هكذا علّمتني إلفينا دائمًا."
شبكت أصابعها في حجرها وتابعت :
"لكنني لم أكن كذلك يومًا. لطالما رغبت بأشياء لا ينبغي لي أن أرغب بها. وهذا أكبر عيب فيّ."
"هل هو كذلك؟ ، أنا أفهم الحاجة إلى هذا النوع من التفكير، لكن..."
وحين تجرأت على النظر إليه مجددًا، سلبها منظره أنفاسها.
كان غروب الشمس يرسم ظلالًا حادة على وجهه.
تابع ميلوري : "ما الخطأ في أن نتمنى لو أن الأمور كانت مختلفة؟"
الحاجة إلى هذا النوع من التفكير؟
شعرت كلاريون بثقل كلماته كأنها سكين في قلبها.
ربما لم يكن موهبة حكم مثلها.
ربما لم يمرّ بما مرت به تمامًا.
لكن في تلك اللحظة، لم يكن ذلك مهمًا.
شكل ألمه كان يشبه شكل ألمها.
ميلوري كان وحيدًا... تمامًا مثلها.
كانت تتوق لأن تضع يدها فوق يده، لكن شيئًا ما أبقاها ساكنة في مكانها، كأن الأرض جذبتها إليها.
لطالما أرادت أن يراها أحدهم، أن يراها حقًا، لا كما تبدو، بل كما هي في أعماقها.
والآن، وقد وجد من يستطيع ذلك، أدركت كم هو مخيف أن تسمح بذلك، وكم سيجعل هذه المهمة كلها أكثر تعقيدًا.
—لطالما رغبت بأشياء لا ينبغي لي أن أرغب بها.
ولم تشعر بصدق هذه العبارة كما تشعر بها الآن.
تعليقات
إرسال تعليق