أجنحة من ضوء النجوم ٧

  بالكاد استطاعت كلاريون أن تتذكر لحظة إعادتها إلى القصر.

كان الكشافة قد وصلوا بعد هروب الأفعى بلحظات، يحيطون بها في صمت، خطواتهم ثابتة.

 لم يوجه أحدهم إليها كلمة، أو ربما فعلوا، لكنها لم تكن قادرة على السمع.

 الألم كان قد نسج حولها ستارًا من الغشاوة، جعل كل شيء يبدو بعيدًا، كأن العالم قد انسحب منها.


 لم يعد شيء يلمسها حقًا. تتذكر، كأنها ترى حلمًا باهتًا، نظرات الذهول التي ارتسمت على وجوههم وهم يتفحصون المكان. 


تتذكر كيف شعرت بوخز مؤلم حين رأت الخدوش على ذراعها. وتتذكر ايضا كيف قادتها أرتميس بصمت بعيدًا عن غابة الخريف.


والآن، ها هي تجلس في غرفة إلفينا، مذهولة، متكئة على أريكة طويلة. 

في لحظة ما، خلعت أرتميس عباءتها ولفّتها حول كتفي كلاريون.

 كانت العباءة دافئة، ومع ذلك، كانت ترتجف.


 أحدهم وضع كوبًا من الشاي بين يديها، لكنه فقدت دفأها منذ زمن.

 الغرفة غارقة في عتمة هادئة، ستائرها الثقيلة تحجب الضوء، والشموع تنثر وهجًا ذهبيًا على الجدران. و الظلال تتسلل الى وجه إلفينا.


جاء صوت إلفينا، ناعمًا، يحمل دفئًا لم تسمعه منذ زمن، ليعيدها إلى جسدها : كلاريون ، ما الذي حدث؟"


ارتشفت كلاريون من الشاي، لا رغبة فيه، بل لتؤجل الإجابة. سحبت نفسًا عميقًا، حتى انقشع الضباب عن أفكارها. 

"لا أعلم إن كنت أستطيع وصفه كما يجب. كل شيء حدث بسرعة."


"أعلم ذلك. لكن حاولي، رجاءً."


فبدأت كلاريون تروي. كيف كانت اللحظة الأولى عادية، ثم فجأة، أصبح الهواء ثقيلاً، باردًا كأن الشتاء قد دخل من نافذة غير مرئية. كيف نهض ظلٌ أمامها، نصف حي، نصف حلم. كيف سقطت الجنيات من السماء كأنهن فقدن الحياة، ولم يستيقظن. كيف بدا الخوف ككائن حي، يثقل صدرها، يشلّ حركتها حين وقفت أمام الوحش.

 مجرد استحضار تلك اللحظة جعل جسدها يرتجف من جديد.

بينما كانت كلاريون تتحدث، لم يتغير تعبير إلفينا.

 لم يظهر عليها أي اندهاش، ولا ارتسمت على وجهها علامات الرعب. كانت نظراتها فقط تحمل استسلامًا قاتمًا، كأنها تعرف أكثر مما تقوله. 

وحين أنهت كلاريون سرد ما حدث تلك الليلة، اجتاحها شعور مقيت باليقين. لم تعد شكوك ميلوري تبدو سخيفة كما ظنّت.


قالت كلاريون : "أنت تعرفين ما هم عليه، أليس كذلك؟" .


انعكس وهج النار في عيني إلفينا، والظلال التي خلّفها حفرت خطوطًا صارمة على وجهها. للحظة، بدا وجهها بلا تعبير، كأنها تفكر في إنكار الأمر حتى الآن. ثم، بعبوس ثقيل، قالت:  

"يُطلق عليهم اسم الكوابيس."


الكوابيس؟ مجرد نطق الكلمة جعل القشعريرة تسري في جسدها.


تابعت إلفينا : "كما رأيتِ، لديهم قوة رهيبة، يُغرقون ضحاياهم في نوم مليء بالرعب. فور تلقينا أول إنذار، أمرت المعالجين بالعمل على ترياق. حتى الآن، لم تنجح أي من محاولاتهم. وزير الخريف وعشرة من سكان جوف الجنيات لم يستيقظوا بعد."


لم تستطع كلاريون استيعاب الأمر. حتى يتم تطوير الترياق، سيظل أحد عشر جنّيًا يعانون من كابوس حيّ، ربما إلى الأبد. تصاعد شعور بالذنب داخلها، لكن الغضب كان أقوى.

 كل ما فكرت فيه في تلك اللحظة هو كيف أخفت إلفينا عنها هذه الحقيقة. 

لو أنها فقط عرفت ما كانت تواجهه... لو أنها فقط أُتيحت لها فرصة الاستعداد...


"هل كنتِ تعرفين ما هم قادرون عليه؟"


ردّت إلفينا و قد تسللت نبرة دفاعية إلى صوتها : "وقد وضعتُ خطة للتعامل معهم ، المعالجون سيواصلون العمل ليلًا ونهارًا حتى يجدوا العلاج. وسنحرص على أن يبقى الجميع في راحة قدر الإمكان حتى تنتهي مهمتهم."


لكن كلاريون لم تكن مستعدة للبقاء في الظل بعد الآن.

 "ما هم؟"


"لا أحد يعرف على وجه اليقين." 

جلست إلفينا بجانبها على الأريكة، وضمّت يديها في حجرها. كانت تحدّق أمامها، ووجهها خالٍ من أي تعبير.

 "في زمن بعيد، كانت الملكات يعرفن أصل الكوابيس. لكن تلك المعرفة تآكلت مع مرور الزمن. ما تبقى لدينا مجرد شظايا."


كانت تيتانيا، أول ملكة لجوف الجنيات ، قد روت القصة لتلميذتها، وهكذا انتقلت من جيل إلى آخر، حتى وصلت إلى إلفينا ، لكنها وصلت مشوهة، ضبابية، كأنها حكاية خرافية تكررت حتى فقدت معناها.


 "كل ما يمكنني قوله هو أن الكوابيس تسكن في غابات الشتاء، حيث الليالي طويلة، والبرد يحتضن الأرواح كأنه يعرفها. لم يرهم أحد منذ زمن بعيد، لكن معلمي أخبرني: إن عادوا، يجب أن نتحرك بسرعة."


كلماتها تسللت ببطء إلى عقل كلاريون. على مرّ السنين، كانت إلفينا تمنحها فتاتًا من تاريخ جوف الجنيات ، لكن لم يكن هناك أي ذكر للكوابيس.

 من الواضح أن ذلك كان إخفاءً متعمدًا. وقبل أن تتمكن من كبح نفسها، وقبل أن تبتلع ألمًا آخر، قالت:  

"لماذا لم تخبريني من قبل؟"


"لم يكن الأمر يبدو مهمًا."


"يبدو مهمًا الآن."


همست إلفينا، والغضب يتسلل إلى صوتها :"وماذا تريدين مني أن أفعل؟ ، أنتِ لا تملكين السيطرة الكاملة على قدراتك بعد. أساطير عن أشياء قد لا تحدث، وربما لم توجد أصلًا، كانت ستشتت تركيزك."


ارتجف صوت كلاريون، مشحونًا بالغضب : "ليس من حقك أن تقرري ما يجب أن أعرفه وما لا يجب." 

الهجوم زعزعها أكثر من أن تتمكن من الحفاظ على هدوئها المعتاد ، هذاالحديث قد استنزفها تمامًا.

اسرت :  "كلاريون… تماسكي."


السيطرة. الهدوء. الصورة الملكية. إن لم تستطع أن تُظهر نفسها كملكة حقيقية، فلن تعاملها إلفينا على هذا الأساس.

 أخذت كلاريون نفسًا عميقًا، وحاولت أن تليّن ملامحها، أن تعيدها إلى حيادها المعتاد. هكذا تحبها إلفينا. هكذا كانت تقنعها بأنها جديرة بالثقة.


قالت كلاريون، بصوت متزن : "يجب أن أكون مستعدة لكل الاحتمالات، كيف لي أن أستعد إن كنت لا أعرف ما أواجهه؟"


وحين استعادت رباطة جأشها، لم تعد إلفينا تنظر إليها كشوكة متمردة على وشك أن تندفع بجنون . بل عادت إلى أرض مألوفة، أخيرًا. وبنبرة موزونة، قالت الملكة:  

"سوف تتولين الأمر."


وضعت كلاريون كوب الشاي على الصحن، بصوت خافت هشّ كأعصابها. "كيف؟"


ساد الصمت بينهما. للحظة، حتى ظنّت كلاريون أن الحديث قد انتهى. لكن إلفينا فاجأتها بردّها.


"علينا تقليل خطر وقوع مأساة أخرى. سأدعو إلى اجتماع غدًا لمناقشة خطة تأمين جوف الجنيات. وفي هذه الأثناء، سيتولى الكشافة مهمة مطاردة الكوابيس والتخلص منها."


لكن كلاريون لم تستطع إلا أن تتذكر سرعة هجوم الكابوس؛ و الجنيات اللواتي يتساقطن من السماء، والضوء الأحمر الدموي رسم ظلالًا على أجنحتهن، وغبار الجنيات الذي تسرب من أجسادهن .

 لا يمكن التخلص من وحش كهذا بهذه السهولة.


 لكنها تذكرت كيف فرّ حين أطلقت سحرها، كصرصور يهرب من وهج مفاجئ. لا تزال لا تعرف كيف فعلت ذلك، أو إن كانت تستطيع فعله مجددًا.


لكن إلفينا تعرف.


كلاريون : "إنهم يخافون من قوتنا."


ارتسمت الدهشة على وجه إلفينا. : "كيف ذلك؟"


"استطعت أن أستدعي قوتي، ولو للحظة. كنت أتمنى لو رأيتِه." 

حاولت كلاريون أن تكبح حماسها، أن تتذكر أن الهدوء، لا الحماسة، هو ما يكسب ثقة معلمتها.


 "أسلحة أرتميس لم تؤثر فيه إطلاقًا. لكن لو رافقته الكشافة أنتِ أو أنا..."


نهضت إلفينا فجأة، ونبرتها أصبحت أكثر برودة : "لا. هذا غير وارد، كلاريون ، قوة جوف الجنيات تكمن في ملكتها."


وما فائدة الملكة إن كانت ممنوعة من فعل الشيء الوحيد الذي يمكن أن ينقذ شعبها؟—أفضل من ملكة ميتة.


انقبض قلبها. إن كان ذلك صحيحًا، فجوف الجنيات كان يجب أن يكون حصنًا لا يُخترق.

 فإلفينا، في النهاية، كانت الملكة المثالية. لكن الآن، لم تعد كلاريون متأكدة.

 إلفينا لا تريد أن تستمع للنصيحة. لا تريد أن تشارك المعلومات التي كان من الممكن أن تمنع هذه الكارثة.


—إن كنتِ مهتمة بحل المشكلة بدلًا من تجنبها، فأنتِ تعرفين أين تجدينني.


في تلك اللحظة، لم تستطع كلاريون إلا أن تفكر في ميلوري، وعينيها الرماديتين الحزينتين… شخص لديه خطة، ولديه رغبة في التحرك.


إلفينا لم تكن تكذب، بالتأكيد، لكنها أيضًا لم تكن تقول الحقيقة كاملة. وإن أرادت كلاريون أن تظل صامتة، أن تخنق حدسها إلى الأبد، فلن يبقى لها خيار.  

ومن أجل جوف الجنيات ، لن تسمح بذلك.


------------


في صباح اليوم التالي، دعت إلفينا إلى اجتماع عام.

وبناءً على أوامرها، ترك الجميع أعمالهم وتوافدوا إلى قاعة العرش في القصر.

 كانت أغصان اللبلاب والزهور المتسلقة تتدلّى من السقف كأنها رايات ملكية، وأشعة الشمس تتسلل عبر شقوق الخشب الدقيقة، تغمر المكان بضوء ذهبي ناعم.

أما العرش نفسه، فقد نبت من الأرض—جذع شجرة صغيرة نُحت ليصبح مقعدًا. 

تشكّلت مساند الذراعين والظهر من فروع ملتوية، مكسوّة بأوراق الصيف الخضراء. 

كان جميلًا، لكن كلاريون لطالما طنت بأنه غير مريح على الإطلاق.

 ومن هناك ، على المنصة المفروشة بالطحالب،  كانت كلاريون تعلو فوق الجنيات المتجمّعات أدناها.

 شعرت بالدهشة من عدد الأرواح التي ستقع يومًا ما بين يديها. لم ترَ كل شعبها مجتمعين في مكان واحد منذ يوم وصولها.


وقفت إلفينا على حافة المنصة، شامخة، متألقة بكل ما تحمله الكلمة من معنى. 

كانت ترتدي كامل زيّها الملكي: تاجها المنسوج من أزهار برية، وفستانها الواسع المتلألئ، المغطّى بغبار الجنيات الذهبي. 

أما كلاريون، فكانت تقف خلفها بقليل، يحيط بها وزيرا الربيع والصيف.

 لم ينبس أي منهما بكلمة طوال الصباح. غياب روان، وغياب نقاشاته الحيوية وضحكاته، جعلهما يبدوان تائهين. 

وصمتهما كان مريحًا لها ، فقد كانت كلاريون ترتجف عند كل حفيف أوراق في النسيم، وكل ظل يمتدّ فجأة.


همسات خافتة انتشرت بين الحشود. وفي وجوههم المرفوعة، رأت كلاريون انعكاس قلقهم يتكرر أمامها ألف مرة.

 بلا وعي، بحثت عن تلك الشرارة  داخلها، ولم تجد شيئًا. 

لماذا هجرتها مجددًا، وهي التي جاءت إليها بسهولة بالأمس؟ في لحظة الخطر، حين واجهت ذلك الوحش، شيء ما داخلها قد انكسر… أو انفتح.


لكن ما هو؟ لم تستطع أن تتذكر كيف استدعت تلك القوة. 

في تلك اللحظة، كان عقلها غارقًا في فراغ غريب، بين اليأس والاستسلام. 

من المستحيل أن تعيد خلق تلك الحالة هنا، وسط هذا الحشد، ولا تعرف كيف يمكنها استدعاء تلك القوة مجددًا، إلا إن قررت أن تجعل من تعريض نفسها للخطر عادة. 

والأسوأ، أنها لا تعرف إن كانت تريد أن تعرف—هل ستتمكن حقًا من استدعاء قوتها حين يكون الأمر مصيريًا؟


رفعت إلفينا يدها، وساد الصمت على الفور. كان ذلك هو قوة القيادة الحقيقية ، لا تفشل أبدًا في إبهار كلاريون.


قالت إلفينا : "شكرًا لكم على حضوركم اليوم  ، أعلم أن هذا الاجتماع غير معتاد، وأن لديكم أعمالًا تنتظر، لذا سأحرص على الإيجاز.

 لكن هناك أمر خطير يهدد جوف الجنيات ، وأعتقد أن كثيرين منكم سمعوا عنه عبر الشائعات والتكهنات. 

بالأمس، تعرضت مجموعة من الجنيات لهجوم في غابة الخريف، من قبل مخلوق تسلل من غابة الشتاء."


ترددت شهقات وصرخات قلق بين الحشود، كأن كلماتها قد مزّقت ستار الأمان الذي اعتادوه.


"أعلم أن لديكم الكثير من الأسئلة."

 ارتفع صوت إلفينا فوق الحشد، يتردد صداه بين الأسقف العالية : "وأعلم أن القلق يسكن قلوبكم. أود أن أبدد هذا القلق، وأؤكد لكم أننا نبذل كل ما في وسعنا لحماية سكان جوف الجنيات. جميع الضحايا على قيد الحياة، وحالتهم مستقرة. ورغم أن المعلومات المتوفرة لدينا محدودة، يبدو أن هذه الوحوش قادرة على حبس فرائسها في نوم لا يمكنهم الاستيقاظ منه. ورغم أننا لم نتمكن من إيقاظهم بعد، فإن معالجينا يعملون بلا توقف لاستعادتهم."


وفجأة، اخترقت الحشد جنية من مواهب العواصف، ترتدي فستانًا من زهور الزنبق المعطرة، وصاحت :  

"مع كامل الاحترام، جلالتك، كيف حدث هذا؟ قبل أيام فقط، فُرض علينا حظر تجول، ثم قيل لنا إن التهديد قد تم احتواؤه."


حاولت كلاريون ألا تُظهر دهشتها. طوال سبعة عشر عامًا، لم تسمع أحدًا يواجه إلفينا بهذه الجرأة. لكن كثيرين في الحشد أومأوا بالموافقة، وكأنهم كانوا ينتظرون من يتحدث.


ردّت إلفينا، ونبرة من البرودة تسللت إلى صوتها:  

"لم يجد الكشافة أي دليل على استمرار التهديد في ذلك الوقت. وبناءً على المعلومات المتوفرة، ومع اقتراب تتويج الأميرة كلاريون، بدا أن استئناف النشاط الطبيعي هو الخيار الأفضل. أعتذر عن قلة الحذر، وأؤكد لكم أن مثل هذا الإغفال لن يتكرر. ما حدث كان مأساة، وأنا أتحمل المسؤولية. والآن، هل لي أن أتابع؟"


وحين لم يتدخل أحد، شبكت يديها وتابعت:  

"أحد عشر من رفاقكم يتلقون الرعاية حاليًا من قبل معالجينا. أحدهم، كما يعلم كثير منكم، هو وزير الخريف."


ومن خلف الحشد، ارتفع صوت جنية أخرى، موهوبة في صباغة الألوان، وكانت ملابسها مرقّطة بالأصباغ:  

"كيف سيتم التحضير لفصل الخريف؟"


ترددت همسات قلقة بين الحشود، أصوات منخفضة مشبعة بالخوف.

 لم تكن كلاريون قد فكرت في تأثير ذلك حتى الآن.

 إن لم يصل فصل الى ارض الجنيات في الوقت المناسب، فقد تكون العواقب كارثية.

 سيطول الصيف ، و صيف طويل يعني جفافًا، موجات حر قاتلة، حرائق في غابات ، و محاصيل ذابله، ومياه تختنق بتكاثر الطحالب. 

الطبيعة شبكة هشة في هذه المملكة ، كخيوط عنكبوت. إن اهتزّ خيط واحد، ارتجّت الشبكة بأكملها. وهناك أمور لا يمكن لغبار الجنيات ولا اجتهادهم أن يصلحها.


ذلك الصوت الخبيث في رأسها همس:  

—وكل ذلك سيكون خطأك. لو كنتِ موهبة قيادية أكثر كفاءة...


ردّت إلفينا، بثقة تفوق ما استطاعت كلاريون أن تحشده : "لا يزال أمامنا عدة أشهر قبل وصول الخريف ، وسنبذل كل ما في وسعنا لضمان سير التحضيرات بسلاسة. جنّيات الخريف على دراية تامة، وأنا والأميرة كلاريون سنتولى المهام نيابة عن الوزير. ومع ذلك، أتوقع أن يعود إلى عمله قبل أن نشعر بغيابه."


بدأت بعض علامات القلق تتلاشى من وجوه الحشد. ورأت كلاريون توترًا خفيفًا يتسلل إلى كتفي إلفينا، كأنها كانت تحمل عبئًا ثقيلًا. 

فكرة أن إلفينا قد اهتزت، ولو للحظة، بدت غريبة على كلاريون.فلم تُظهر الملكة يومًا سوى ثقة لا تتزعزع في خططها. حتى ليلة أمس، حين رفضت أن تسمع رأيًا مخالفًا.


قالت إلفينا : "وقبل أن أودّعكم،أود أن أشارككم أسماء أولئك الذين يتعافون من الهجوم."

جمعت إلفينا يديها، وامتلأتا بضوء سحري. ومع كل اسم نطقت به، أطلقت كرة ضوء نحو السقف، حيث أضاءت السماء الداخلية للقصر، وانهمر غبار الجنيات برفق فوق الحشد. ومن مكانها، رأت كلاريون الجنيات يعانقن بعضهن، أو يتشابكن بالأيدي، يتبادلن العزاء والطمأنينة.


قالت إلفينا، بينما كانت الأضواء الأحد عشر تضيء فوقهم كنجوم صغيرة : "سنتعامل مع هذه الكائنات التي تسببت في ذلك، لكن لا مجال للتهور. بدءًا من اليوم، أعيد فرض حظر التجول. بعد أن علمنا أن هذه الكائنات تنشط في الظلام، لن يُسمح لأحد بالخروج بعد غروب الشمس. لا استثناءات. من يخالف هذا القرار سيحاسب أمامي. هل هذا واضح؟"


ساد صمت مطبق.


ثم سأل أحد مواهب الطقس، وكان شعره مشوّشًا من تتبّع أنماط الرياح:  

"وماذا عن الشتاء؟"


كان في صوته نبرة خفيفة من الاتهام. وفجأة، شعرت كلاريون بوجود الجبل في الشمال، الجبل بأكمله، مكلّلًا بالثلج، تعصف به الرياح.


تحدثت عدة جنيات دفعة واحدة، يتسابقن لإيصال أصواتهن:


—قلتِ إن تلك الوحوش جاءت من الشتاء.


—هل تم إطلاقها؟


—هل فقدتم السيطرة عليها؟


—هل كنتم ضحايا لها أيضًا؟


رفعت إلفينا يدها، مطالبةً بالصمت مجددًا. وحين هدأ الضجيج، أجابت:  

"لم يتواصل حارس غابة الشتاء مع الفصول الدافئة منذ وقت طويل. ومع ذلك، لا أعتقد أن هذا من فعلهم. لا يمكنني إلا أن أتخيل أنهم يعانون أيضًا."


هل كانت إلفينا تصدق ذلك حقًا؟ أم أنها تعرف الحقيقة؟ ارتجفت كلاريون من أفكارها الخاصة. كانت تكره هذا الشك الجديد، هذا الارتياب في المرأة التي كانت أقرب إلى الأم منها.


رفعت إلفينا ذقنها، وظل تاجها المعقوف امتدّ على الأرض كعلامة فاصلة : "ومع ذلك، أنا أشارككم القلق ذاته. علينا اتخاذ خطوات لحماية أنفسنا على المدى الطويل." 

تابعت إلفينا : "أنوي هدم الجسور التي تربط الشتاء بالفصول الدافئة."


إن كان الحشد قد تفاعل، فلم تسمعه كلاريون وسط الطنين الذي ملأ أذنيها. الرعب كان كأظافر تخدش ظهرها.


تابعت إلفينا : "سيستغرق الأمر وقتًا ، السحر الذي يتدفق عبر تلك الجسور قوي، ولا يمكن تدميره بوسائل عادية. لكن اطمئنوا، الخطة بدأت بالفعل."


هل هذه هي خطة إلفينا؟ أن تتخلى عن الشتاء للكوابيس؟ أو الأسوأ، أن تعزلهم تمامًا عن جوف الجنيات ؟

 ربما كانت كلاريون تفتقر إلى خبرة الحكم. ربما لا تفهم تمامًا حجم التهديد. لكن ما كانت تعرفه، في أعماقها، هو أن هذا القرار خاطئ.


وحين أنهت إلفينا الاجتماع، بدأ الحشد بالتفرق. لكن صوتًا مألوفًا اخترق ضباب أفكارها.


"كلاريون!"


رفعت نظرها لترى بيترا تشق طريقها نحو قاعدة المنصة، وشعرها الأحمر يتلألأ تحت أشعة الشمس.

 رؤيتها أدفأت قلب كلاريون أكثر مما توقعت. وقبل أن تفتح فمها لتحييها، اندفعت بيترا وأمسكت بذراعها.

 شيء بسيط كالعناق أمام الجميع قد يثير التساؤلات، لكن كلاريون شعرت بكل الدفء والارتياح الذي أرادت بيترا أن توصله من خلال ضغط يدها الثابت.


تنهدت بيترا ثم قالت : "أنتِ بخير اذا ، حين سمعت ما حدث، أنا..."


قالت كلاريون بابتسامة مرتجفة : "أنا بخير، لا تقلقي." 


سحبت بيترا يدها، وضمّتها أمام صدرها بحركة دفاعية.  : "ما الأمر كلاريون ؟"


تحوّل نظر كلاريون نحو إلفينا، التي بدأت تتحدث بصوت منخفض إلى أورليا وإيريس.

 أما أرتميس، الواقفة بانضباط عند أسفل المنصة، فقد لاحظت على الفور محاولة كلاريون الفاشلة للتسلل. ضيّقت عينيها ونظرت إليها وكأنها تقول: "أعرف أنك تخططين لشيء." بعد اختفائها قبل ليلتين، والهجوم الذي وقع في الخريف، أدركت كلاريون أنها لن تفلت من رقابة حارستها بسهولة مرة أخرى.


قالت كلاريون : "ليس هنا، اتبعيني."


تأوهت بيترا، لكنها لحقت بها.


قادتها كلاريون نحو باب قاعة العرش، وأرتميس بدأت تتبعهم على الفور، قريبة بما يكفي للمراقبة، وبعيدة بما يكفي لتبقى خارج نطاق السمع.

 ورغم أن وجودها كان مربكًا ، لم تستطع كلاريون إنكار شعورها بالأمان تحت ظلها. 

بيترا كانت تلقي نظرات خاطفة نحو أرتميس بين الحين والآخر، والخجل يتصاعد في وجنتيها مع كل لحظة تمر. أحيانًا، بدا من المستحيل معرفة إن كانت تريد الهرب من أرتميس… أم الاقتراب منها.


وحين وصلتا إلى حديقة القصر، ذلك الامتداد الواسع من العشب المرصّع بالازهار ، جلست كلاريون على الأرض. 

كان الصباح لا يزال باردًا، والندى يلمع على الأعشاب.

 الحقل بأكمله كان يتلألأ تحت الشمس، يشبه الصقيع في جماله.


سألت بيترا : "لماذا أحضرتني إلى هنا؟" .


كلاريون : "ما رأيك في خطة إلفينا؟"


بدأ القلق يتلاشى من وجه بيترا، فقد دخلت الآن إلى مجالها المألوف: المنطق والخبرة. قالت:  

"لقد تحدثتِ بالفعل إلى بعض الحرفيين بشأنها. جذور شجرة غبار الجنيات لا يمكن تدميرها بسهولة، لذا لن يكون الأمر بسيطًا كإرسال مواهب قطع الخشب إليها. لكن إن تمكّنا من غرس فأس بالسحر، نظريًا..."


بدأت بيترا تشرح النظرية، لكن كلاريون بالكاد استوعبت شيئًا منها.

 لم تستطع احتمال فكرة استخدام مواهب الحكم والسحر والابتكار في أمر كهذا.

 لم تستطع أن تتقبل تجاهل ميلوري، الذي طلب مساعدتها، بهذه القسوة.

 أكثر من أي شيء، لم تستطع احتمال فكرة إهدار هذه الفرصة ، فإن كان لديها ولو احتمال ضئيل لرأب الصدع بين العالمين، فكيف يمكنها أن تدير ظهرها له؟


قالت كلاريون : "عليّ أن أوقفها،" .


شحب وجه بيترا، وصوتها خرج بالكاد كهمسة: "توقفينها؟ لماذا؟"


اعتدلت كلاريون في جلستها. :  "لأنه ليس من الصواب أن نترك جنيات الشتاء فريسة للكوابيس! هل تعرفين ما سيحدث إن دُمّرت الجسور؟"


ردّت بيترا، وملامحها مترددة، كأن احتجاج كلاريون أجبرها على التفكير : "لن يتمكن أحد من العودة إلى الشتاء"

 تابعت : "لكن علماء الغبار أكدوا أن هناك أنظمة جذور أخرى تربط الشتاء بشجرة غبار الجنيات. سيكونون بخير. فقط… وحدهم."


تساءلت كلاريون : "و هل الوحدة خير؟" ، ثم هزّت رأسها وتابعت :  "لا بد أن هناك طريقة أخرى."


بعد الطريقة التي تجاهلت بها إلفينا أفكارها، لم تكن كلاريون تتوهم أنها قادرة على تغيير رأيها.  

وهذا يعني شيئًا واحدًا..........عليها أن تتحدث إلى ميلوري.


قالت بيترا، بنبرة تجمع بين الإعجاب والحذر : "لم أرَ تلك النظرة منذ زمن،" .


رمشت كلاريون، وكأنها تفاجأت بأفكارها الخاصة. "أي نظرة؟"


عبست بيترا وأشارت إلى وجهها. "هذه النظرة. تعني أنكِ على وشك فعل شيء متهور."


ابتسمت كلاريون ببراءة، فقط لتخفي حقيقة أنها بالفعل تخطط لشيء متهور. "أنا؟ مستحيل! تجاوزت تلك المرحلة."


دفنت بيترا وجهها بين يديها. "لماذا لا أصدقك؟"


كذبت كلاريون : "سأتحدث إلى إلفينا فقط، لا تقلقي."


بيترا : "ولِمَ تقولين ذلك؟ هذا يجعلني أقلق أكثر!"


كانت كلاريون بالفعل مشغولة بالتخطيط. أوامر إلفينا الجديدة منحتها فرصة مثالية للتسلل. حتى إشعار آخر، لن يُسمح لأحد بالخروج ليلًا. لن يفتقدها أحد. لا أحد… سوى إلفينا.


وأرتميس.


تجرأت كلاريون على النظر إليها، نصف مختبئة في عباءتها بلون الأرض، مستندة إلى جذع شجرة غبار الجنيات .

كان الامر وكأن أرتميس شعرت بالخطة المتهورة التي تتشكل في ذهنها.

 التقت نظراتها بنظرة كلاريون، وعبوس حذر ارتسم على وجهها.


ومن أجل جوف الجنيات، كان على كلاريون أن تجد طريقة لتفاديها.

تعليقات

المشاركات الشائعة