كان يا مكان قلبّ منهار 18



 فوكس الصغيرة،

إذا كنتِ تحاولين كتابة رسالة تهديد أو إقناع، فمهاراتك بحاجة إلى تحسين. لا وقت لديّ لأتجول معكِ في الغابة، لكن يمكنكِ لقائي غدًا عند الظهيرة في زقاق الجدي.

– ج




عزيزي جاك،  

كنت فقط أحاول أن أكون مهذبة. من المؤسف أنك اعتدت على الخداع والمكر لدرجة أنك لم تعد تميز اللطف حين تراه. ليس كلّ منّا يعتمد على التلاعب ليحصل على ما يريد.

بإخلاص،  

إيفانجلين فوكس



 

بالطبع لم تستطع إيفانجلين إرسال تلك الرسالة، لكنها شعرت بالرضا بعد كتابتها، قبل أن تتسلل لمقابلة جاك في اليوم التالي.


كانت قلقة قليلًا بشأن كيفية تدبير الأمر. فبعد المقال الناري في صحيفة الفضائح حول سلامتها، منحها أبولو حارسين لحمايتها من أي خطر. لكنه أيضًا منحها حرية كاملة لتفعل ما تشاء، واستغلت تلك الحرية لتجمع معلومات عن الممرات السرية في قصر وولف. كان هناك واحد منها في غرفتها، استخدمته للهروب.


لم تكن تعرف إن كان أحد سيلاحظ غيابها، لكنها كانت تأمل ألا يتعقبوها إلى ذلك الشريط الضيق من الضباب والظلام المعروف بزقاق الجدي.


تدثّرت إيفانجلين أكثر داخل عباءتها المبطنة بالفرو، وفركت يديها وهي تتمنى لو أنها ارتدت قفازات أكثر سماكة. 


بعيدًا عن الأرصفة والمحلات، بدا هذا الزقاق وكأنه مكان لا يصل إليه أحد إلا إذا كان تائهًا. تساقط الثلج على مدينة فالورفيل طوال الليل، لكنه تجاهل هذا الركن الكئيب، تاركًا حجارته الرمادية القاتمة بلا أثر.


كان هناك باب واحد فقط، تحيط به حلقة من الجماجم المنقوشة، مما جعلها تظن أن الأعمال التي تُدار هنا ليست من النوع الشريف.


توقفت عربة سوداء مصقولة لا تحمل أي علامات.


خفق قلبها بسرعة. لم تكن ترتكب شيئًا غير قانوني أو خاطئ. كانت تحاول فعل شيء صحيح، شيء نبيل. لكن قلبها شعر بالخطر، فظل ينبض بقوة بينما فتحت باب العربة وانزلقت إلى الداخل.


كان جاك يبدو كأنه صبي إسطبل فاسد سرق عربة سيده. تمدد على أحد جوانب العربة، واضعًا حذاءه الجلدي المهترئ على الوسائد بلا مبالاة. كانت سُترة رمادية منسدلة بجانبه على المقعد، تاركة جسده مغطى بقميص كتان بأكمام مرفوعة وأزرار نصف مغلقة. لمحَت إيفانجلين أثر ندبة خشنة على صدره، تمامًا حين بدأ يقطع تفاحة فضية بخنجر مرصّع بالجواهر.


"هل تحدقين في الجميع هكذا، أم فقط فيّ؟" رفع جاكس نظره. عيناه الزرقاوان الصارختان التقتا بعينيها.


لم يكن من المفترض أن يجعلها ذلك تنفعل بهذا الشكل. لم يكن حتى نظرة حقيقية، مجرد لمحة عابرة قبل أن يعود لتقشير التفاحة، ناشرًا رائحة منعشة في الهواء.


قررت إيفانجلين أن تدخل في الموضوع مباشرة.  

"أريدك أن تلغي ما فعلته بالأمير أبولو."


"ما الأمر؟" قال وهو يقطع. "هل آذاكِ؟"


"لا، لا أعتقد أن أبولو سيؤذيني. هو تقريبًا يعبدني، وهذه هي المشكلة. أنا كل ما يشغل تفكيره. يغمرني بالجواهر ويقول إنني الشيء الوحيد الذي يحتاجه."

"لا أرى أين تكمن المشكلة."

استقر فم جاك المتجهم بين ابتسامة ساخرة وعبوس خافت.  

"عندما جئتِ إلى داري أول مرة، كنتِ قد فقدتِ حبك. والآن، منحتكِ حبًا جديدًا."


"إذًا، هذا من صُنعك؟"


التقت عيناه بعينيها، وعادتا لتجمدا كالجليد.  

"ارحلييا فوكس الصغيرة. عودي إلى أميرك ونهايتك السعيدة، ولا تكرري هذا السؤال."


بمعنى آخر: نعم.


انفجرت فقاعات الأمل الصغيرة داخل إيفانجلين، واحدة تلو الأخرى. فرقعة. فرقعة. فرقعة.


كانت تعرف في أعماقها أن كل هذا كان أكثر من أن يكون حقيقيًا. شعرت أنها تعيش في وهم، وأنه لو نظرت عن كثب، لرأت أن كل ما ظنته غبار نجوم لم يكن سوى رماد متوهج من تعويذة شريرة. أبولو لم يكن يحبها؛ وربما لم يكن حتى يُعجب بها. لقد قال ذات مرة إنها حلمه الذي تحقق، لكنها كانت في الحقيقة لعنته.


"لن أغادر هذه العربة حتى تُصلح ما فعلته بأبولو."


"تريدينه أن يتوقف عن حبك؟"


"أبولو لا يحبني حقًا. ما يشعر به ليس حقيقيًا."


"لكنه يبدو حقيقيًا بالنسبة له،"قال جاك ببطء. "ربما هو الآن أسعد مما كان عليه في حياته كلها."


"لكن الحياة ليست سعادة فقط، يا جاك!" لم تكن تنوي الصراخ، لكن هذا الكائن الاسطوري كان يثير الجنون. "لا تتظاهر بأنك لم تفعل شيئًا خاطئًا."


"الخطأ والصواب مفهومان نسبيان." تنهد جاك. "أنتِ تقولين إن ما فعلته بأبولو خطأ. وأنا أقول إنني أسديت له معروفًا، وأفعل الشيء نفسه معك. أنصحك بقبوله ، تزوجي الأمير، ودعيه يجعلك أميرة، ثم ملكة."


"لا" قالت إيفانجلين.  

لم يكن هذا بالسوء نفسه عندما حوّل جاك حفل زفاف كامل إلى حجارة، لكن ما فعله بأبولو لم يكن شيئًا يمكن لإيفانجلين أن تتعايش معه.

 كانت تريد أن تكون حب أحدهم، لا لعنته. وإن عرف أبولو ما حدث له، فهي تتخيل أنه لن يقبل العيش بهذه الطريقة أيضًا.


ولم تصدق للحظة أن ما فعله جاك كان "معروفًا". جاك أراد لهذا الزواج أن يتم. لم تكن تعرف السبب بعد، لكنه بذل جهدًا كبيرًا لأجله.


"أصلح ما فعلته بأبولو، أو سأُلغي الزواج."


ابتسم جاك بسخرية. "لن تفسخي خطوبتك من أمير."


"جربني. لم تصدق أنني سأشرب من كأس بويسن، لكنني فعلت."


تشنج فك جاك.


ابتسمت إيفانجلين، منتصرة.


ثم بدأت العربة تتحرك.


تشبثت إيفانجلين بالوسائد كي لا تسقط في حضن جاك.  

"انتظر , إلى أين نحن ذاهبون؟"


"مهمتك التالية." نظر جاك إلى معصمها، وبدأت ندبتا القلب المكسور المتبقيتان تشتعلان. وخز. وخز. وكأن أسنانًا ساخنة تغرز في جلدها.


قبضت إيفانجلين على الوسائد بقوة، وشعرت بالغثيان. كانت لا تزال تعاني من تبعات قبلتها الأخيرة. لم تكن مستعدة لأخرى. وهي مخطوبة، على الأقل في الوقت الحالي.


تلألأت عينا جاك الزرقاوان وكأنه يستمتع بقلقها.  

"لا تقلقي، فوكس الصغيرة. هذه ستكون قبلة من نوع مختلف. لن أطلب منك شيئًا قد يهدد هذا الزواج."


"قلت لك بالفعل. لن يكون هناك زواج إن لم تُصلح أبولو."


"وإن أصلحت أبولو، فلن يكون هناك زواج أيضًا."


"إذًا، أظن أنني سأفسخ خطوبتي."


"افعلي ذلك، وستكونين أنت من يدمره، لا أنا."

غرز جاك سكينه في التفاحة.  

"إن لم تتزوجي أبولو، سيصاب بانكسار يفوق ما تتخيلين. ولن يشفى مع الوقت، بل سيتفاقم ويتعفن. ما لم أشأ أنا، فلن يتجاوز أبولو حبه غير المتبادل لكِ. سيقضي بقية حياته غارقًا فيه حتى يدمّره تمامًا."


أنهى جاك كلامه بابتسامة تكاد تكون مرحة، وكأن فكرة ترك شخص محطم القلب للأبد تحسّن مزاجه.


كان فظيعًا. لا توجد كلمة تصفه بدقة ...إلا ربما قاسي، فاسد، أو عديم الرحمة. 

الطريقة التي بدا بها جاك وكأنه يستمتع بالألم كانت صادمة. التفاحة في يده ربما كانت أكثر تعاطفًا منه. لم يكن هذا هو الشاب نفسه الذي نزف الحزن في أروقة داره. هناك شيء مكسور بداخله.


قالت لالا إن هناك إشاعة بأن جاك كان يحب أخت الإمبراطورة الصغرى، وتعرض لانكسار قلب.

 إيفانجلين لم تصدق ذلك في البداية. جاك لم يظهر عليه الحزن في أول ليلة لها في فالورفيل، بل بدا أكثر قسوة وبرودًا. لكن ربما هذا ما يفعله الحزن بالكائنات الاسطورية؟ ربما لا يتركهم محطمين ووحيدين وبائسين، بل يجعلهم أقل إنسانية. هل هذا ما حدث لجاك؟


"هل تشعرين بالشفقة تجاهي؟" ضحك جاك، ضحكة قاسية ساخرة.  

"لا تفعلي، أيتها الثعلبة الصغيرة. سيكون خطأً أن تقنعي نفسك أنني لست وحشًا. أنا كائن اسطوري، وأنتِ مجرد أداة بالنسبة لي."  

رفع طرف خنجره إلى فمه، وبدأ يعبث بشفتيه حتى سالت منه قطرات دم.


"إن كنت تحاول إخافتي ...."


"احذري تهديداتك."  

اندفع جاك عبر العربة، وضغط طرف خنجره الدامي على منتصف فمها.


كادت إيفانجلين أن تلهث، لولا خوفها من أن ينزلق النصل بين شفتيها. عادت عينا جاك الزرقاوان لتتوهجا وهو يهددها بالخنجر، ضاغطًا إياه على فمها المغلق حتى تذوقت طعم دمه الحلو والمقلق.


"السبب الوحيد الذي يجعلني أواصل هذه المحادثة هو أنكِ، كما أدركتِ، ضرورية لزواجك من أبولو. لذا، سأمنحكِ هدية زفاف. أعدك بأنني سأعيد الأمير إلى طبيعته وأمحو كل مشاعره المصطنعة تجاهك بعد أن تتزوجيه."


توقفت العربة فجأة، لكنها لم تتحرك، ولا إيفانجلين كذلك. لم تنظر حتى من النافذة لترى أين توقفوا. فقط ثبتت نظرها عليه.


لقد حاصرها جاك. عليها أن تتزوج أبولو لتنقذه. وإذا أنقذته....إذا محا جاك مشاعر أبولو تجاهها بعد الزواج.....فمن المؤكد أن أبولو سيكرهها بقدر ما يظن الآن أنه يحبها.


الشخص الوحيد الذي سيربح حقًا هو جاك.


بتأنٍ، تراجعت إيفانجلين إلى الخلف حتى لم يعد الخنجر يلامس شفتيها. لكنها لا تزال تشعر بطعمه...حدة النصل، برودة المعدن، وحلاوة الدم التي بقيت على شفتيها. شعرت وكأنها ستظل تتذوقه إلى الأبد.  

"على الأقل أخبرني لماذا تريد هذا الزواج."


"فقط تقبّلي الهدية. ما أريده لن يؤذي أحدًا."


نظرت إلى الخنجر المرصّع الذي ضغطه قبل قليل على فمها.  

"لا أظن أن تعريفك للأذى يشبه تعريفي."


"احمدي الله على ذلك،  فوكس الصغيرة."

ابتسم جاك، وكانت ابتسامته كلها حواف حادة.  

سقطت قطرة دم من زاوية فمه، وارتسم على وجهه شيء مظلم لا يُوصف.  

"الأذى هو ما صنعني."

تعليقات

المشاركات الشائعة