13

 في التاسعة صباحًا، دخل خادمه حاملًا كوبًا من الشوكولاتة الساخنة على صينية، وفتح المصاريع. كان دوريان نائمًا بسلام، مستلقيًا على جانبه الأيمن، ويده تحت خده. بدا كطفل أنهكته ساعات اللعب أو الدراسة.

اضطر الرجل إلى لمسه مرتين على كتفه قبل أن يستيقظ، ومع فتحه لعينيه، مرّت ابتسامة خفيفة على شفتيه، وكأنه كان غارقًا في حلم رائع. لكنه لم يحلم إطلاقًا. لقد كانت ليلته خالية من أي صور للمتعة أو الألم. ومع ذلك، فإن الشباب يبتسم بلا سبب، وتلك إحدى أعظم مميزاته.

استدار، وارتكز على كوعه، وبدأ يحتسي الشوكولاتة. كانت شمس نوفمبر الدافئة تصب نورها في الغرفة، والسماء صافية، والجو فيه دفء لطيف. كان الصباح أشبه بيوم من أيام مايو.

تدريجيًا، تسللت أحداث الليلة الماضية إلى ذهنه، ارتجف عند تذكّره لما عاناه، ولسرعة عادت إليه تلك المشاعر الغريبة من الاشمئزاز تجاه بَيزِل هالوارد، والتي دفعته لقتله وهو جالس على الكرسي، فاشتعل غضبًا. كان الرجل الميت لا يزال جالسًا هناك أيضًا، وفي ضوء الشمس الآن. يا له من أمر بشع! أشياء كهذه يجب أن تبقى في الظلمة، لا في وضح النهار. وشعر بأنه إن واصل التفكير في ما حدث... ربما يعتل أو يُجنّ. كان شيئًا يجب طرده من الذاكرة، تخديره بخدر الخشخاش، وخنقه قبل أن يبادر هو بالخنق.

وحين فرغ من قهوته السوداء، مسح شفتيه بمنديله برفق، ثم نهض على عجل، وارتدى ملابسه بقدرٍ من العناية يفوق عادته.

 أشار إلى خادمه أن ينتظر، ثم مضى إلى الطاولة وجلس ليكتب رسالتين. احتفظ بإحداهما، وسلم الأخرى لخادمه.

قال: "خذ هذه إلى رقم 152، شارع هيرتفورد، يا فرانسيس، وإن كان السيد كامبل خارج المدينة، فاحصل على عنوانه."

وما إن خلا لنفسه، أشعل سيجارته، وأخذ يرسم على ورقة مبعثرة؛ زهورًا في البداية، ثم تفاصيل معمارية، فملامح بشرية. وفجأة، أدرك أن كل وجه يرسمه يحمل شبهًا غريبًا لذلك الرجل… بَيزِل هالوارد. عبس، ونهض متوجهًا إلى رفّ الكتب، فتناول مجلدًا عشوائيًا. لقد قرّر ألا يفكّر بما حدث، إلا حين يُجبر تمامًا على مواجهته.

كان الكتاب ابيات شعرية عن فضل الخريف ، ذلك الفصل البديع !، كان دوما يقضي ايام الخريف في مرسم بَيزِل. مسكين بَيزِل! يا له من موت شنيع لرجلٍ مبدع!

تنهد، وأعاد التقاط المجلد محاولًا أن ينسى. لكن بعد فترة، سقط الكتاب من يده. داهمه القلق، وتلبّسته نوبة مرعبة من الهلع. ماذا لو كان آلان كامبل خارج إنجلترا؟ ستنقضي أيام قبل أن يعود، وربما يرفض المجيء من الأساس... ماذا سيفعل حينها؟ كل لحظة كانت ذات أهمية مصيرية.

كانا صديقين مقرّبين ذات يوم، قبل خمس سنوات شبه لا يفترقان. ثم انقطعت الصلة فجأة. وحين يلتقيان الآن في المناسبات الاجتماعية، وحده دوريان غراي يبتسم... أما آلان كامبل، فلا يفعل.

كان شابًا بالغ الذكاء، وإن كان يفتقر إلى تقدير حقيقي للفنون البصرية، وما امتلكه من حس شعري كان مجرد شرارة خافتة...

ما امتلكه من حسٍّ شعري اكتسبه بالكامل من دوريان. أما شغفه الفكري الأعظم فكان للعلوم. في كامبريدج، قضى معظم وقته في المختبر، ونال مرتبة مشرفة في مساق العلوم الطبيعية لذلك العام. لا يزال شغوفًا بالكيمياء حتى اليوم، بل يملك مختبرًا خاصًا به، كان يحب أن يعزل نفسه فيه طوال النهار، مما أثار انزعاج والدته التي كانت تأمل في أن يصبح نائبًا في البرلمان، وتحمل في ذهنها تصورًا ضبابيًّا بأن الكيميائي ليس سوى من يركّب الوصفات الطبية!

لكن، رغم انغماسه في العلوم، كان موسيقيًّا بارعًا أيضًا؛ يعزف على الكمان والبيانو بتفوّقٍ يفوق الهواة المعتادين. في الحقيقة، كانت الموسيقى أول ما جمع بينه وبين دوريان غراي — الموسيقى، وتلك الجاذبية الغامضة التي كان دوريان يمارسها متى شاء، ويمارسها أحيانًا دون أن يدرك.

التقيا لأول مرة في صالون الليدي بيركشاير، ليلة عزف روبنشتاين، ومنذ تلك الليلة، باتا يُرَيَان معًا دومًا في دار الأوبرا، وفي كل محفلٍ تتردد فيه الألحان الجميلة. دامت صداقتهما الحميمة ثمانية عشر شهرًا، وكان كامبل خلالها إما في قصر "سيلبي رويال" أو في ميدان "غروسفينور".

بالنسبة له، كما لكثيرين غيره، كان دوريان غراي تجسيدًا لكل ما هو فاتن ومُبهر في هذه الحياة.

ما إن وقع الخلاف بينهما — إن كان هناك خلاف — لم يعرف أحد. لكنّ الناس بدأوا يلاحظون أنهما بالكاد يتحدثان عند اللقاء، وأن كامبل يغادر الحفلات دائمًا باكرًا إذا حضرها دوريان.

لقد تغيّر أيضًا — بدا كئيبًا على نحو غريب، وكأنه بات ينفر من سماع الموسيقى، ولم يعزف أبدًا بعد ذلك، متذرّعًا بانشغاله في العلم وانعدام الوقت للتدريب. وكان ذلك صحيحًا بالفعل، فقد أخذ اهتمامه بعلم الأحياء يتزايد يومًا بعد يوم، وظهر اسمه مرة أو مرتين في بعض المجلات العلمية، مرتبطًا ببعض التجارب الغريبة.

هذا هو الرجل الذي كان دوريان غراي ينتظره. كل ثانية تمر، كانت عيناه تتشبثان بالساعة. ومع مرور الدقائق، استبدّ به القلق على نحو فظيع. نهض أخيرًا، وبدأ يذرع الغرفة جيئة وذهابًا، كأنه مخلوق جميل محبوس في قفص. خطواته كانت طويلة، خفية، يده باردة على نحو غريب. لم يكن بمقدوره احتمال الترقّب. الزمن بدا وكأنه يزحف.

كان يدرك ما ينتظره هناك؛ بل يراه أمام عينيه. فارتجف، وضغط بأصابعه الرطبة جفونه الملتهبة، وكأنه يحاول اقتلاع البصر من جذوره.

وأخيرًا، فتح الباب، ودخل خادمه. التفت إليه دوريان بعيون زجاجية.

"السيد كامبل، يا سيدي"، قال الرجل.

أطلق أنفاسًا طويلة، تشقّ طريقها بين شفتيه الجافتين، وعاد اللون إلى وجنتيه.

قال: "اطلب منه الدخول حالًا يا فرانسيس." شعر أن نفسه قد عادت إليه من جديد. مزاجه الجبان قد انقشع.

انحنى الخادم، وغادر. وبعد لحظات، دخل آلان كامبل، شاحبًا، صارم الملامح، يزداد شحوبه قتامة بسبب شعره الأسود وعينيه المظللتين بالحاجبين الداكنين.

قال دوريان، وهو يحاول التخفيف من الجفاء:  

"آلان! كم هو لطفٌ منك أن تأتي. أنا ممتن لحضورك."

فأجابه كامبل، ببرود مشوب بالألم:  

"كنت قد قررت ألا أدخل بيتك مرة أخرى... لكنك قلت إنها مسألة حياة أو موت."  

كان في نظراته الثابتة المحتقِرة ما يُشعر المرء بأنه يجردك من ثيابك، قطعة بعد قطعة. أبقى يديه في جيوب معطفه المصنوع من فرو الأستراخان، ولم يُبدِ أي اهتمام بالإيماءة التي استقبله بها دوريان.

"نعم، إنها بالفعل مسألة حياة أو موت، آلان، بل تمس أكثر من شخص واحد. اجلس، من فضلك."

جلس كامبل إلى الطاولة، وجلس دوريان قبالته. التقت أعينهما، وفي عيني دوريان كان هناك كمٌ هائل من الشفقة. كان يدرك فظاعة ما هو مُقدم عليه.

وبعد لحظة مشحونة بالصمت، مال بجسده نحو كامبل، وقال بصوت منخفض، لكن عينيه تراقبان عن كثب كل ارتجافة تعلو وجه من استدعاه:  

"آلان، في غرفة مغلقة أعلى هذا البيت، لا أحد يملك مفاتيحها سواي، يرقد رجلٌ ميت على طاولة. لقد مضى على موته عشر ساعات. لا تتحرك، ولا تنظر إليّ بتلك الطريقة. من هو الرجل، ولماذا مات، وكيف مات… أمور لا تعنيك. ما عليك فعله هو الآتي—"

قاطعه كامبل بحدة، وهو يرفع يده كمن يوقف فيضان كلمات:  

"توقف يا غراي. لا أرغب في سماع شيء آخر. سواء كان ما قلته حقيقة أو لا، لا يهمني. أرفض تمامًا أن أتورط في حياتك. احتفظ بأسرارك البشعة لنفسك، لم تعد تهمّني إطلاقًا."

لكن دوريان لم يتراجع:  

"آلان، عليك أن تهتم هذه المرة. هذه ستهمّك. أنا آسف لأجلك، بحق، لكنني عاجز عن التراجع. أنت الرجل الوحيد الذي يستطيع إنقاذي. لا خيار لدي. آلان، أنت رجل علم. تعرف في الكيمياء، وفي الأمور الدقيقة من هذا النوع. أجريتَ تجارب، وامتلكت الأدوات. ما عليك فعله هو أن تدمّر ما في الأعلى — تدمّره بحيث لا يبقى له أي أثر. لم يشاهد أحد هذا الرجل يدخل إلى المنزل. بل، في هذه اللحظة، يُظنّ أنه في باريس. لن يلاحظ غيابه أحد لعدة شهور. وحين يُفتقد… يجب ألا يُعثر له على أي خيط."

"أنت، يا آلان… يجب أن تُحوّله، هو وكل ما يتصل به، إلى حفنة رماد أذرّها في الهواء."

قال كامبل، صوته جامد كالصخر:  

"أنت مجنون يا دوريان."

فابتسم دوريان بمرارة:  

"آه! كنت أنتظر أن تناديني باسمي."

"قلت لك إنك مجنون — مجنون لتظن أنني سأحرّك إصبعًا لأجلك، مجنون لأنك تبوح باعترافٍ شنيع كهذا. لن يكون لي أي شأن بما يحدث، مهما كان. أتظن أنني سأجازف بسمعتي من أجلك؟ ما يهمني ما هي الجريمة الشيطانية التي اقترفتها؟"

قال دوريان محاولًا الدفاع:  

"لقد كان انتحارًا يا آلان."

فردّ كامبل بفتور:  

"يسعدني سماع ذلك… لكن من الذي دفعه إليه؟ أظن أنه كان أنت."

قال دوريان بلهفة:  

"هل لا تزال ترفض مساعدتي؟"

"بالطبع أرفض. لن يكون لي علاقة بالأمر على الإطلاق. لا يعنيني ما العار الذي سيلحق بك. تستحقه كاملًا. ولن أأسف إن رأيتك مُهانًا علنًا. كيف تجرؤ على طلبي أنا بالذات — من بين جميع الناس — أن أُشاركك هذا الرعب؟ كنت أعتقد أنك تدرك أكثر طبائع البشر. يبدو أن صديقك اللورد هنري ووتون لم يُعلّمك شيئًا عن علم النفس، مهما علّمك سواه. لا شيء سيجعلني أُحرّك خطوة واحدة لمساعدتك. لقد لجأت إلى الرجل الخطأ. اذهب إلى أصدقائك. لا تأتِ إليّ."

لكن دوريان عاجله، بصوتٍ حائر يعترف بما لا يمكن إنكاره:  

"آلان، لقد كان جريمة قتل. أنا من قتله. لا تدري ما الألم الذي جعلني أذوقه. لقد شوه حياتي. ربما لم يكن يقصد إيذائي… لكن النتيجة كانت واحدة."

ارتجف آلان، وانتفض مذهولًا:  

"جريمة قتل! يا إلهي، دوريان، إلى هذا الحدّ وصل بك الأمر؟ لن أبلّغ عنك، فذلك ليس من شأني. ثم إنك، دون تدخّلي، ستُعتقل على كل حال. لا أحد يرتكب جريمة دون أن يفعل شيئًا أحمق. لكنني… لن يكون لي يد فيها."

تشبّث دوريان بالأمل الأخير:  

"يجب أن تكون لك يد فيها. انتظر، لحظة فقط، استمع إليّ… فقط استمع، يا آلان."

"كل ما أطلبه منك هو تنفيذ تجربة علمية محددة. أنت تذهب إلى المستشفيات وغرف الموتى، والأهوال التي تقوم بها هناك لا تُحرّك فيك ساكنًا. لو وجدت هذا الرجل في مختبر كئيب أو غرفة تشريح نتنة، مُلقى على طاولة رصاصية تنزف فيها المجاري المخصصة للدم، لما ارتجفت لك شعرة، ولرأيت فيه مادة مثالية للتجربة. ما كنت لتشعر أن في الأمر خطأ. على العكس، ربما كنت ستعتقد أنك تخدم البشرية، أو تُزيد من معارفها، أو تُرضي فضولًا علميًا، أو شيئًا من هذا القبيل. ما أطلبه منك لا يزيد عمّا فعلته مرارًا. بل، تدمير جثة، أليس أخفّ وطأة مما اعتدت أن تشتغل عليه؟ وتذكّر… إنها الدليل الوحيد ضدي. إن كُشف الأمر، فأنا هالك — وسيُكشف إلا إن ساعدتني."

فرد كامبل دون اكتراث:  

"ليس لدي أدنى رغبة في مساعدتك. أنت تنسى ذلك. أنا ببساطة غير مبالٍ بكل ما يجري. الأمر لا يعنيني."

توسّل إليه دوريان، صوته يرتعش بالرجاء:  

"آلان، أتوسّل إليك… فكّر في مكاني، في وضعي. قبل أن تأتي، كدت أغيب عن الوعي من شدة الرعب. ربما ستذوق الرعب يومًا بنفسك… لا، لا أفكر في ذلك. فقط انظر إلى الأمر من زاوية علمية بحتة. أنت لا تسأل عن مصدر الجثث التي تُجرى عليها تجاربك، فلا تسأل الآن. لقد قلت لك أكثر مما ينبغي بالفعل… لكنني أرجوك، افعلها. كنّا أصدقاء يومًا، يا آلان."

"لا تتحدث عن تلك الأيام، دوريان… إنها ماتت."

قال دوريان، بصوت خافت كأنما يهمس في ظلال الموت:  

"لكن الموت أحيانًا يبقى هنا… يتمدد، يتنفس في زوايا الغرفة. الرجل في الأعلى لن يذهب. إنه جالس على الطاولة، رأسه منكّس، وذراعاه ممتدتان. آلان… آلان… إن لم تنقذني، فأنا هالك. سيعدمونني، آلان! ألا تفهم؟ سيعدمونني على ما فعلت!"

ردّ كامبل، بحزم كالسيف:  

"لا جدوى من إطالة هذا المشهد…"

قال كامبل، بجمود يائس:  

"أرفض تمامًا أن أشارك في هذا الأمر. من الجنون أن تطلب مني ذلك."

"أترفض؟"

"نعم."

"أتوسل إليك، يا آلان..."

"لا جدوى."

ظهر ذات التعبير المفعم بالشفقة في عيني دوريان غراي. ثم مدّ يده، وأخذ ورقة، وكتب عليها شيئًا. قرأه مرتين بتأنّ، ثم طواها بعناية، ودفعها عبر الطاولة. وبعدها، نهض واتجه نحو النافذة.

نظر كامبل إليه بدهشة، ثم تناول الورقة وفتحها. وما إن قرأ ما فيها، حتى شحب وجهه حدّ الموت، وتهالك في كرسيه. خيّم عليه شعور مرير بالغثيان، وكأن قلبه يضرب نفسه حتى الزوال داخل فجوة خاوية.

وبعد صمت رهيب دام لدقائق، استدار دوريان، واقترب منه، ووضع يده على كتفه.

قال بهمهمة رقيقة:  

"أنا آسف لأجلك، يا آلان… لكنك لم تترك لي أي خيار. لدي رسالة جاهزة، ها هي، ترى العنوان. إن لم تساعدني، سأرسلها. إن لم تساعدني، سأفعل ذلك. وأنت تعلم ما ستكون عليه العواقب. لكنك ستساعدني، فلم يعد بإمكانك الرفض. لقد حاولت أن أجنّبك هذا. يمكنك على الأقل الاعتراف بذلك. كنت قاسيًا، صارمًا، جارحًا. عاملتني كما لم يجرؤ أحد على معاملتي قط — لا أحد حيّ، على الأقل. وتحمّلت ذلك كله. والآن… حان دوري لأملي عليك الشروط."

دفن كامبل وجهه بين يديه، وارتجف كأنما تسري في عروقه حمى لا تطاق.

تابع دوريان، بنبرة هادئة حاسمة:  

"نعم، حان دوري. وأنت تعرف الشروط. الأمر بسيط للغاية. هيا، لا تُرهق نفسك في هذا الهلع. لا بد من إنجازه. واجهه… وافعل ما هو مطلوب."

انطلقت من بين شفتي كامبل أنّة، وارتجف جسده بأكمله. وبينما كانت عقارب الساعة ترسل نبضاتها الخشبية فوق المدفأة…

كان يشعر وكأن الزمن يتفتّت إلى ذرات من العذاب، كل ذرة منها أشد من أن تُحتمل. وكأن حلقة حديدية تضيّق الخناق ببطء حول جبهته، وكأن الخزي الذي يخشاه قد استقر بالفعل فوق رأسه. اليد الموضوعة على كتفه كانت كيد من رصاص، لا تُطاق… كانت تسحقه.

قال دوريان بتوتر:  

"هيا يا آلان، عليك أن تتخذ القرار الآن."

فردّ بصوت آلي، كأن الكلمات بحد ذاتها تستطيع أن تُغيّر شيئًا:  

"لا أستطيع فعل ذلك."

"يجب عليك… لا خيار لك، لا تؤجل."  

ثم تردّد لحظة وسأل:  

"هل هناك مدفأة في الغرفة بالأعلى؟"

"نعم، هناك مدفأة غاز وألياف الإسبستوس."

قال آلان:  

"سأضطر للذهاب إلى المنزل وأجلب بعض الأشياء من المختبر."

لكن دوريان قاطعه، بلهجة حاسمة:  

"لا يا آلان، لا يمكنك مغادرة المنزل. اكتب على ورقة ما تحتاجه، وخادمي سيأخذ عربة أجرة ويُحضرها لك."

كتب كامبل بضع سطور بسرعة، لطّخها ثم عنون المغلف باسم مساعده. تناول دوريان الورقة، قرأها بتمعّن، ثم قرع الجرس وسلّمها للخادم، مع أوامر بالعودة سريعًا مصطحبًا الأدوات المطلوبة.

ما إن أُغلق باب القاعة، حتى ارتجف كامبل وتحرّك بتوتر، وتوجه نحو رف المدفأة. كان جسده يرتجف كمن أصابته حمى غامضة. ولم يتبادل الرجلان كلمة واحدة طوال عشرين دقيقة. كانت ذبابة تطير بصخب في أرجاء الغرفة، ودقات الساعة على المدفأة تُدوّي كأنها مطرقة تطرق على صدره.

وعندما دقّت الساعة الواحدة، استدار كامبل، ونظر إلى وجه دوريان غراي فرأى دموعًا تملأ عينيه. كان في نقاء وجهه الحزين، ما يثير الغضب أكثر مما يثير التعاطف.

تمتم كامبل بمرارة:  

"أنت وضيع… وضيع تمامًا!"

ردّ عليه دوريان، هامسًا وكأنه يحاول خنق الحقيقة بصوته:  

"اهدأ يا آلان… لقد أنقذت حياتي."

"حياتك؟ يا رب السماء ! ، ما هي الحياة التي تعيشها … لقد انحدرت من فساد إلى فساد، والآن بلغت الذروة… جريمة كاملة. وفي ما أنا مُقبل عليه الآن، ما أجبرْتني عليه، فليست حياتك هي ما يشغلني."

تنهد دوريان وقال بصوت خافت:  

"آه يا آلان… لو كان لديك جزء من ألف من الشفقة عليّ، مما أشعر به تجاهك."  

ثم ابتعد وهو يتحدث، ووقف ينظر عبر النافذة إلى الحديقة. كامبل لم ينبس بكلمة.

وبعد نحو عشر دقائق، طُرِق الباب، ودخل الخادم حاملًا صندوقًا كبيرًا من خشب الماهوجني يحوي مواد كيميائية، مع لفافة طويلة من أسلاك الفولاذ والبلاتين، ومشبكين غريبين الشكل من الحديد المصبوب.

قال وهو يتوجه بالسؤال إلى كامبل:  

"هل أترك الأشياء هنا يا سيدي؟"

أجاب دوريان:  

"نعم." ثم أضاف بنبرة من التكلّف:  

"ويبدو، يا فرانسيس، أن لدي مهمة أخرى لك. ما اسم الرجل في ريتشموند الذي يزوّد سيلبي بالأوركيد؟"

"هاردن، سيدي."

"نعم… هاردن. عليك أن تذهب حالًا إلى ريتشموند، وترى هاردن بنفسك، وتخبره أن يُرسل ضعف كمية الأوركيد التي طلبتها، وأن يقلّل قدر الإمكان من الأبيض، لا أريد زهورًا بيضاء إطلاقًا. الجو رائع اليوم، يا فرانسيس، وريتشموند مكان جميل… لولا ذلك لما كلّفتك بهذه المهمة."

قال الخادم:  

"لا بأس، سيدي. في أي وقت ترغب أن أعود؟"

نظر دوريان إلى كامبل، وسأله بنبرة باردة متزنة، وقد منحه وجود شخص ثالث جرعة من الثبات المفاجئ:  

"كم من الوقت ستستغرق تجربتك، يا آلان؟"

قطّب كامبل حاجبيه، وقضم شفته قبل أن يجيب:  

"نحو خمس ساعات."

فقال دوريان:  

"حسنًا، إذن عد عند السابعة والنصف. أو لا… فقط ضع أدوات التزيين الخاصة بي في مكانها، ويمكنك أن تأخذ المساء لنفسك. لن أتناول العشاء في المنزل، لدى لن أحتاج إليك."

ردّ الخادم شاكرًا، وغادر الغرفة.

قال دوريان بسرعة وبنبرة حازمة:  

"لا وقت نضيعه يا آلان. هذا الصندوق ثقيل، سأحمله أنا، وأنت أحضر باقي الأدوات."  

شعر كامبل أنه لا يستطيع مقاومة كلامه، ثم غادرا الغرفة معًا.

في الأعلى، أخرج دوريان المفتاح وفتح القفل، لكنه توقف فجأة وظهرت عليه علامات القلق.  

قال بصوت منخفض وهو يرتجف:  

"لا أعتقد أنني أستطيع الدخول يا آلان."

أجابه كامبل ببرود:  

"لا حاجة لي بك."

فتح دوريان الباب قليلًا، فرأى صورة وجهه تبتسم له بسخرية في ضوء الشمس، والستارة كانت ممزقة وملقاة على الأرض أمام اللوحة. تذكّر أنه نسي لأول مرة في حياته أن يغطي اللوحة مساء الأمس، وكاد يركض نحوها لكنه تراجع وهو يرتجف.

لاحظ شيئًا بشعًا: قطرات حمراء لامعة على إحدى اليدين، وكأن اللوحة تنزف دمًا.  

شعر أن هذا المشهد أبشع حتى من الجثة التي يعرف أنها ملقاة على الطاولة، وظلّ ظلها القبيح ظاهرًا على السجادة، بلا حركة.

تنفس بعمق، ودخل الغرفة بسرعة، وهو مغمض العينين تقريبًا ورأسه مائل بعيدًا عن الجثة، مصممًا على ألّا ينظر إليها. ثم انحنى وأخذ الستارة الذهبية البنفسجية، وغطّى بها اللوحة.

توقف في مكانه، خائفًا من الالتفات، وعيناه تحدّقان في زخرفة الستارة. سمع كامبل يدخل الصندوق الثقيل والأدوات الأخرى التي سيستخدمها في ذلك العمل المخيف. وبدأ يتساءل في نفسه: هل التقى آلان وبَيزِل يومًا؟ وإن حدث، فماذا ظنّ كلٌّ منهما بالآخر؟

"اخرج الآن"، قال صوت صارم خلفه.

التفت دوريان، وغادر الغرفة بسرعة، مدركًا بالكاد أن الجثة أُعيدت إلى الكرسي، وأن كامبل كان يحدّق في وجهٍ أ

صفر لامع. وبينما كان ينزل السلم، سمع صوت المفتاح يُدار في القفل.

حين عاد كامبل من المكتبة، كانت الساعة قد تجاوزت السابعة بكثير. بدا شاحبًا، لكن هادئًا تمامًا.

تمتم:  

"لقد فعلت ما طلبته مني... والآن، وداعًا. دعنا لا نرى بعضنا أبدًا."

أجابه دوريان ببساطة:  

"لقد أنقذتني من السقوط يا آلان. لن أنسى ذلك."

وبمجرد مغادرة كامبل، صعد دوريان إلى الطابق العلوي. كانت رائحة حمض النيتريك كريهة تملأ المكان... لكن الشيء الذي كان يجلس على الطاولة اختفى.

تعليقات

المشاركات الشائعة