12

  خرج من الغرفة وبدأ يصعد، وهولوورد يتبعه عن كثب.

 كانا يمشيان بخفة، كما يفعل اللصوص في الليل. كان المصباح بيدي دوريان يلقي بظلالٍ خيالية على الجدار والسُلَّم، وبدأت الرياح المتصاعدة تُحدث اهتزازًا في بعض النوافذ.

وعندما وصلا إلى أعلى الدرج، وضع دوريان المصباح على الأرض ، وأخرج المفتاح وأدخله في القفل. وقال بصوتٍ منخفض:  

"هل لزلت تُصرّ على معرفة الأمر، يا بازل؟"

أجاب : "نعم."

فقال دوريان مبتسمًا: "يسعدني ذلك." ثم أضاف بنبرة قاسية بعض الشيء:  

"أنت الشخص الوحيد في العالم الذي يحق له أن يعرف كل شيء عني. لقد كان لك تأثير على حياتي أكثر مما تعتقد." ثم رفع المصباح وفتح الباب ودخل الغرفة.  

اندفع تيار بارد من الهواء من الغرفة، فاندلعت شعلة برتقالية عكرة للحظة. ارتعش دوريان.  

"أغلق الباب خلفك"، همس وهو يضع المصباح على الطاولة.

نظر هولوورد حوله بتعبيرٍ حائر. بدت الغرفة وكأنها لم تُعش فيها منذ سنوات. كانت تحتوي فقط على نسيج فلمنكي باهت، ولوحة مغطاة بستار، وصندوق إيطالي قديم، ومكتبة شبه فارغة، بالإضافة إلى كرسي وطاولة.  

وبينما كان دوريان غراي يُشعل شمعة نصف محترقة تقف على رف المدفأة، لاحظ بازل أن المكان بأكمله مغطى بالغبار، وأن السجادة مليئة بالثقوب.

 اندفع فأر يركض خلف الألواح الخشبية. وانتشر في الجو رائحة رطبة وعفنة.

قال دوريان بصوتٍ بارد وقاسٍ:  

"أتظن أن لا احد يرى الروح ؟، يا بازل؟ اسحب تلك الستارة، وسترى روحي."

قال هولوورد وهو يعبس بهمس:  

"أنت مجنون، يا دوريان، أو تتظاهر بذلك."

ردّ دوريان:  

"لن تفعل؟ إذًا سأفعلها بنفسي."  

ثم مزق الستارة من قضيبها، ورماها أرضًا.

صرخ الرسام برعب حين رأى في الضوء الخافت ذلك الوجه البشع المرسوم على اللوحة يبتسم له بسخرية. كان في تعابير الوجه ما يثير الاشمئزاز والنفور. يا للهول! لقد كان وجه دوريان غراي نفسه!  

لكن الرعب، مهما كان، لم يدمر بعد جماله المذهل بالكامل. كان لا يزال هناك بعض الذهب في شعره الخفيف، وشيء من الحمرة على شفتيه الشهوانيتين.  

وعيناه المنتفختان احتفظتا بشيء من جمال اللون الأزرق، والانحناءات النبيلة لم تختفِ بعد من أنفه المنحوت وعنقه المتناسق.

نعم، لقد كان دوريان بنفسه. لكن من رسم هذا؟  

كان هولوورد يظن أنه يعرف ضربات فرشاتِه، وكان الإطار من تصميمه. الفكرة كانت وحشية، ومع ذلك شعر بالخوف.  

أمسك بالشمعة المضاءة وقرّبها من اللوحة. وفي الزاوية السفلية، رأى اسمه مكتوبًا بأحرف طويلة من اللون القرمزي الزاهي.

لقد كانت مهزلة بشعة، هجاءً فاسدًا ومُهينًا. لم يكن هو من رسم هذا، ومع ذلك كانت تلك لوحته.  

كان يعرفها، شعر وكأن دمه قد تحوّل فجأة من نار إلى جليدٍ بطيء.

لوحته الخاصة! ماذا يعني ذلك؟ لماذا تغيّرت؟  

استدار ونظر إلى دوريان غراي بعينين مريضتين.  

ارتعشت شفتاه، ولسانه الجاف لم يستطع النطق.  

ومرر يده على جبهته ، التي أصبحت مبتلة بعرقٍ بارد ولزج .

كان الشاب متكئًا على رف المدفأة، يُراقب هولوورد بتلك النظرة الغريبة التي تراها على وجوه الأشخاص المنغمسين في عرض مسرحي يُقدّمه فنانٌ عظيم.

 لم يكن في تعبيره حزنٌ حقيقي ولا فرحٌ صادق، فقط شغف المُتفرّج، وربما ومضة انتصار في عينيه.  

كان قد أخرج الزهرة من معطفه وشمّها، أو تظاهر بذلك.

صرخ هولوورد أخيرًا، بصوتٍ بدا له حادًا وغريبًا في أذنيه:  

"ما معنى هذا؟"

قال دوريان غراي، وهو يسحق الزهرة في يده:  

"قبل سنوات، عندما كنت فتى، قابلتني، وامتدحتني، وعلّمتني أن أُباهي بجمالي. وفي أحد الأيام، عرّفتني على رفيق لك تحدّث لي عن روعة الشباب، ثم أنهيت لوحتي التي كشفت لي روعة الجمال.  

وفي لحظة جنون، لا أعرف حتى الآن إن كنت أندم عليها أم لا، تمنيت أمنية... ."

قال هولوورد، وهو يصرخ:  

"أتذكرها! أوه، كم أتذكرها جيدًا! ، لكن هذا الشيء مستحيل ، انا متاكد ان الغرفة رطبة، والعفن أصاب القماش، والدهانات التي استخدمتها كانت رديئة. أقول لك إن هذا الشيء مستحيل!"

همس دوريان وهو يتجه نحو النافذة ويسند جبهته إلى الزجاج البارد المغطى بالضباب:  

"آه، ما الشيء المستحيل؟"

قال هولوورد:  

" دمّرت لوحتي يا دوريان."

فردّ دوريان:  

" مخطئً ، هي التي دمّرتني."

قال هولوورد، غير مصدق:  

"لا أصدق أنها لوحتي."

أجاب دوريان بمرارة:  

"ألا ترى فيها مثالك الأعلى؟"

قال هولوورد:  

"مثالي، كما تسميه..." 

قاطع دوريان:  

"كما كنتَ تسميه."

قال هولوورد، بألم:  

"لم يكن فيه شيء شرير، ولا شيء مشين. لقد كنتَ لي مثلاً لن أجد له مثيلًا مرة أخرى... أما الآن، فهذا وجه قُزم شهواني."

فردّ دوريان بهدوء:  

"إنه وجه روحي."

"يا إللهي! أي شيء هذا الذي كنتُ مولع به؟! إنه يحمل عيون شيطان."

فصاح دوريان، بإيماءة يائسة:  

"كل واحد منا يحمل في داخله جحيماً يا بازل ."

توجه هولوورد مرة أخرى نحو اللوحة، وحدّق فيها:  

"يا إلهي! إن كان هذا صحيحًا، وإن كنتَ قد فعلت هذا بنفسك، فلابد أنك أسوأ من كل من يهاجمك أو يتخيلك كذلك!"  

رفع الضوء نحو اللوحة وتفحصها. بدا السطح غير متأثر، كما تركه.  

لقد كانت القذارة والرعب ينبعثان من الداخل. حتى تعفّن جثة في قبر مائي لن يكن بهذا القدر من الرعب.

اهتزت يده، وسقطت الشمعة من حاملها على الأرض، وظلت تتوهج وتتبخّر.  

وضع قدمه عليها وأطفأها، ثم رمى بنفسه على الكرسي المهترئ بجانب الطاولة، ودفن وجهه في يديه.

"يا إلهي يا دوريان، ماذا فعلت بنفسك !"  

ولم يكن هناك رد، لكنه سمع بكاء الشاب عند النافذة.

همس :  "انسى امر اللوحة يا دوريان ، انت اهم منها الان ، مازل لديك فرصة ، تغير ، ارجع لروحك القديمة

او ، يمكنك ان تتمنى امنية جديدة ، لقد تحققت امنية كبريائك. وستحقق امنية توبتك كذلك .  

لقد قدرتك أكثر مما ينبغي. وها أنا أُعاقَب على ذلك.  

أنت قدرت نفسك أكثر مما ينبغي. وها انت تعاقب."

توجه دوريان غراي ببطء إليه، ونظر إليه بعينين مبللتين بالدموع:  

"لقد فات الأوان، يا بازل "، تلعثم.

فأجاب هولوورد:  

"لا، لا يوجد وقت يُدعى متأخرًا، يا دوريان. دعنا نحاول مجددا ، ساسعدك لكي ترجع افضل ، هيا ندعو الله معاً ليغفر لنا "

قال دوريان بصوت بارد:  

"تلك الكلمات لم تعد تعني لي شيئًا."

هتف بازل :  

"اصمت! لا تقل هذا. لقد اقترفت ما يكفي من الشر في حياتك. يا إلهي! ألا ترى ذلك الشيء الملعون يحدّق بنا؟"

نظر دوريان غراي إلى الصورة، وفجأة انتابه شعور جارف بالكراهية تجاه باسل هولوورد، كأن اللوحة نفسها أوحت له بذلك، همست له الشفاه الساخرة بالكراهية.  

اشتعلت في داخله غرائز الحيوان المُطارَد، وكره الرجل الجالس إلى الطاولة أكثر من أي شيء كرهه في حياته.  

راح يحدق بجنون حوله. لاح ضوء خافت أعلى الصندوق المزخرف المقابل له.  

وقع بصره عليه، وعرفه فورًا. كان سكّينًا أحضره قبل أيام ليقطع به خيطًا، ونسي أن يأخذه معه.  

تحرك نحو الصندوق ببطء، مارًّا من خلف هولوورد.  

وبمجرد أن أصبح خلفه، أمسك السكّين، والتفت بسرعة.  

تحركت بازا في الكرسي وكأنه سينهض ، لكن دوريان اندفع نحوه وغرز السكّين في الوريد خلف أذنه ، وضغط رأسها على الطاولة، وطعنه مرة بعد مرة.

صدر منه أنين مكتوم، وصوت مخيف لاختناق بالدم.  

ثلاث مرات ارتفعت ذراعه في الهواء متشنجة، تلوّح بأصابع متصلبة بشكل مروع.  

طعنه مرتين أخريين، لكن بازل لم يتحرك.  

بدأ شيءٌ بالتقطر على الأرض.  

انتظر لحظة، وما زال يضغط على راسهه ، ثم رمى السكّين على الطاولة وأصغى.

لم يسمع شيئًا سوى صوت التقطر على السجادة البالية.  

فتح الباب وخرج إلى الرواق. كان المنزل صامتًا تمامًا، ولا أحد حوله.  

لبضع ثوانٍ، وقف يشهق ويزفر . ثم أخرج المفتاح، وعاد إلى الغرفة، مغلقًا الباب خلفه.

لا يزال "ذلك الشيء" جالسًا على الكرسي، منكبًا على الطاولة برأسٍ منخفض وظهرٍ أحدب وذراعين طويلتين غريبتين. لولا ذلك الجرح الأحمر الممزق في عنقها، وتلك البركة السوداء المتخثّنة التي كانت تتّسع ببطء على الطاولة، لَقال المرء إنه نائم لا أكثر.

كم حدث كل شيء بسرعة! شعر بهدوءٍ غريب، ومشى نحو النافذة، فتحها، وخرج إلى الشرفة.  

كانت الرياح قد بدّدت الضباب، وأصبح السماء شبه خالية .  نظر إلى الأسفل، ورأى الشرطي يتجوّل، وهو يُسلّط شعاع مصباحه الطويل على أبواب البيوت الصامتة.ارتعش دوريان، ثم عاد إلى الداخل وأغلق النافذة خلفه.

وبعد أن وصل إلى الباب، أدار المفتاح وفتحه.  

لم يُلقِ حتى نظرة واحدة على الرجل المقتول .  

فقد شعر أن السر كله يكمن في ألّا يستوعب الموقف.  

الشخص الذي رسم الصورة القاتلة، والتي كانت سبب بؤسه، خرج من حياته... وهذا يكفي.

ثم تذكّر المصباح. كان مصباحًا غريبًا مصنوعًا بأسلوب مغاربي، من فضة باهتة منقوشة بزخارف فولاذية لامعة، ومرصّع بفصوص من الفيروز الخشن.  

ربما يلاحظ خادمه غيابه، وتبدأ الأسئلة.  

تردّد للحظة، ثم عاد وأخذه من على الطاولة.  

لم يستطع أن يمنع نفسه من رؤية "ذلك الشيء" الميت... كم بدا ساكناً! كم... كم بدت ذراعيه الممدوتان على طاولة مخيفة ، منظر أشبه بصورة شمعية مروعة.

بعد أن أقفل الباب خلفه، بدأ يتسلل بهدوء إلى الطابق السفلي. 

 كانت الأخشاب تصدر صريرًا، وكأنها تتألم.  

توقف مرات عدة، وانتظر. لا، كل شيء كان ساكنًا—فقط صوت خطواته هو ما كان يُسمَع.

وحين وصل إلى المكتبة، رأى الحقيبة والمعطف في الزاوية. لا بد من إخفائهما في مكانٍ ما.  

فتح خزانة سرية مدمجة في الجدار الخشبي—خزانة كان يُخفي فيها تنكراته الغريبة—ووضعهما فيها.  

يمكنه لاحقًا حرق كل شيء بسهولة. ثم أخرج ساعته. كانت تشير إلى الثانية إلا عشرين دقيقة.

جلس وبدأ يفكر.  

كل سنة—بل كل شهر تقريبًا—يُشنَق رجال في إنجلترا على مثل جريمته .  

لقد كان هناك جنون قاتل يُخيّم على الجو...  

لكن من راه ؟ 

لقد دخل المنزل عند الحادية عشرة، ولم يره أحد عند عودته.  

معظم الخدم كانوا في قصر جده ، وخادمه قد ذهب إلى النوم.  

باريس! نعم، لقد ذهب بازل إلى باريس، بواسطة القطار الليلي كما كان ينوي.  

وبعاداته الانعزالية الغريبة، فلن يُثير غيابه الشكوك إلا بعد شهور.  

شهور! حينها سيكون قد دمّر كل الأدلة.  

لكن... هل ترك بازل دليلًا خلفه؟  

وفجأة خطرت له فكرة.  

ارتدى معطفه المصنوع من الفرو وقبعته، وخرج إلى الحديقة .  

توقف هناك، عندما سمع خطوات الشرطي الثقيلة البطيئة على الرصيف بالخارج، ورأى ضوء مصباحه المنعكس في النافذة.  

انتظر، حابسًا أنفاسه.

وبعد لحظات، فك المزلاج، وتسلل خارجًا، مغلقًا الباب بلطف شديد خلفه.  

ثم بدأ بقرع جرس الباب. وبعد نحو خمس دقائق، ظهر خادمه "فرانسيس"، نصف نائم، يرتدي ملابسه بتثاقل، وبعينين ناعستين.

قال له دوريان:  

"آسف لإيقاظك، يا فرانسيس..."

قال وهو يدخل:  

"لكنني نسيت مفتاح الباب. كم الساعة الآن؟"

أجابه الخادم، وهو ينظر إلى الساعة ويُغمض عينيه من النعاس:  

"الثانية وعشر دقائق، يا سيدي."

"الثانية وعشر دقائق؟ يا لها من ساعة متأخرة! يجب أن توقظني غدًا عند التاسعة. لدي عمل يجب أن أنجزه."

"حسنًا، يا سيدي."

"هل اتصل أحد هذا المساء؟"

"السيد هولوورد، يا سيدي. بقي هنا حتى الحادية عشرة، ثم غادر ليلحق بقطاره."

"آه! آسف لأنني لم أره. هل ترك رسالة؟"

"لا، يا سيدي، سوى أنه سيكتب لك من باريس إن لم يجدك في النادي."

"هذا يكفي يا فرانسيس. لا تنسَ أن توقظني عند التاسعة غدًا."

"لن أنسى، يا سيدي."

ثم انسحب الخادم وهو يجرّ قدميه في نعليه.

أما دوريان غراي، فرمى قبعته ومعطفه على الطاولة، ودخل إلى المكتبة.  

ومشى داخل الغرفة مدة 

ربع ساعة، يعضّ شفته ويفكّر.  

ثم مدّ يده نحو أحد الرفوف، وأخرج منه كتاب العناوين الأزرق، وبدأ يقلب صفحاته.

"آلن كامبيل، ١٥٢، شارع هيرتفورد، مايفير."  

نعم... هذا هو الرجل الذي أراده.

تعليقات

المشاركات الشائعة