اجنحة من ضوء النجوم ٢

 شجرة غبار الجنيات كانت تقف شامخة في الأفق،  كتاج من الغيوم، تُطِلّ بظلالها الحالمة. 

ومن أعالي أغصانها، كانت تنساب شلالات متدرجة من غبار الجنيات الذهبي، تتلألأ كضوء النجوم وتصبّ بلطف في قاعدة جذعها.

 أغصانها انحنت وكأنها تحتضن بئر الغبار بحنو، قبل أن تتعرّج في أقواس ساحرة وتُشكّل زُخرفات خيالية. طالما رأت كلاريون أن إحداها تشبه قلبًا مقلوبًا، وأخرى تُجسّد ذيل قطٍ فضولي.

 وتحت ذلك البئر، في جوف الجذع العتيق، تجلّى القصر، نوافذه مرصوصة على اللحاء، تضيء من الداخل بنور ناعم.


 حتى من مكانها هذا، استطاعت كلاريون أن ترى وهج الضوء الذي تركته مضاءً في غرفة نومها، يتسلل برقة عبر أبواب الشرفة الزجاجية.

 كانت تتوقع أن التسلل للعودة سيكون الجزء الأصعب من مغامرتها الصغيرة، لكنها لم تحسب حساب تحدّي جديد: تأخرها غير المعتاد. في الواقع، كانت قد أحرزت سلسلة من النجاحات في التزام المواعيد. ولكن إلفينا؟ بالتأكيد لن يُسعدها كسر هذا السجل.


لو أن كلاريون فقط أتقنت التنقل الآني، تلك المهارة السحرية التي تتقنها الحاكمة بمهارة. كانت إلفينا تبدو وكأنها تتحول إلى دوامة من الغبار الذهبي ثم تظهر فجأة في الغرفة، كأنما لم تغادرها قط. أما كلاريون، فقد تمكّنت مرة من جعل يدها اليسرى تختفي… قبل أن تعود فجأة وبقوة إلى مكانها. وبما أنها تعرف سجلها السحري جيدًا، بدأت تظن بأنها قد تتلاشى للأبد… أو تظهر نصفها فقط في جهة من الغرفة!


هبطت في شبكة من الأغصان خلف شرفتها، ونفخت على وهجها لتُطفئه.


ومع قليلٍ من الحظ، لن يبحث أحد عن لمحة ذهبية وسط الأوراق... مع أنها كانت تضحك سرًا وهي تتخيل كيف سيرتجف رعاع المملكة لو اقتحمت الأميرة الجليلة حجراتهم باندفاعها الجنيّ.

 أما ردّة فعل إلفينا؟ فتلك لم تكن مدعاة للمرح. لحسن الحظ، كانت قد أبقت أبواب الشرفة مفتوحة. دفعتها بحذر، ثم ولجت غرفتها وأغلقت الباب خلفها بهدوء.


 عندها، بدأت أصوات مكتومة تتسلل من الردهة. كلاريون تعرّفت فورًا على الصوتين: بترا وأرتميس.


قالت بترا : "…أشعر بشيء غريب…" بصوتٍ مرتبك لكن فيه شيءٌ من المفاجأة السارة. 

كانت تنهار تحت ضغط الكذبة، وهذا ما أثلج قلب كلاريون، لأن صديقتها الأقدم – بل الوحيدة – لطالما كانت سيئة في هذا النوع من التمثيل.


 لم يكن الأمر أسهل، فرغم كل تلك السنوات، لا تزال "أرتميس"، حارسة كلاريون الشخصية، تنجح في إثارة أعصابها.

 ومع ذلك، اعترفت في نفسها بأنها تقدر جهدها—خصوصًا أنها لم تطلب من "بترا" أن تغطي غيابها... ولم تكن حتى تعلم أنها ستمر اليوم.

لكن يا له من توقيت محظوظ!


 اجتازت كلاريون الغرفة بخطى هادئة، حتى توقفت أمام منضدة الزينة، التي امتلئت بزجاجات العطور ومساحيق التجميل. 

اخدت نظرة سريعة في المرآة فطمأنتها: لا غبار لقاح على أنفها، ولا بتلات متناثرة بين خصلات شعرها. كانت وجنتاها محمرتين قليلًا من طيرانها الأخير، لكن ذلك أمر يمكن تبريره بسهولة. 

بترا قالت إنها تشعر بالتوعك، أليس كذلك؟ فكّرت كلاريون في استغلال هذه الحجة لتأجيل حصتها، لكن لا فائدة من تأخير ما لا مفر منه. فمهاراتها السحرية لم تراوح مكانها منذ أن بدأت إلفينا تدريبها، ولم تتوقع معجزة قبل الدرس القادم.


فجاءة ،  ومضة في طرف عينها شدّت انتباهها: السحب قد انزاحت قليلًا، وسمحت لشعاع من الشمس أن يتسلل إلى الغرفة.

 ومن خلال الزجاج، تراءت لها الجبال التي تقف شامخة خلف غابات الشتاء، تراقبها في صمت كحراس قدامى. في دفء لحظة الغروب، تلألأت الثلوج فوقها بلون أبيض ناصع. 

بالرغم من أنها رأت هذا المنظر مراتٍ كثيرة، إلا أن هذا الجمال البارد والمهيب لا يكفّ عن إدهاشها.


يا لسخافة هذه الرغبة، لكنها تمنت أن تراها عن قرب. راحت تتخيل نفسها واقفة على إحدى القمم، والرياح تسرح بشعرها، والثلوج تتراقص حولها، وعالم جوف الجنيات ممتد تحتها كلوحةٍ من الحكايا. يا لها من لحظة فاتنة!


 بطبيعة الحال، كانت إلفينا قد أغلقت الباب أمام أي تساؤل عن غابة الشتاء ، لكن كلاريون لم تكن تشعر بذلك الخوف المُفترض منها. من دفء غرفتها المعزولة، كانت الغابة تبدو هادئة... ووحيدة على نحوٍ يلامس روحها.تمامًا مثلها.


لم تطأ قدم أي جنية من المواسم الدافئة تلك الغابة منذ مئات السنين—حتى قبل ميلاد إلفينا، والتي لا أحد يعرف عمرها الحقيقي. فالجنيات صاحبات المواهب الحاكمة يعشن طويلاً،

 وكلاريون لم تستوعب أبدًا عدم فضول إلفينا. هناك عالمٌ كامل لا يعرفن عنه شيئًا، مليء بجنياتٍ لم يتحدث إليهن أحد قط. وحدهن جنيات الربيع والخريف قد رأين نظيراتهن الشتويات، من بعيد، وهن يعبرن بحر نيفر عند تبدّل الفصول.


"إنهن باردات كفصلهن"، قالت التقارير، " وبالكاد  ينظرن إلينا ."


 حاولت كلاريون أن تتخيلهن، خافتات ومتشحات باللون الرمادي تحت سماء من حجر. لكنها لم تُرضِها تلك الأوصاف الهزيلة. كانت تحترق بأسئلة قد لا تجد لها إجابة أبدًا. كيف يعيشون في تلك القسوة؟ ما نوع التحديات التي تواجههم؟ ومن يكون حارس غابة الشتاء؟!


 عندها دوّى صوت أرتميس من الرواق: "ابتعد أيتها الصانعه !"


تلاه صوت احتجاج مكتوم، ثم بدأ المقبض يهتز بقسوة.


"الأميرة كلاريون،" قالت أرتميس، "جئت لأرافقك إلى حضرة الملك."


لا مفر الآن. لو أرادت ، أو ظنّت أن كلاريون في خطر حقيقي، فهي قادر تمامًا على اقتلاع الباب من مكانه.



اندفعت كلاريون تفتح الباب، لتجد نفسها وجهاً لوجه أمام قبضة أرتيميس المرفوعة وهي على وشك الطرق ، بينما كانت بترا، التي بدا عليها أنها تبذل جهداً بطولياً لإيقافها، تكافح للإمساك بذراعها.

 

لطالما أثارتا أرتيميس وبترا إعجابها—أرتيميس بطولها وبنية كتفيها العريضة، وبترا بعظامها الرقيقة كأجنحة طائر طنان. 

لكنّ أياً منهما لم تكلف نفسها عناء اكتشاف ما ينبغي فعله بشعرها.

 أرتيميس قد قصّت شعرها حتى ذقنها، وأحاط وجهها الزيتوني خصل سوداء خشنة، كأنها عبثت به بسكين غير حاد، بدافع الملل أو الحاجة. 

أما بترا، فكانت تملك خصلات حمراء براقة، وغالباً ما كانت ترفعها فوق رأسها وتثبتها بأدوات عشوائية من ورشتها. اليوم، اختارت مسماراً، يلمع المعدن فيه برقة تحت الضوء—كان ذلك يبدو خطر ، بحسب رأي كلاريون.


قالت أرتيميس بعد أن استعادت هدوءها: "جلالتك، هل أنتِ بخير؟"


جلالتك ؟ ، رغم تكرار كلاريون لطلبها بالا تخاطبها  بهذا الاسلوب ، إلا أن أرتيميس لم تتخلَّ قط عن رسميتها.

 لقد كانت أرتميس -----صاحبة موهبة الاستطلاع--- ، ظلّاً لا يفارق كلاريون منذ أن تذكرت نفسها، إما تتابعها في كل خطوة، أو تقف إلى جانبها في الظهور العام. 

ومع ذلك، لم تكن تعرف عنها الكثير سوى براعتها المخيفة وإخلاصها المهووس للمواعيد. لم تكن أيّ منهما ممن يشارك مشاعره بسهولة.


"أنا أفضل الآن، شكراً." 

قالتها كلاريون ، ثم لمحت نظرة ذعر على وجه بترا خلف كتف أرتيميس. 

كانت بالتأكيد متأخرة عن دروسها، لكنها لم تكن لتترك بترا تغرق في سيناريوهاتها الكارثية.

اضافت بصوتها الملكي : "هل لي بلحظة؟ أود التحدث إلى بترا... على انفراد."


بدت أرتيميس وكأنها تواجه كابوس التأخير لدقيقة عن موعد، لكنها قالت على مضض: "بالطبع، جلالتك."


انسحبت في الممر، وقد شبكت يديها خلف ظهرها بطريقة استعراضية. لا شك في أنها ستظل تستمع رغم تظاهرها باللامبالاة—كل أصحاب مواهب الاستطلاع فضوليون بطبعهم، وربما لهذا هم مميزون في عملهم.


اصطحبت كلاريون بترا إلى غرفتها وأغلقت الباب خلفهما.

 على الفور، تمسّكت بترا بذراعها. وبهمس مرتفع، قالت: "أين كنتِ؟ جئت لألقي التحية ولم تفتحي الباب! ثم ظهرت أرتيميس وسألتني إن كنت رأيتك، واضطررتُ للكذب!"


بدات كلاريون : "أنا آسفة، وشكراً لكِ..." ، لكنها لم تتمكن من إكمال عبارتها؛ إذ ركعت بترا أرضاً، وفستانها المصنوع من أوراق القيقب الخضراء تجمع حولها، وأطلقت أنيناً طويلاً، تحتضن رأسها بين يديها.

 كادت كلاريون أن تشير إلى الشيء الحاد المغروز في قوس شعرها، لكنها تراجعت؛ فالواضح أن لدى بترا ما هو أهم في تلك اللحظة.


قالت بترا: "لا أدري كيف تتحملين أن تكوني معها كل يوم. إنها مريعة. هل سبق أن حاولتِ الوقوف في طريقها حين تضع شيئاً نصب عينيها؟"


"في الواقع..."


تابعت بترا قائلة: "تظاهرتُ طوال الوقت بأنني أغطّي غيابك، لكن بمجرد أن تخبر بما فعلته لإلفينا، ستنتهي أيامي هنا بلا شك."


"شكراً لأنكِ غطيتني"، تدخلت كلاريون أخيراً، "لكنني متأكدة أن الأمر ليس—"


قاطعتها بترا : "ربما لم يفت الأوان للهروب."

 ما إن تبدا بترا في الثرثرة ، حتى لا يستطيع شيء تقريبًا أن يوقفها. راحت كلماتها تخرج بعجلة متزايدة، وقالت: "سمعت أن بعض الجنيات يكسبن عيشهن في أماكن أخرى... يختبئن على متن سفن القراصنة أو..."


لم تعرف كلاريون من أين تبدأ لفك خيوط هذا الحديث. بدلًا من ذلك، تظاهرت بالتفكير: "فكرة لا بأس بها... أتصور أن لديهم الكثير من العمل لجنية خبيرة في التصليح."


حدّقت بترا بها بذهول: "أنتِ تحاولين التخلص مني!"


ابتسمت كلاريون رغماً عنها: "ترقيع الشباك، إصلاح بدن السفينة، تصليح القدور والمقالي..."


قالت بترا متذمره : "حسناً،"  دون أن يبدو في صوتها أثر للغضب الحقيقي. "فهمتُكِ."


ضحكت كلاريون بخفوت، لكن تعبير الحزن الخفي على وجه بترا جعلها تستعيد جديتها بسرعة.

 كانت تفهم ذلك الشعور تمامًا. مضت بضعة أسابيع منذ أن رأتا بعضهما، ومع ذلك بدا وكأن الزمن لم يمضِ. رغم أنهما لم تولدا من ضحكة واحدة، كانت كلاريون تشعر أحيانًا وكأنهما أختان. كانتا تتشاركان حدسًا داخليًا بأن كلًّا منهما تخفي تحت سطحها شيئاً مختلفاً عمّا يظنه الآخرون.


نادراً ما أخذت الجنيات بترا على محمل الجد، إذ لم يكن أحد يصغي سوى لكلماتها المتسرعة. لكن كلاريون كانت تحب أن ترى عقلها يدور كآلة عجيبة. بل إنها وجدت في ميلها لنسج الكوارث شيئًا محببًا، بعدما تعلمت كيف تُخرجها من دوامة التهويل. تحت ذلك القلق المتشابك، كانت بترا مضيئة، مرحة، ومخلصة—من أولئك الذين لا يسمحون لمخاوفهم، مهما بلغت قوتها، بأن تمنعهم من المضي قدمًا.


آه، كم افتقدتها... حتى وهي أمامها.


قبل سنوات، قبل أن تمنعها إلفينا من التجول بحرية، وقبل أن تسرق الواجبات كل وقتها، كانت كلاريون وبترا لا تُفترقان.

 كانتا تتسللان في جولات، أو بالأحرى، كانت كلاريون تجرّ بترا من ورشتها وهي تحتج وتقاوم، يتبعها حضور أرتيميس الكئيب. أما الآن، فلكل منهما عالمه؛ كلاريون في تدريبها، وبترا في عملها.


كانت بترا تتخصص في الأشغال المعدنية الدقيقة، لكنها كانت قادرة على صنع وإصلاح أي شيء تقريبًا.


على مدار السنوات، أنجزت كل شيء من المجوهرات إلى الأدوات المنزلية إلى التماثيل، وكانت تطمح لما هو أكبر.

 قضت ليلةً كاملة تشرح فيها مخططاتها لصناعة طرف صناعي. وبالطبع، أعجبت إلفينا بفنها كما أُعجبت ببراعتها، فعينتها الحرفية الخاصة بالتاج.


 لا تزال كلاريون تتذكر كم كانت بترا فخورة، وكيف أن فرحتها جعلتها تتوهج من الداخل. لقد كانت واحدة من أنقى لحظات السعادة التي عاشتها كلاريون. ومع أنها كانت تتوق لتلك الأيام الهادئة التي جمعت بينهما، كانت تعلم أن بترا تستحق نجاحها.


وتستحق السعادة.


مدّت كلاريون يديها إلى بترا. وعندما أمسكت بها، رفعتها برفق عن الارض . "سأراكِ بأقرب وقت ممكن." ثم أضافت بعد لحظة: "وسأخبركِ إذا ما احتجتِ الى الهرب إلى حياة بين أمواج البحر."


تأوّهت بترا بأسى: "حسناً."


فتحت كلاريون باب غرفتها. ومع تنهيدة حزينة أخيرة، رفرفت بترا مبتعدة في الممر، ولم تتوقف إلا للحظة لتلقي نظرة أخيرة على أرتيميس.

 أما أرتيميس، فظلت جامدة كتمثال، لكن كلاريون لم يخفل عليها  التوتر في كتفيها.


قالت بهدوء: "أنا جاهزة."


     ----------------------------------------------


أبواب انفتحت على قاعة واسعة—تجويف نُحت داخل جذع الشجرة العملاقة. 

ممرات وسلالم خشبية تملى المكان، تنحدر لأسفل نحو نواة الجذع الصلبة. 

أسفل ذلك المستوى، كان "قلب" الشجرة الحي، حيث تسري غبار الجنيات فيه كما تسري العصارة، لتصل إلى أضيق شرايين الأوراق، وإلى أبعد الجذور.


معاً، صعدا السلالم الحلزونية إلى غرف إلفينا.

 كانت جدرانها قد مسّها الزمن، ونحتها عدد لا يحصى من أيدي النجارين.

 لطالما وجدت كلاريون شيئاً جديداً يستوقف نظرها كلما مرت من هناك.

 في كل زاوية، صورة محفر فيها : زهرة السوسن المزخرفة، عينا بومة دائريتان، انحناءة النهر الذي يجري في جوف الجنيات .

 في بعض الأماكن، لاترى اللوحات بسبب نباتات طحلبية أو أزهار متسلقة، لكن كلاريون كانت تلمح بريق طلاء مغمّس بغبار الجنيات يتلألأ تحته. ولم يكن أحد ليزيل هذا الغطاء النباتي—شجرة غبار الجنيات، بالطبع، ينبغي أن يكون لها ذوقها الخاص في الزينة.


توقفا أمام بوابة ضخمة تؤدي إلى غرفة إلفينا، وكان كلّ باب منها منقوشاً بدقة مذهلة ليُشكل نصفاً معكوساً لشجرة غبار الجنيات. 

فتحت أرتيميس الأبواب لها، فاخترق شريط من ضوء العصر الممر المظلل. 

تنفّست كلاريون بعمق لتستجمع رباطة جأشها، ثم خطت إلى الداخل—ليستقبلها حائط من الصور الزيتية.

لوحات لملكات سابقات تحدق بها، كلّ منهن تظهر بكامل الوقار والقوة. 

رغم أن قروناً تفصل بينهن، كانت كل لوحة مختلفة تماماً في طرازها، لكنها جميعاً رسمت بيد مبدعة. ملأنها برهبة هادئة.

حتى انه بدا لها مستحيلاً أن تُعلق صورتها يومًا إلى جانبهن. 

حين كانت صغيرة، كانت تبحث عن شبه بينها وبينهن: بعضهن يشتركن معها في البشرة الفاتحة أو العينين الزرقاوين الغارقتين، وأخريات في لون الشعر العسلي. لكنهن جميعاً كن يملكن نفس الأجنحة: ذهبية ومضيئة، تتخذ شكل فراشة الملكة. أما الآن، فهي تخشى أن تجد خيبة تتسلل من نظراتهن.


أشاحت كلاريون ببصرها عن اللوحات. في نهاية الصف، وقفت إلفينا، تقف وسط نافذة تغمرها الشمس. 

كانت ترتدي ثوباً ذهبياً بتنورة عريضة ومتموجة؛ يتلألأ قماشه بفضل خيوط غبار الجنيات المنسوجة عليه.

 كانت حبيبات الذهب تنهمر من ذيل الثوب وتُشع بريقاً على الأرض، ثم تحلق في الهواء بشكل ساحر.

اما  التاج—ذلك الذي صنعته بترا، كما لاحظت كلاريون—كان يتوّج رأسها، يرتفع شامخاً ثم ينحني للخلف.

 بدا عليها هيبة كاملة، كما ينبغي لجنية ذات موهبة القيادة. 


قالت بنبرة متعبة: "لقد تأخرتِ." لم تكن لهجة اتهام، بل مجرد تقرير للواقع. حدث هذا من قبل، وسيتكرر. كلاهما يعرف ذلك.


جاهدت كلاريون لتمنع نفسها من التراجع أمام استيائها، وقالت: "أنا آسفة."


استدارت إلفينا لتنظر إليها.

 لاحظت كلاريون كم بدت الملكة مرهقة هذا اليوم. خصلات رمادية تشق شعرها البني، وسطوع ثوبها محا ما تبقى من برودة بشرتها البيضاء. 

ومع ذلك، لم تخلُ ملامحها من الحزم. عيناها الخضراوان احتفظتا بذلك الغموض، نظرة جنية عاشت مئة حياة، عنيدة وبعيدة.

 أحياناً، تخشى كلاريون أن تكون هذه النظرة لمحة من مستقبلها.


قالت إلفينا: "أثق أن لديك سبب وجيه."


"أوه، نعم... بالفعل لذي سبب وجيه جداً." لم تكن تعرف ما هو بعد، لكنها واثقة بأنها ستجد مبرراً مناسباً إن سُئلت.


أصدرت إلفينا صوتاً مستهيناً، وكأن التفاصيل لا تهمها. بالكاد صدّقت كلاريون حظها.

 قالت الملكة: "هل كنتِ تمارسين التقنيات التي ناقشناها؟"


أومأت كلاريون. بالطبع كانت تمارسها. لكنها لا تستطيع الادعاء بأنها أحرزت تقدماً يذكر في الأشهر الأخيرة—وذلك أمر يُقلقها بشدة.


---

 كانت تعرف كلاريون تمامًا ما هي موهبتها—تلك الفطرة السحرية، هبتها في الحياة، الشيء الذي انساب منها بسهولة التنفس.

 فالمواهب، كما يراها معظم الجنيات، كانت تمنح سكان "جوف الجنيات" معنىً وفرحًا. لكن كلاريون لم تكن متأكدة أن موهبتها تحمل تلك السهولة.


أخبرتها إلفينا أن التحكم في موهبة الحُكم لا ينبع من المشاعر، بل من غيابها. 

فليست الحرية في التحكم بضوء النجوم إلا ثمرة صفاء ذهني تام وتركيز لا يتزعزع. ولكن، مهما حاولت—بالتنفس أو التمارين أو القوة —لم تستطع أن تُفرغ نفسها من الشعور. لم تستطع أن تتخلص من ذلك الشوق المُلِحّ للارتباط.


قالت إلفينا: "حسنًا، أريني."


في لحظة، تجمّدت يدا كلاريون من شدة التوتر. لا، لم يكن وقت اليأس بعد.فربما تكون هذه المرة مختلفة.

 مدّت يدها. وشعرت من أعماق صدرها بذلك المصدر اللامتناهي لموهبتها. لو ضغطت أكثر، لو تمسكت بقوة، ربما استطاعت أن تُخضعه لإرادتها.


"ركّزي،" فكّرت. "سيطري عليه."


لبرهة، أزهرت في راحة يدها شعاع ذهبي خافت. خفات كشمعة في مهب نسيم، لكن ومضة أمل راودتها في الداخل. كانت تترنّح من الجهد، ولكن بقليلٍ بعد...

تعثّر الضوء ثم انطفأ. تنهدت كلاريون، وأغلقت أصابعها حول الجمر المحتضر كما لو أنها تستطيع احتوائه. حاولت ألا تفضح خيبة أملها على وجهها.


من الطرف الآخر للغرفة، انبثق نور ساطع. وعندما رفعت كلاريون نظرها، رأت إلفينا مضاءة بالكامل، يتوازن الضوء في كفها كنجمة مصغّرة، يلقي الضوء على تفاصيل وجهها وعلى أركان الغرفة بحدةٍ بالغة. 

كان النور شديدًا ومضيئًا لدرجة أن كلاريون قاومت رغبة رفع ذراعها لدرء وهجه.


على عكس جنيات موهبة الضوء، لا تحتاج جنيات الحكم إلى التلاعب بمصدر الضوء.

فقد خلقن من نجوم ساقطة، ويحملن في داخلهن خزانات من نور النجوم. قدرتهن قادر على اختراق الظلمة التامة، بل وتجاوز الكثير في طريقه. يمكن تشكيله كدرع لحماية المملكة. ولكن قبل كل شيء، كان ذلك النور رمزًا: شيئًا يمنح سكان "جوف الجنيات" الامان .


قبضت إلفينا يدها فانطفأ النور. وقالت: "كلارين."


ها هي اللحظة. عبّرت كلاريون وجهها بنبرة من الحياد، تستعد لسماع التوبيخ.


قالت إلفينا: "تبقّى شهرٌ واحد على تتويجك."


مالت كلاريون رأسها. "هكذا إذًا."


"ولم تتقني بعد أبسط مهارات قدرتنا."


"لم أفعل،" أجابت، وانكسر صوتها قليلًا.


فملكة "جوف الجنيات " لا تُجيد السياسة والتنظيم والقيادة فحسب، بل تُتقن أيضًا القدرة الفريدة لجنيات الحكم.

قدرة  كانت كلاريون تكافح منذ بداية تدريبها لتتقنهت.

 لكنها للاسف لا تستطيع الانتقال بين الأماكن، ولا إنتاج أكثر من ومضة ضوء، بل وحتى مساعدة نحلة واحدة كان يُرعب شعبها على ما يبدو.


بعد لحظة مشوبة بالهشاشة، سألت إلفينا: "أين كنتِ؟"


وما جدوى إخفاء الأمر؟ تنهدت باستسلام. "في المَرج الصيفي."


رَقَّ خطُّ شفتي إلفينا، ولم يكن عليها أن تنطق بكلمة حتى تشعر كلاريون بثقل الاستياء الذي يحملُه صمتُها. النظرة في عينيها قالت كل شيء: آن الأوان أن تضعي الطفولة جانبًا.  

"لماذا لم تعودي بعد اجتماعك؟"


قالت كلاريون، وكأنها تبرّر لنفسها أكثر مما تبرّر لها:  "كنت أنوي العودة في الوقت المناسب، حقًا. لكن حين هممت بالرحيل، حدث أن..."  

صمتت، كي لا تغرق في تفاصيل تعلم أن إلفينا لا ترغب بسماعها ولا تحتاج إليها.  

"فكرت أن أقدّم مساعدتي لإحدى جنيات المواهب الحيوانية."

كان ذهول إلفينا ملموسًا.  

"ذلك لا يعنيكِ. أنا متأكدة أن الجنية كانت تُدبّر أمرها على نحو جيد."


احتجّت كلاريون، بإلحاحٍ طفيف:  

"لكنها شكرتني. ربما كانت بحاجة إلى..."


قاطعتها إلفينا، بصوتٍ لا يخلو من الحزم:  

"أفهم أن دورنا قد يُشعركِ بالضيق. ولكن لا يمكنكِ أن تساعدي كل جنية محتاجة، ولا أن تصادقي الجميع. الملكة الجيدة تضع المهمة نُصب عينيها، وتُحسن الفعل على نطاق واسع. هذه مملكة شاسعة."  


حلّقت إلفينا نحو النافذة، حيث تتفرع أعلى أغصان شجرة غبار الجنيات، وهناك امتدّت نصف "جوف الجنيات " أمامهما.  

"هذا كله يقع تحت مسؤوليتكِ. أتفهمين ما يعنيه ذلك؟"


قالت كلاريون:  

"طبعًا."


قالت إلفينا، شاردة النظرة:  

"أنتِ صغيرة. لم تواجهي صراعًا حقيقيًا، ذلك النوع الذي يهدّد كل من يقع تحت حمايتك. يجب أن تكوني مستعدة. ما لم تتقني الأساسيات، لا يمكنكِ خوض مشكلات ، الامر أعقد مما يبدو عليه."  

ثم أضافت بنبرة محمّلة بما لم يُقال:  

"أوكل إليكِ كل ثقتي...  بها. لست متأكدة أنكِ قادرة على تحمّلها.لكن لا أريد أن أراكِ تفرّطين بها ."


قالت كلاريون، بصوتٍ خفيض يستجمع شتات يقينها:  

"لكي أكون ملكة صالحة..."


أكملت:  "يجب أن أكون باردة وبعيدة كالنجم الذي وُلدتُ منه."  

كان هذا هو المبدأ الذي قامت عليه فلسفة إلفينا في الحكم، والذي غُرس في كلاريون منذ أن وطئت عالمهم.


حدّقت إلفينا فيها طويلًا.  


"أعلم أن الأمر ليس سهلًا عليكِ. ولكنها الطريقة الوحيدة لحفظ الحياد، والطريقة الوحيدة  للحافظ على العدالة."


لكن إن كانت تلك هي الطريقة الوحيدة، فلماذا شعرت بهذا الفراغ؟  

حين خرجت ذات يوم من نجمها، كانت تحترق بداخله بالهدف واليقين. أما الآن، فقد بدا ذلك الشعور بعيدًا كضوء الفجر في الشتاء.  

في بعض اللحظات، تشكّك في أنها تزداد ضعفًا في قدرتها كلما اقتربت لحظة التتويج.  

وفي أعمق أعماقها، كانت تخشى أن يسقط نجم جديد يومًا ما، وتظهر وريثةٌ أخرى...  نسخةً من إلفينا، كاملةٌ ،  كما لم تكن كلاريون يومًا.


قالت، بالكاد تسمع صوتها:  

 "أفهم."


لينت ملامح إلفينا قليلاً.  

"أنتِ تحت ضغط هائل. ولكن موهبتك ستأتيكِ، يا كلاريون."


لكن متى؟  ذلك السؤال أوجعها أكثر مما توقّعت.  


"شكرًا لكِ."


قالت إلفينا وهي تهمّ بالمغادرة:  

"اذهبي وارتاحي. أنتِ من سيقود اجتماع المجلس غدًا."


آه، لقد كادت أن تنسى.  

في كل أسبوع، يجتمع الوزراء الموسميون لمناقشة شؤون ممالكهم.  

كل شيء، من النزاعات إلى طلبات الموارد، يُعرض على إلفينا.

وبدءًا من الغد، على الأرجح، سيُعرض على كلاريون أيضًا.

الغد، إذًا.  

ابتداءً من الغد، ستحاول أن تتصرف كملكة لـ"جوف الجنيات".


---


تعليقات

المشاركات الشائعة