اجنحة من ضوء النجوم ١

 كان الوقت بعد الظهيرة ... ذلك الوقت الملائم لاحلام اليقطة.

كان الهواء يلمع باشعة الشمس الصفراء وغبار الجنّيات النقي ، والمرج يهمس بطنين النحل الهادئ.

جلست كلاريون على غصن شجرة بلوط، تحيط بها الأوراق التي تتمايل مع نسيم الرياح.

فما أروع الوحدة ، وما أبهى أن يمتلك المرء خمس عشرة دقيقة من الهدوءٍ ، بلا واجب، بلا أوامر، و بلا ضجيج.

ولوهلة، ندمت على تلك الفكرة، رغم جمالها ، فقد تخيلت رد فعل الملكة إلفينا - تخيلتها تقول بصوتها الملكيّ الصارم : "ملكة جوف الجنّيات لا تجلس متفرغة وهناك عمل ينتظر !"

لكن كلاريون لم تصبح ملكةً بعد. ولقاؤها الأسبوعي مع وزيرة الصيف انتهى باكرًا على غير العادة. ولم تكن تنوي أن تترك هذه اللحظة النادرة من الحرية تمرّ دون أن تتذوقها.

فمع اقتراب موعد تتويجها ، غدت أيامها مكتظّة بالدروس، والبروفات، والاختبارات، واجتماعات لا تُحصى.

 كل ذلك كان ضروريًا، إذ لم يتبقَّ لها سوى شهر واحد لتتشرّب ما أمكن من حكمة الملكة المتراكمة عبر قرون.

 ورغم ذلك، فإن جوف الجنّيات ظلّ بالنسبة لها عالماً فسيحًا، مبهماً، يكاد يكون غريبًا... كيف يُرجى منها أن تحكمه، وهي لم تعشه إلا من وراء ستار المراقبة ؟

حدّقت كلاريون في مرج عبّاد الشمس، و الشوق يطلّ من عينيها.

 ومع اقتراب ساعة الغروب ، خرجت جنّيات ، مشرقات بالفرح، يستعدن لمواجهة فوضى النهار الأخيرة. 

ومن بين الأغصان، راقبتهن كلاريون يرقصن في الهواء المفعم برحيق الزهور، تاركات خلفهن أثرًا لامعًا كشرائط ذهبية.

بعضهنّ كنّ يعملن بتناغم، يحاولن توجيه أشعة الشمس نحو اوعيتهن بدقّة، يتنادين:

 "إلى اليسار قليلاً!" ثم: "لا، اليسار الآخر!"

وأخريات كنّ يمددن أيديهن داخل الضوء، يغرفنه كما لو أنهن يغرفن ماءً صافياً من بئر.

لم تتوقّف دهشة كلاريون... كم من التفاصيل الصغيرة تتجمّع في مملكتها.

كان هناك جمال في الغروب، ينسيها الزمن ، ومع ذلك، بدا من المستحيل أن يأتي قريبًا موعد الصيف ، حيث ستتوج و يتوجب عليها أن تهتم بالجميع.

 الفكرة أرعبتها أكثر مما اعترفت به لنفسها.

صوت صفير حاد شقّ أفكارها، تبعه شيء اندفع كوميضٍ أسود عبر السماء التي بدأت تتلون. 

تراجعت كلاريون، متعثّرة، وكادت أن تفقد توازنها لولا غصن أسندها.

ما كان هذا ؟

وبيدٍ ترتجف عند صدرها، نظرت عبر ستار الأوراق، فرأت نحلة تتمايل في طيرانها قبل أن تسقط بثقل على الأرض، بلا حراك. 

وبعد لحظات، اهتزّت أجنحتها، فتنهدت كلاريون براحة. 

ليست مصابةإذًا، بل منهكة. 

النحل طموحٌ أكثر من اللازم، لا سيما وسط حر الصيف الذي لا ينتهي. 

لكن ملعقة من السكر ستكفي. والسكر وفير في "جوف الجنيات" ! 

فالقصور تعجّ بالحلوى في هذا الوقت، بل الخلية ذاتها، بكل ما فيها من عسل، لا تبعد سوى مرج واحد.

مشكلة بسيطة... وحل أبسط. ،ومع ذلك، ترددت كلاريون.

أيّ مشكلة في المملكة كانت تثير رغبتها في الإصلاح. 

كانت تعتقد أن هذه الغريزة هي شرارة موهبتها الحاكمة، ومفتاح لفهم كيانها. 

لكنها أدركت الآن أن التعاطف لا يكفي، ولا يمكن الوثوق به. ملكة "جوف الجنيات"... ليست ملكًا لرعاياها.

فمنذ الليلة التي انبثقت فيها من نجمٍ ساقط، كما تفعل كل ملكة من قبلها، غرست إلفينا فيها شعورًا بالفرادة.

 وهي بالفعل مختلفة، موسومة بغبار النجوم، لا يشبهها أحد سوى إلفينا .كلاريون وحدها تحمل موهبة الحكم.

نظرت نحو المرج، حيث تتوزع جنيات المواهب الحيوانية والبستانية لتوجيه قطيع النحل. 

هل ياترى سيلحظون غياب واحدة؟ 

ورغم أن إنقاذ نحلة قد يبدو دون شأن، فإنها لم تحتمل فكرة الرحيل. 

أيّ ملكة تكون لو أدارت ظهرها لأصغر مواطنيها؟ 

لم يتبقّ لها سوى النزول من الشجرة.

عباءة ثقيلة كانت تغطي كتفيها، تحبس جناحيها تحت وزنها. 

لكل جنية هالة خافتة، تتوهج حسب المزاج، لكن جناحيها كانا يضخان ضوءًا لا يهدأ. 

ورغم أن الجنيات ذوي مواهب الضوء يشتركون معها في الجناح المضيء ، إلا أن الشبه لم يكن كافي.... فاجنحة كلاريون كانت تلمع مثل قطعة ذهبية تكاد تعميك

وهناك، على بعد خطوات، كانت النحلة تتمدد في بركة من الضوء الأصفر.

اقتربت منها بحذر، ثم انحنت بجانبها. "هل أنت بخير؟" 

اهتزا قرنا الاستشعار باتجاهها، فقررت كلاريون أن هذا يعني نعم. 

لم يسبق لها أن تفاعلت مع نحلة من قبل.

كثير من الجنيات يحتفظن بها كحيوانات أليفة-قدر الإمكان طبعًا، فالنحل لا يلتزم إلا بمزاجه. 

يكتسبون صداقته بأطباق من الرحيق على النوافذ ،وبساتين مليئة بالأزهار التي يحبها مثل النعناع البري، الخزامى، وسوزان السوداء العين. 

إلفينا لم تمنع ذلك، لكنها لم تشجع عليه أيضًا.

بساطة العلاقة بين الجنيات و بقية مخلوقات جوف الجنيات كانت شيئًا لم تتعلمه أبدًا.

قالت كلاريون : "هيا لنساعدك على الطيران من جديد،"

بدت كلماتها غريبة، وهي تخاطب نحلة وكأنها تفهمها. فقط الجنيات ذوو المواهب الحيوانية يستطيعون التواصل معها. 

لكنها أضافت على كل حال: "رجاءً، لا تلسعيني." ثم حملتها بلطف. 

لم تقاوم النحلة، وكلاريون أقسمت أنها رأت امتنانًا في عينيها المتعبتين. 

كان زغبها أنعم مما تخيلت، ورائحتها تحمل إشراقة الليمون وتربة اللقاح. 

وعند هذه المسافة، رأت كم تشبه أجنحة النحل أجنحة رعيتها..... هشة، ثمينة، مزينة بنقوش شبيهة بشبكة الحياة. 

ازداد شعورها بالرغبة في حمايتها .....

وهي تحتضن النحلة بين ذراعيها، مشت عبر حقل عباد الشمس. 

ومن خلال الغطاء النباتي، لاحت لها لمحات من الجنيات المتطايرة. 

كانت ذرات الغبار التي تتركه الجنيات خلفهن تملى الهواء، ومعها ضحكات ناعمة. 

غمرها السرور، ثم شوق، ثم وحدة مؤلمة.

الجنيات اللواتي يتشاركن موهبة يتشاركن السكن، والعمل، واللعب، والتفاهم. 

ولطالما تساءلت كلاريون كيف يكون الشعور حين تنتمي، حين يكون هناك من يفهمك دون شرح.

عند حافة الحقل، كانت هناك شجرة قيقب ترخي ظلًا طويلًا، لكن الذي شدّ نظرها كان تجويفًا في جذعها، ممتلئ بخلايا العسل الذهبية.

وضعت النحلة بلطف على العشب.

"سأعود حالًا." 

ثم رفرفت بجناحيها، وربما فهمت النحلة ذلك بطريقة ما.

استدارت نحو الشجرة وأخذت نفسًا عميقًا. 

لقد تسلقت شجرة من قبل، ما الضير في واحدة أخرى؟ 

وجدت خطوات لها بين تضاريس اللحاء، والفطريات التي تنمو كأطراف مقببة. 

وعند الحافة، تسلقت نحو التجويف حتى بدا عطر الشمع والرحيق يغمر حواسها.

أطلقت سدادة من الشمع كانت تغلق خلية العسل، فاندفع العسل برفق، وكأنه يضيء تحت شمس. 

قطفت ورقة من غصن قريب، واستخدمتها لجمع العسل وهو ينهمر ببطء.

كانت العودة بيد واحدة محفوفة بالخطر، لكنها لم تسقط. 

وعندما عادت إلى نحلتها، وضعت الورقة بجانبها. 

"تفضلي، هذا لكِ."

راقبت كلاريون بقلق النحلة وهي تشرب، تتحرك ببطء، ثم تنهض بخفة، كأنها تختبر قوتها،

وبينما تستجمع شجاعتها، حلّقت من جديد. 

تراقصت في الهواء، وراحت تدور حول كلاريون، وكأنها تدعوها " تعالي".

همست كلاريون بابتسامة : "أتمنى لو أستطيع"، . 

حتى لو ظلت موهبتها لغزًا غامضًا، ربما يمكنها أن تصنع شيئًا جيدًا.

"ميل؟" 

صوت مذعور اخترق اللحظة...... النحلة انتفضت حين سمعت اسمها. 

ورفعت كلاريون بصرها، فرأت جنية من موهبي الحيوانات تبحث بجنون بين أزهار عباد الشمس. 

سالت كلاريون : "تبحثين عن هذه؟" 

ظهرت وجه الجنية بين الزهور، ملامحها متوترة ومرتبكة. 

قالت متلعثمة : "هل هناك أحد؟" .

نادت كلاريون : "أنا هنا بالأسفل."

تفاجأت، وكادت أن تسقط من مكانها. 

كلاريون تألمت من رد فعلها. 

نادراً ما يرى المرء جنيّة واقفة. 

عدّلت عباءتها بخجل، لحسن الحظ، شمس الصيف الساطعة أخفت وهج جناحيها، وما تسلل من فتحة الياقة كان باهتًا. 

اخد العرق ينساب على ظهرها، يتسلل بين جناحيها المنكمشين، كانت تتوق للحرية، من هذا الثقل، ومن هذا القيد.

وحين استعادت الجنية وعيها، سقط نظرها على "ميل". 

"ميل!" 

ركضت النحلة تجاهها بسرعة، ثم غيّرت وجهتها فجأة. 

الجنية اعتادت مثل هذه الحركات، ولم تبدُ منزعجة، بل كأنت تكتم ضحكة، بينما "ميل" تغوص في زهرة عباد الشمس.

"كان من المفترض أن تلقّحي أزهار القطيفة اليوم!" 

قالتها الجنية بلهجة معاتبة، لكن عينيها أفصحتا عن ارتياحها. 

ظهرت "ميل" من جديد، مغطاة بالغبار الذهبي، هزّته عن جسدها ككلبٍ مبلّل، ثم طارت نحو خليتها، وحتى كلاريون لاحظت أنها تتباهى بنفسها.

علّقت كلاريون بابتسامة : "تبدو مزعجة!" . 

ردت الجنية بحنان : "أنت لا تعرفين نصف ما تفعله!" . 

تابعت وهي تلتفت إليها: 

"ما فعلته كان طيبًا". 

فاجأها المديح. نادراً ما يتحدث إليها أحد دون إذن مسبق. فإلفينا كانت تحيطها بهالة من الهيبة، تحميها أجل .... لكنها تبعد الجميع عنها أيضاً. لذلك، لم تكن ماهرة في المحادثات العادية.

وبنبرة تحاول كسر الرسمية، قالت الجنية : "لم يكن شيئًا صعبًا. لكن شكراً لك." 

ثم ابتسمت، وابتسامتها كانت دافئة كالصيف. 

: "أنا متأكدة أنك مشغولة بما هو أهم من مطاردة النحل التائه." 

ردّت كلاريون بابتسامة خجولة: 

"على الرحب والسعة."

قالت الجنية، وهي تدقق في ملامحها، كمن تحاول أن تتذكّر. : "هل رأيتك من قبل؟" 

"تبدين وكأنك..."

"كلاريون؟"

انتفضت عند سماع اسمها، من صوتٌ مألوف شقّ الهوء كالسيف: كان ذلك صوت وزيرة الصيف!. 

شعور بالانكشاف . التفتت نحو أوريليا ، تلك التي بدت خلفها مباشرة ، بوجهٍ ينطق بالمفاجأة ، وبشرة سمراء وعينين ذهبية كغبار الجنيات..

كان شعرها ملتفّ في خصلات تنساب على كتفيها، وقد ارتدت اليوم، فستانًا بطبقات مزينة بعناقيد من زهور وردية وبرتقالية وبيضاء.

سألت : "ما زلتِ هنا؟ ، ظننتك عدتِ إلى القصر." 

أجابت كلاريون بصوت واهن : "توقفت قليلًا في الطريق ، للراحة"

سرّت أوريليا بذلك، فهي ابنة الصيف، تربت على مهل وسط هدوء الظهيرة ، وتقدّر السكينة فوق كل شيء.

ففي غابة الصيف ، هناك دائمًا وقت لقيلولة أو كأس ليموناضة. 

ولكن حين تنام الأغصان تحت وطأة الحر، تستيقظ الأرواح ليلًا. 

الصيف وحده لا ينام أبدًا. وإن بقيت كلاريون هنا طويلًا، فستخرج المواهب الليلية ، تلك الجنيات التي ترتب اليراعات، وتعدُ النجوم.

دللتها أوريليا : "موهبتي النابغة" ، ثم تابعت : "انظري، بدأتِ تفهمين الصيف." 

المديح بدا أجوفًا، لكنها لمحت البهجة في صوتها.

كلاريون : "شكرًا، يا وزيرة." 

ابتسمت أوريليا برضا لطيف، ثم انسحبت. 

نظرت كلاريون إلى صاحبة موهبة الحيوانات، وقد شحب وجهها. 

فتحت فمها لتقول شيئًا، أي شيء، يطمئنها... لكن فات الأوان. 

رأت اللحظة بدقّة-حين انقلبت الصدمة إلى خجل، ثم إلى دهشة تشبه التبجيل. كلاريون بالكاد استطاعت الاحتمال.

قالت الجنية بصوت يختنق : "الأميرة كلاريون؟ ، أنا آسفة حقا" 

رفعت كلاريون يديها في علامة تهدئة. 

"لا حاجة للاعتذار." 

الجنية : "بل هناك حاجة ؛ " 

انحنت بعمق وتابعت : "سيدتي، أرجو أن تغفري لي جرأتي... لو أنني فقط عرفت..." 

إذًا، لما حدثني أبدًا. ، ماذا بقي ليقال؟ 

بصوت خافت ردت : 

"أنتي مغفور لك." 

انحنت الجنية مجددًا، ثم همست بالشكر، وغادرت مسرعتاً نحو عملها ، و نحو رفاقها. 

وذلك الألم المعتاد، ذلك الشعور بالوحدة، تمدد داخل كلاريون كنجمة منهارة.

لبضع دقائق، كادت كلاريون تنسى من تكون. لا حرس يتعقبها، لا أحد يلاحظ خطواتها، لا حديث يخفت عند اقترابها، ولا همسات تتبعها في أعقابها. لكن لا شيء يدوم. حتى هنا، لا مهرب.

كان من المفترض أن ترغب في هذا-الاحترام، التبجيل. لكنها لا تريدها. ما تريده حقًا، هو الشيء الوحيد الذي يبدو مستحيلًا ...... أن تُفهم. لكن إلفينا ... 

اوه إلفينا !

يا للحظ ! . إن لم تغادر الآن، ستتأخر. 

فكّت دبوس العباءة، وقذفتها عن كتفيها ،ثم جمعتها بسرعة بين ذراعيها.

ثم أقلعت من وسط عباد الشمس، كشعاع ذهبي يعصف بالضوء والزهور. 

حتى أن بعض النحل الكسول في طيرانه، انحرف عن مساره كي يتفادها.

وهي ترتفع في السماء، تركت خلفها أثرًا من الغبار. وسمحت لنفسها بلحظةٍ واحدة فقط للنظر خلفها- ثم ندمت فورًا على ذلك. 

فجنيات مواهب الضوء أنهوا عملهم بعد الظهيرة، وانقسموا فرقًا، يرشقون كرةً من النور عبر شبكة. 

حتى من هذا البُعد، كان يمكن سماع ضحكاتهم، وتلك الصيحات المختلطة بين الفخر والخيبة عند كل نقطة تُسجل.

كان ينبغي لرؤية رعاياها، بهذه البساطة والكمال، أن تسعد قلبها. 

لكنها، في تلك اللحظة بالذات، لم تكن إلا مرآة لألمها الخاص. 

كملكة، كان الشعور بالوحدة يلاحقها كظل لا يُفارِق. 

ومهما رغبت في ذلك، فلن تستطيع يومًا أن تنتمي إليهم بحق.




---


تعليقات

المشاركات الشائعة