9

  بينما كان دوريان جالسًا يتناول الإفطار صباح اليوم التالي، دخل بازل هالوورد إلى الغرفة.

قال بنبرة جادة: "أنا سعيد جدًا لأنني وجدتك يا دوريان. لقد اتصلت البارحة ليلاً، وقالوا إنك كنت في الأوبرا. لم اصدق ذلك بالطبع. " 

تابع : "قرأت عن الخبر  بالصدفة في صحيفة  التقطتها في النادي. جئت إلى هنا فورًا، وشعرت بالبؤس عندما لم أجدك.  ،لا أستطيع أن أصف لك كم أنا محطم القلب بسبب هذا الأمر كله. أعلم ما الذي تعانيه. لكن أين كنت؟ هل ذهبت لرؤية والدة الفتاة؟ للحظة فكرت أن اذهب إلى هناك. فقد ذكروا العنوان في الصحيفة، لكنني خشيت أن أتطفل على حزن لا أستطيع أن أُخفّف منه. مسكينة تلك المرأة! في أي حال لا بد أنها منهارة! وطفلتها الوحيدة أيضًا! ماذا قالت عن كل هذا؟"

تمتم دوريان غراي وهو يحتسي شراباً أصفر باهتًا  من كأس زجاجي فاخر ، ويبدو عليه الضجر الشديد : "عزيزي باسل ، كيف لي أن أعرف؟ لقد كنت في الأوبرا. كان يجب عليك أن تأتي إلى هناك. قابلت أخت هاري، للمرة الأولى. إنها ساحرة تمامًا؛ وباتي غنّت بجمالٍ ساحر. لا تتحدث عن أمور بشعة. إذا لم يتحدث المرء عن شيء، فكأنه لم يحدث."

اضاف دوريان: " وأود أن أذكر أن الفتاة لم تكن الطفلة الوحيدة لتلك المرأة. لديها ابن أيضًا، فتى رائع على ما أعتقد، لكنه ليس ممثلًا. إنه بحّار، أو شيء من هذا القبيل. والآن، أخبرني عنك وعن ما ترسميه هذه الايام ."

رد هالوورد ببطء ونبرة يملؤها الألم : "ذهبتَ إلى الأوبرا؟ ، ذهبتَ إلى الأوبرا يا دوريان بينما  سيبيل فاين ترقد ميتة في غرفة رثة ؟ ،  وتتحدث معي عن نساء ساحرات وباتي التي غنّت بجمال، قبل أن تحصل الفتاة التي أحببتها حتى على قبرٍ ترقد فيه؟!"

صرخ دوريان، واقفًا فجأة: "توقف يا بازل ! ، لن أسمع المزيد ! ، لا يجب أن تتحدث عن هذه الأمور. ما حدث قد حدث، وما مضى قد مضى."  

قال بازل متفاجئًا: "أتسمي الأمس ماضيًا يا دوريان ؟"

رد دوريان: "نعم يا بازل ، الماضي هو كل شيء حصل قبل الان ،  الأشخاص السطحيون وحدهم يحتاجون إلى سنوات للتخلص من مشاعرهم. أما الرجل المتحكم في نفسه، فيُنهي حزنه بسهولة. لا أريد أن أكون ضحية مشاعري. أريد أن أستخدمها، أستمتع بها، وأسيطر عليها."

هتف بازل : "دوريان، هذا أمر فظيع! لقد تغيرت تمامًا. اين الصبي الذي كان يأتي يومًا بعد يوم إلى مرسمي ليرسم لوحته. كنت بسيطًا، طبيعيًا، ومحبًا حينها. كنت أنقى مخلوق في العالم. والآن، لا أعلم ما الذي طرأ عليك. تتكلم وكأنك بلا قلب، بلا رحمة. إنه تأثير هنري، هذا واضح."

احمر وجه الفتى غضبا ، ثم توجه نحو النافذة، ونظر للحظات إلى الحديقة الخضراء اللامعة تحت أشعة الشمس.  

وقال أخيرًا : "أنا مدين بالكثير لهنري يا بازل… أكثر مما أنا مدين لك. أنت فقط تجعلنني اشعر بتانيب الضمير ."

قال بازل : "ستعاقب على اهمالك لسيبيل يا دوريان ، يومًا ما."

صرخ دوريان وهو يلتفت إليه: "لا أفهم ما تقصد  ، ولا أعلم ما الذي تريديه. ماذا تريد يا بازل؟"

أجابه الفنان بحزن: "أريد دوريان غراي الذي اعتدت أن أرسمه."

اقترب الفتى منه ووضع يده على كتفه قائلًا: "جئت متأخراً يا بازل. البارحة، عندما علمت أن سيبيل فاين قد انتحرت..."

صاح هالوورد  بوجه مذعور: "انتحرت! يا إلهي! أليس هناك شك في ذلك؟"

أجاب دوريان: "عزيزي بازل ! بالتأكيد لا تظن أنها كانت مجرد حادثة تافهة؟ بالطبع انتحرت."

غطى بازل فمه وقال بذعر : "هذا مروع ، يا لها من فجيعة ! "، وارتجف جسده من الصدمة.

قال دوريان غراي: "لا، لا يوجد شيء مفجع في الأمر. إنها واحدة من أعظم المآسي الرومانسية في هذا العصر.

 عادةً، من يعملون في التمثيل يعيشون حياة عادية مملة ، تعرفين ما أعنيه…. أما سيبيل، فكانت مختلفة. لقد عاشت أعظم تراجيديا في حياتها. كانت دومًا بطلة. في الليلة الأخيرة التي مثلت فيها  – أدت بشكل سيئ لأنها اكتشفت حقيقة الحب. وعندما أدركت أنه ليس حقيقيًا، ماتت، كما كان يمكن لجولييت أن تموت. لقد عادت إلى عالم الفن. في موتها شيء من الشهادة. "

  تابع : "و  لا تظني أنني لم أعانِ. لو جئت بالأمس في لحظة معينة – ربما عند الساعة الخامسة والنصف، أو قبل السادسة بقليل – لكنت رأيتني أبكي. حتى هنري، الذي كان هنا، وهو من أخبرني بالخبر، لم يكن يعلم ما الذي أمرّ به. لقد تألمت بشدة..... ثم زال الألم. لا أستطيع أن أعيد الشعور نفسه مجددًا. لا أحد يستطيع، سوى المتشبثين بالعواطف. وأنتي ظالمة جدًا يا مارينا. أتيت لتواسيني، وهذا جميل منك. لكنك وجدتني متماسكًا، فغضبت. أهكذا يتصرف المتعاطفون! .

وبالمناسبة، يا بازل ، إن كنت حقًا تريد أن تواسيني، فالأولى أن تعلّمني كيف أنسى ما حدث، أو أن أراه من زاوية فنية صحيحة.

أن يصبح المرء منغمسا على حياته – كما يقول هنري – هو الطريق لتجنب المعاناة. أعلم أنك متفاجئ من طريقتي في الحديث. أنت لا تدركي كم تطوّرت. كنت مجرد تلميذ حين عرفْتني. والآن أنا رجل. لديّ مشاعر جديدة، وأفكار جديدة، ومفاهيم جديدة. لقد تغيرت، لكن لا يجب أن تحبني أقل. أنا مختلف، لكن يجب أن نظل اصدقاء . صحيح أنني أحب هنري جدًا، لكنني أعلم أنكي أفضل منه. لست أقوى منه – بل تخاف الحياة كثيرًا ... ، كن  سعيدا من اجلي ارجوك ،  لا تتركني ، ولا تتشاجري معي. أنا كما أنا، وليس هناك ما يُقال بعد."

شعر الرسّام بتأثر غريب. كان الفتى عزيزًا عليه بلا حدود، وكانت شخصيته بمثابة نقطة التحول الكبرى في فنه. فكر انه ربما هذا الفتور الذي يمر به دوريان  مجرد مزاج عابر. هناك الكثير من الخير فيه، والكثير من النبل أيضًا.

قال أخيرًا، بابتسامه حزينة: "حسنًا يا دوريان، لن أتكلم مجددًا عن هذه الفاجعة بعد اليوم. فقط آمل ألّا يُذكر اسمك في صلتها. التحقيق سيُجرى هذا العصر. هل استدعوك؟"

هزّ دوريان رأسه، وبدت عليه علامات الانزعاج حين ذُكر التحقيق. فقال: "هم لا يعرفون اسمي."

ردّ  مستغرباً : "لكن سيبيل كانت تعرفه، أليس كذلك؟"

أجاب: "فقط اسمي الأول، وأنا متأكد تمامًا أنها لم تذكره لأحد. قالت لي مرة إنهم جميعًا كانوا فضوليين لمعرفة من أكون، وكانت تخبرهم دومًا أن اسمي هو الأمير الساحر. كانت لفتة جميلة منها. يجب أن ترسم لي لوحة لسيبيل يا بازل . أود أن أحتفظ بشيء أكثر من مجرد ذكريات."

قال : "سأحاول أن أفعل شيئًا، إن كان سيسرك. ولكن عليك أن تجلس لي مجددًا، لا يمكنني أن أبدع بدونك."

صرخ دوريان متراجعًا: "لن أجلس لك بعد الآن يا بازل ! هذا مستحيل!"

حدّق الرسّام فيه وقال : "ما هذا الكلام يا فتى؟! هل تقصد أنك لم تعجب بما رسمتُه لك؟ أين اللوحة؟ لماذا غطيتها ؟ دعني أراها. إنها أفضل عملٍ قمتُ بها في حياتي."


تابع : "أزِل القماش يا دوريان. من المخزي أن يُخفي خادمك عملي هكذا. شعرت بأن الغرفة تبدو مختلفة حين دخلت."

ردّ دوريان: "خادمي لا علاقة له بالأمر يا بازل . هل تتخيل أنني أترك له ترتيب غرفتي؟ هو فقط يهتم بزهوري أحيانًا – هذا كل شيء. لا، أنا من فعل ذلك. الضوء كان قويًا جدًا على اللوحة."

قال بازا متفاجئاً : "الضوء قوي؟ لا أعتقد ذلك . المكان مناسب تمامًا لها. دعني أراها." ثم اتجه نحو زاوية الغرفة.

انطلق من شفتي دوريان صرخة رعب، واندفع بين الرسّام والحاجز. قال، وقد بدت عليه شحوب شديد:  

"يجب ألا تنظر إليها يا بازل. لا أريد ذلك."

قال بازا وهو يضحك: "ألا أنظر إلى عملي؟ أنت لا تتحدث بجدية! ولمَ لا أنظر إليها؟"

ردّ دوريان بجديّة صارمة: "إن حاولة النظر إليها، أقسم بشرفي أنني لن أتحدث إليك مجددًا ما حييت. أنا جاد تمامًا. لن أقدم أي تفسير، ولا يجب أن تطلب واحدًا. لكن تذكر ، إن لمستة هذا الحاجز، ينتهي كل شيء بيننا."

تفاجأ بازل بشدّة، ونظر إلى دوريان بدهشة مطلقة. لم تره هكذا من قبل قط. كان الفتى شاحبًا من شدة الغضب، ويداه مشدودتان، وحدقتا عينيه كأقراص من نار ، وجسده يرتجف بالكامل.

قال متحيراً :  "دوريان!"

ردّ الآخر: "لا تتكلم !"

قال ، محاولاً الحفاظ على هدوئه: "لكن ما الأمر؟ بالطبع لن أنظر إليها إن كنت لا تريد ذلك."

 ثم استدار مبتعداً نحو النافذة بنبرة باردة، وأكمل : "لكن، فعلاً، يبدو الأمر سخيفًا – أن لا أرى عملي، خصوصًا أنني أنوي عرضه في باريس هذا الخريف. ربما سأضطر إلى إضافة طبقة ورنيش أخرى."

صرخ الفتى فجأة وهو يشعر بالرعب يتسلل إليه: "تريدين أن تعرضها؟ أن تعرضها للعامة؟"  

هل سيُكشف سره أمام العالم؟ هل سيُحدّق الناس في لغز حياته؟ كان ذلك مستحيلًا. عليه أن يفعل شيئًا… لكنه لا يدري ما هو.

ردّ بازا  : "نعم، لا أظن أنك ستعارض. اللورد  جورج  يجمع أفضل لوحاتي لمعرض خاص في المدينة ، وسيفتتح في الأسبوع الأول من أكتوبر. اللوحة ستغيب شهرًا فقط. أعتقد أنه يسهل عليك الاستغناء عنها تلك المدة. على الأرجح ستكون خارج المدينة حينها. وإذا كنت تحتفظ بها دائمًا خلف قطعة غلقماش هذه ، فلا بد أنك لا تهتم بها كثيرًا."

مرّر دوريان يده على جبينه، وكانت عليه قطرات من العرق. شعر أنه على حافة خطر رهيب.  

قال بانفعال: "أخبرتني قبل شهر أنك لن تعرضها أبدًا! لماذا غيّرت رأيك؟ أنتم من يدّعون الثبات تتقلبون مثل غيركم، لكن مزاجكم بلا معنى. لا يمكن أنك نسيت قسمك امامنا انا وهنري  أن لا شيء في العالم سيدفعك لإرسالها إلى معرض."

ثم  توقف فجأة، وظهرت لمعة في عينيه. تذكّر  أن اللورد هنري قال له يومًا، بمزاحٍ نصف جاد:  

"إذا أردت أن تمر بربع ساعة غريبة، اطلب من بازل أن يخبرك لماذا لن تعرض صورتك. لقد أخبرني بذلك، وكانت مفاجأة بحق."  

نعم، ربما كان بازل سره الخاص أيضًا. عليه أن يسأله ويحاول معرفة الحقيقة.

اقترب منه ونظر مباشرة في وجهه قائلًا:  

"بازل، لكل منا سر. أخبرني بسرك وسأخبرك بسري. ما السبب الحقيقي لرفضك عرض صورتي؟"

ارتجف الرسّام رغماً عنه وقال :  

"دوريان، إن أخبرتك، قد لا تحبني كما كنت، ومن المحتمل أن تضحك علي. لا أستطيع احتمال أيٍ من الأمرين. إن أردت مني ألا أنظر إلى لوحتك مرة أخرى، فأنا راضٍ. لديّ أنت لأنظر إليك.

 وإن كنت تود أن يُخفى أفضل عمل فني أنجزته عن العالم، فأنا كذلك راضٍ. صداقتك أعزّ عليّ من كل مجد أو شهرة."

أصرّ دوريان غراي قائلاً:  

"لا يا بازل، يجب أن تخبرني. أعتقد أن لي الحق في أن أعرف."  

 زال عن دوريان  شعور الرعب، وحلّ مكانه الفضول. لقد عقد العزم على كشف سرّ بازل هالوورد.

قال الرسّام وهو  يبدو مضطرباً :  

"لنَجلس يا دوريان، فقط أجبني على سؤال واحد… هل لاحظت في اللوحة أمرًا غريبًا؟ شيئًا ربما لم يلفت انتباهك في البداية، لكنه انكشف لك فجأة؟"

صرخ الفتى وهو يشدّ على ذراعي كرسيه بيدين مرتجفتين ونظرة مذهولة:  

"بازل !"

قال الفنان وقد رأى ما يعنيه:  

"أجل، لقد رأيت ذلك. لا تتكلم… انتظر حتى تسمع ما سأقوله. دوريــان، منذ أن التقيت بك، كان لشخصيتك تأثير غريب وفائق على نفسي. وعندما تعرفت عليك انبهرت بعفويتك و نقائك اكثر ، حتى اصبحت مثالا لي ، ولفني ، دوما ماكنتُ إنساناً مستقلا ولا  اسمح ابدا ان ياثر علي احد ، لكنك فعلت يا دوريان  ، على رغم من صغر سنك كنت مثالا وقدوة لي ولفني …"

تابع هالوورد : "  لا أدري. لكنك كنت إلهاما لي ،  عندما كنت ارسم لوحتك ، كنت استشعر شيئا ، الشخص الذي كنت اريد ان اكون ، اللوحات والفن الذي اردت رسمها ،  كلّما وضعت لمسة من اللون، بدا لي أنها تكشف سرّا لي .  شعرت أنني كشفت الكثير، أنني وضعت الكثير من نفسي في اللوحة. ولهذا قررت ألّا أسمح بعرضها أبدًا. كنتَ منزعجاً قليلًا، لكنك لم تدرك كم يعني ذلك لي.

 تحدثت إلى هنري بالأمر، فضحك عليّ. لم أهتم لذلك. حين انتهيت منها وجلست معها وحدي، شعرت أنني كنت محقاً ، بعد أيام، غادرت اللوحة مرسمي، وبمجرد أن زالت جاذبيتها الساحقة، بدا لي أنني كنت مجرد احمق حين ظننت أن فيها شيئًا أكثر من أنك وسيم جدًا، وأنني أجيد الرسم.

 وحتى الآن، لا يسعني إلا أن أشعر بأن الاعتقاد بأن الشغف الذي نشعر به أثناء الرسم ينعكس في العمل هو اعتقاد خاطئ. فالفن دائمًا أكثر سطحية مما نتصوّر. الشكل واللون يخبرانا بالشكل واللون… هذا كل شيء.

 وغالبًا ما يبدو لي أن الفن يخفي الفنان أكثر مما يكشفه. لهذا ، عندما جاءني هذا العرض من باريس، قررت أن أجعل صورتك القطعة الرئيسية في المعرض. لم يخطر لي أنك سترفض. "

تنفّس دوريان بعمق، وعادت الحيوية إلى وجنتيه، وتسللت ابتسامة على شفتيه. لقد زال الخطر. هو آمن… مؤقتًا. ومع ذلك، لم يستطع أن يمنع نفسه من الشعور بالشفقة الشديدة على الرسّام التي كشف له هذا الاعتراف الغريب .

قال هالوورد: "إنه أمر مذهل، يا دوريان، أنك رأيت  هذا في اللوحة. هل رأيتها حقًا؟"

ردّ: "رأيت فيها شيئًا... شيئًا بدا لي غريبًا جدًا."

"حسنًا، ألا تمانع أن أنظر إليها الآن؟"

هزّ دوريان رأسه وقال: "لا تطلب مني ذلك، يا بازل. لا يمكنني بأي حال أن أدعك تقف أمام تلك اللوحة."

"لكن ستسمح لي بذلك يومًا ما، أليس كذلك؟"

"أبدًا."

قال بازل بأسى: "ربما أنت على حق. والآن وداعًا يا دوريان. كنت الشخص الوحيد الذي أثّر حقًا في فني. كل شيء جيّد أنجزته مدينة به لك. آه، أنت لا تعلم كم كان صعبًا عليّ أن أخبرك بكل هذا."

فردّ دوريان بابتسامة هادئة:  

"عزيزي بازل ، ما الذي أخبرتني به؟ فقط أنك تقدرنب أكثر مما ينبغي… وهذا لا يُعد حتى مجاملة. "

قال بازل :  

"لم تكن مجرد مجاملة . بل كان اعترافًا. والآن بعدما قلته، أشعر أن شيئًا ما قد غادرني… ربما لا ينبغي للمرء أن يُعبّر عن مشاعره العميقة بالكلمات."

ردّ دوريان ببرود:  

"كان اعترافًا مخيبًا للآمال."

سأل :  "ماذا كنت تتوقع يا دوريان؟ هل رأيت شيئًا آخر في اللوحة؟ لم يكن هناك شيء آخر لترى، أليس كذلك؟"

قال دوريان:  

"لا، لم يكن هناك شيء آخر. ولماذا تسأل؟ لا يجب أن تتحدث عن القدوة والمثل  ، هذا سخيف. نحن أصدقاء يا بازل، ويجب أن نظل كذلك دائمًا."

قال الرسّام بحزن:  

"لكنك تملك رفاق اخرين ..... لديك هنري ."

ضحك الفتى وقال:  

"آه، هنري ! يقضي أيامه في قول ما لا يُصدّق، وأمسياته في فعل ما هو غير محتمل. تمامًا نوع الحياة التي أحب أن أحياها. لكن، مع ذلك، لا أعتقد أنني سأذهب إلى هنري إذا كنت في مأزق… سأتي إليك يا بازل ."

 سأل بازل برجاء:  

"هل ستجلس لي مجددًا؟"

أجاب دوريان بحزم:  

"مستحيل!"

قال الرسّام بأسى :  

"أنت تدمر حياتي الفنية برفضك، يا دوريان. لا أحد يعثر على شيئين ملهمين. القليلون يعثرون على واحد فقط."

قال دوريان:  

"لا أستطيع أن أشرح لك يا بازل ، لكن يجب ألا أجلس لك مرة أخرى. في الصورة شيء قاتل… إنها تملك حياة خاصة بها. سأزورك لنحتسي الشاي، وسيكون ذلك ممتعًا بما يكفي."

ردّت  مستسلماً :  "ممتع بالنسبة لك، للأسف."  

قال وهو يهمّ بالمغادرة:  "وداعًا الآن يا دوريان. حزين للغاية لأنك لن تتركني أن أرى اللوحة مرة أخرى، لكن لا يمكن فعل شيء. أنا أفهم تمامًا ما تشعر به تجاهها."

وحين غادر الغرفة، ابتسم دوريان غراي لنفسه.  

يا له.من مسكين ،  بازل ! كم يعرف القليل عن السبب الحقيقي! والغريب أنه بدلًا من أن يُجبر على كشف سره، استطاع دون قصد تقريبًا أن ينتزع سرًا من الرسام ! كم كشف له ذلك الاعتراف العجيب! ، انه يعتبره قدوة ، وإلهاماً لفنه...…

 مديحه المبالغ فيه، تحفظاته الغريبة — لقد فهمها كلها الآن، وشعر بالأسى. بدا له أن في صداقةٍ مشبعة بهذا الولاء والتقدير شيئًا مأساويًا.

تنهد ولمس الجرس. يجب إخفاء الصورة بأي ثمن. لا يمكنه أن يخاطر بكشفها مرة أخرى. كان جنونًا منه أن يسمح لها بالبقاء، ولو لساعة واحدة، في غرفة يمكن لأي من أصدقائه دخولها.

تعليقات

المشاركات الشائعة