8
تجاوز الوقت الظهر بكثير حين استيقظ دوريان . كان خادمه قد تسلل عدة مرات على رؤوس أصابعه إلى الغرفة ليرى إن كان قد بدأ يتحرك، وتساءل عما جعل سيده الشاب ينام طويلًا.
وأخيرًا، دوّى دوريان الجرس، ودخل فيكتور بهدوء يحمل كوبًا من الشاي وكومة من الرسائل على صينية صغيرة من الخزف العتيق، واخد يسحب الستائر الحريرية الزيتونية ذات البطانة الزرقاء المتلألئة المعلقة أمام النوافذ الطويلة.
قال مبتسمًا: "لقد نام السيد جيدًا هذا الصباح".
سأل دوريان غراي وهو لا يزال تحت تأثير النوم: "كم الساعة، فيكتور؟"
"الساعة الواحدة وربع يا سيدي."
يا لها من ساعة متأخرة! جلس منتصبًا، وبعد أن ارتشف قليلًا من الشاي، بدأ يتصفح رسائله. كانت إحداها من اللورد هنري، وقد تم إيصالها يدويًا في صباح ذلك اليوم. تردد للحظة، ثم وضعها جانبًا. أما البقية فقد فتحها بلا مبالاة. كانت تحوي المجموعة المعتادة من البطاقات، والدعوات للعشاء، وتذاكر للمعارض الخاصة، وبرامج حفلات خيرية، وما إلى ذلك من الأشياء التي تُغدَق على الشباب المرموقين كل صباح خلال الموسم الاجتماعي.
كان هناك أيضًا فاتورة ثقيلة نوعًا ما، تخص مجموعة أدوات تجميل من طراز لويس الخامس عشر مصنوعة من الفضة المنقوشة، ولم يكن قد تجرأ على إرسالها إلى أوصيائه بعد، فهم أشخاصًا تقليديين للغاية ولن يتقبلو فكرة ان دوريان يهتم بهذه الاشياء ....؛ كما وُجدت عدة رسائل مكتوبة بلغة مهذبة للغاية من مقرضي المال ، يعرضون تقديم أي مبلغ من المال في أي لحظة وبأقل معدلات فائدة ممكنة.
بعد حوالي عشر دقائق، نهض، وارتدى رداءً فاخرًا من الكشمير المطرز بالحرير، ثم دخل الحمام المرصوف بالعقيق.
أنعشته المياه الباردة بعد نومه الطويل. بدا وكأنه نسي كل ما مرّ به. راودته مرّتين أو ثلاث شعورٌ غامض بأنه شارك في مأساة غريبة، لكن الأمر كان يحمل طابع حلم غير واقعي. وما إن ارتدى ملابسه، حتى دخل إلى المكتبة وجلس ليتناول إفطارًا فرنسيًا خفيفًا، أُعدّ له مسبقًا على طاولةٍ مستديرة صغيرة بجوار النافذة المفتوحة.
كان اليوم رائعًا. الهواء الدافئ كان مشبعًا بالعطور. دخلت نحلة صغيرة من النافذة، وبدأت تدور حول وعاء ازرق مملوء بورود صفراء كبريتية.
شعر دوريان بسعادة تامة. وفجأة وقع نظره على الستار الذي كان قد وضعه أمام اللوحة، فارتعش.
سأله خادمه وهو يضع صينية على الطاولة: "هل الجو بارد على السيد؟ هل أغلق النافذة؟"
هزّ دوريان رأسه وقال بصوت خافت: "لا ، لا أشعر بالبرد."
هل كل ذلك حدث فعلًا؟ هل تغيرت اللوحة حقًا؟ أم أن الأمر مجرد خيال جعله يرى نظرة شرّ حيث كانت هناك ابتسامة فرح؟ لا يمكن أن يتغير قماش مصبوغ! الفكرة سخيفة. يمكن أن يحكي الأمر لمارينا يومًا ما، وستضحك عليه .
ومع ذلك، كان يخشى مغادرة خادمه للغرفة. كان يعلم أنه حين يبقى وحيدًا، سيضطر لفحص اللوحة. كان يخاف من اليقين. وعندما قُدّم له القهوة... وهمّ الخادم بالمغادرة، شعر دوريان برغبة جامحة في أن يطلب منه البقاء.
و عندما كاد الباب يغلق خلفه، ناداه ليعود. وقف الخادم ينتظر تعليماته. نظر إليه دوريان لحظة ثم قال بتنهيدة: "أنا لا أستقبل أحدًا اليوم يا فيكتور." فانحنى الرجل وغادر.
ثم نهض دوريان من الطاولة، وألقى بنفسه على أريكة مريحة فاخرة تواجه اللوحة . كان الستار الذي عليها قديمًا، مصنوعًا من الجلد الإسباني المذهب، ومزينًا بنقوش جميلة .
هل ينبغي له أن يُزيحه؟ لماذا لا يتركه مكانه؟ ما فائدة المعرفة؟ إن كان الأمر حقيقيًا، فهو فظيع. وإن لم يكن كذلك، فلماذا يقلق؟ لكن ماذا لو، بفعل القدر أو مصادفة أكثر خبثًا، رأى شخصٌ آخر خلفه اللوحة ، واكتشف التغيير الرهيب؟ ماذا لو جاءت مارينا هالوورد وطلبت أن ترى لوحتها ؟ لا شك أنه ستفعل. لا، لا بد من فحص الأمر، وعلى الفور. فكل شيء أفضل من هذا الشك المروّع.
نهض، وأغلق البابين بالمفتاح. على الأقل سيكون وحده حين يواجه قناع خزيه. ثم أزاح الستار، وواجه نفسه وجهاً لوجه. كان الأمر حقيقيًا تمامًا. لقد تغيّرت اللوحة حقا.
وجد نفسه ينظر إلى اللوحة بدهشة كبيرة. وكأنت دهشته علمية في البداية.
حدوث مثل هذا التغيير بدا له مستحيلًا. ومع ذلك، كان حقيقة. هل هناك نوع من الألفة الغامضة بين الذرات التي تشكلت اللوحة، وبين الروح التي بداخله؟ هل يمكن أن ما تفكر فيه روحه، تدركه تلك الذرات؟ — او ان امنيته في المرسم تحققت؟ أم أن... هناك سبب آخر، أكثر رعبًا؟
ارتجف دوريان بمجرد التفكير في ذلك وانتابه بالخوف ؛ عاد إلى الأريكة، واستلقى عليها وهو يحدّق في الصورة برعب يثير الغثيان.
ومع ذلك، شعر أن الصورة قد فعلت شيئًا له — فقد جعلته يُدرك مدى ظلمه، وقسوته على سيبيل فاين. لم يكن قد فات الأوان لتكفير ذلك. ما زال بإمكانها أن تكون زوجته. حبه غير الحقيقي والأناني يمكن أن يخضع لتأثير أسمى، ويتحوّل إلى شغف أنبل.
والصورة التي رسمتها له مارينا هالوورد يمكن أن تكون مرشده في الحياة، علامة دائمة على الخراب الذي يُنزله الإنسان بروحه.
دقّت الساعة الثالثة، ثم الرابعة، ودقّ جرس النصف ساعة، لكن دوريان غراي لم يتحرّك
لم يكن يعرف ما ينبغي عليه فعله، أو ما يجب أن يفكر فيه. وأخيرًا، ذهب إلى الطاولة، وكتب رسالة مشتعلة إلى الفتاة التي أحبها، يطلب فيها مغفرتها، ويتهم نفسه بالجنون. ملأ الصفحات بكلمات جامحة من الأسى، وكلمات أكثر جنونًا من الألم.
وفجأة، طرق أحدهم الباب، وسمع صوت اللورد هنري خارجًا يقول: "يا عزيزي، يجب أن أراك. دعني أدخل حالًا. لا أحتمل فكرة أنك تحبس نفسك بهذه الطريقة."
لكنه لم يجب في البداية، بل بقي صامتًا تمامًا...
ظل صامتًا. استمر الطرق على الباب، وازداد صوته حدة. نعم، كان من الأفضل أن يدع اللورد هنري يدخل، ويشرح له الحياة الجديدة التي يعتزم أن يعيشها، حتى لو اضطر إلى الجدال معه، أو إلى الفراق إن كان لا بد منه.
نهض بسرعة، وغطى اللوحة بالقماش ، ثم فتح الباب.
قال اللورد هنري وهو يدخل: "أنا آسف جدًا على كل هذا يا دوريان، لكن لا يجب أن تفكر فيه أكثر من اللازم."
"هل تعني سيبيل فاين؟" سأل الفتى.
"نعم، بالطبع." أجاب اللورد هنري وهو يهبط إلى كرسي وينزع قفازيه الصفراء ببطء. "إنه أمر مروّع من وجهة نظر معينة، لكنه ليس خطأك. قل لي، هل ذهبت إليها خلف الكواليس بعد انتهاء المسرحية؟"
"نعم."
"كنت واثقًا أنك فعلت. هل افتعلت مشهدًا معها؟"
"كنت فظًا، هنري... فظًا تمامًا. لكن كل شيء أصبح بخير الآن. أنا لست نادمًا على ما حدث، لقد علّمني أن أفهم نفسي بشكل أفضل."
قال اللورد هنري: "آه، دوريان، أنا سعيد لأنك تنظر للأمر بهذه الطريقة! كنت أخشى أن أجدك غارقًا في الندم، وتمزق شعرك الجميل."
قال دوريان وهو يهز رأسه ويبتسم: "لقد تجاوزت تلك المرحلة. أنا سعيد تمامًا الآن. لقد عرفت اهمية الضمير، . إنه ليس ما قلت لي إنه هو. إنه اجمل شيء فينا. لا تسخر منه مجددا ، هنري ، على الأقل أمامي. أريد أن أكون إنسانًا صالحًا. لا أحتمل فكرة أن تكون روحي مشوّهة."
رد اللورد هنري ساخرًا بلطف: "يا لها من قاعدة أخلاقية فنية ساحرة يا دوريان! أهنئك عليها. ولكن كيف ستبدأ بذلك؟"
أجاب دوريان بثقة: "سأتزوج سيبيل فاين."
صاح اللورد هنري وهو يقف مندهشًا: "الزواج من سيبيل فاين! لكن، يا عزيزي دوريان..."
قاطعه دوريان: "نعم، هنري ، أعلم ما الذي ستقوله. شيء مريع عن الزواج. لا تقله. لا تعد لتقول لي مثل هذه الأمور مرة أخرى. "
"زوجتك! يا دوريان!.. ألم تصلك رسالتي؟ لقد كتبتها صباح اليوم، وأرسلتها إليك مع خادمي."
"رسالتك؟ آه، نعم، أتذكر. لم أقرأها بعد، همري . خفت أن يكون فيها ما لا يعجبني. أنت تمزّق الحياة إلى أشلاء بأقوالك اللاذعة."
"إذًا، أنت لا تعلم شيئًا؟"
"ماذا تعني؟"
سار اللورد هنري عبر الغرفة، وجلس بجوار دوريان غراي، وأمسك بيديه بقوة. قال: "دوريان، لا تخف... رسالتي كانت لتخبرك أن سيبيل فاين قد ماتت."
اندلع من شفتي الفتى صرخة ألم، وقفز من مكانه، منتزعًا يديه من قبضة اللورد هنري: "ماتت! هذا غير صحيح! إنها كذبة شنيعة! كيف تجرؤ على قول ذلك؟"
قال اللورد هنري بجدية: "بل هو صحيح تمامًا يا دوريان. الخبر منشور في صحف هذا الصباح. كتبت إليك لأطلب منك ألا تقابل أحدًا قبل أن آتي. سيكون هناك تحقيق رسمي بالطبع، ويجب ألا تتورط فيه. "
تابع هنري : " أعتقد أنهم لا يعرفون اسمك في المسرح، أليس كذلك؟ إن لم يفعلوا، فالأمر بخير. هل رآك أحد وأنت تدخل إلى غرفتها؟ فذلك أمر مهم جدًا."
توقف دوريان عن الكلام لبضع لحظات. كان مذهولًا من الفزع. وأخيرًا، بدأ يتمتم...
قال بصوت مختنق: "هنري ، هل قلت تحقيق رسمي؟ ماذا تعني بذلك؟ هل سيبيل...؟ آه يا هنري ، لا أستطيع احتمال الأمر ! لكن كن سريعًا، أخبرني بكل شيء دفعة واحدة."
ردّ اللورد هنري: "لا شك لدي أنها لم تكن حادثة، يا دوريان، رغم أنه لا بد من تقديمها بهذه الصورة للناس. يبدو أنه أثناء خروجها من المسرح مع والدتها، حوالي الثانية عشرة والنصف، قالت إنها نسيت شيئًا في الأعلى. انتظرتها لبعض الوقت، لكنها لم تعد. وفي النهاية وجدوها ممددة على أرضية غرفة تبديل الملابس، ميتة. يبدو أنها تناولت شيئًا ، مادة تُستخدم في المسارح. لا أعلم ما هي بالضبط، لكن على الأرجح كانت إما حمض البروسيك أو الرصاص الأبيض. أظنها كانت حمض البروسيك، إذ يقال إنها ماتت في الحال."
صرخ الفتى: "هنري ، هنري ، هذا فظيع!"
قال اللورد هنري بجديّة: "نعم، إنه أمر مأساوي جدًا، بالطبع، لكن يجب ألا تتورط فيه. لا تسمح لهذا الأمر أن ينهك أعصابك يا دوريان. يجب أن تتناول العشاء معي هذا المساء، ثم نمرّ على الأوبرا. والجميع سيكون هناك. يمكنك أن تأتي إلى المقصورة الخاصة بأختي، معها بعض النساء الأنيقات."
قال دوريان غراي لنفسه، وكأنما يحدث نفسه: "إذن لقد قتلت سيبيل فاين — قتلتها كما لو أنني قطعت حلقها الصغير بسكين. ومع ذلك، لم تَزِد الورود جمالًا إلا جمالًا، والطيور لا تزال تغني بسعادة في حديقتي. وسأتناول العشاء معك الليلة، ثم أذهب إلى الأوبرا، وربما أتعشى في مكان ما بعد ذلك....... "
تابع : " يا لها من حياة درامية ! ، لو كنت قرأت كل هذا في كتاب يا هنري ، أظنني كنت سأبكي عليه. لكن الآن، وقد حدث فعلاً، وحدث لي، يبدو لي الأمر أروع من أن يُبكى عليه...."
قال دوريان: " يا هنري ، كم أحببتها يومًا! يبدو لي الأمر وكأنه حدث منذ سنوات، رغم أنه كان بالأمس فقط. كانت كل شيء بالنسبة لي. ثم جاءت تلك الليلة المشؤومة — أكانت فعلًا ليلة البارحة؟ — حين أدّت دورها بشكل سيئ، وكاد قلبي يتحطم. شرحت لي كل شيء. كان الأمر مؤلمًا للغاية. ومع ذلك لم أُحرّك ساكنًا. ظننتها سطحية. وفجأة حدث شيء جعلني أشعر بالخوف. لا أستطيع أن أصفه لك، لكنه كان فظيعًا. قلت لنفسي إني سأعود إليها. شعرت أنني أخطأت. والآن هي ميتة. يا إلهي! يا إلهي! هنري، ماذا أفعل؟ أنت لا تعرف في أي خطر أنا، ولا شيء يبقيني مستقيمًا. هي كانت ستفعل ذلك لأجلي. لم يكن من حقها أن تقتل نفسها. كان ذلك أنانيًا منها."
أجاب اللورد هنري وهو يخرج سيجارة من علبته ويشعلها بعلبة كبريت مذهّبة: "يا عزيزي دوريان، لم تولد امراءة تجعل الرجل مستقيما بعد .
انت فقدت حبك لها يا دوريان ، لو كنت تزوجت هذه الفتاة، لكنت تعيسًا. بالطبع كنت ستعاملها بلطف. فالمرء دائمًا يستطيع أن يكون لطيفًا مع من لا يهتم بهم. لكنها كانت ستكتشف سريعًا أنك غير مبالٍ بها. وعندما تكتشف المرأة ذلك عن زوجها، فإنها إما تصبح باهتة ، أو ان تقع في حب شخص اخر . لن أعلق على اشجع على ذلك ابدا ، ولن أسمح به بالطبع، لكنني أؤكد لك أنه في كل الأحوال، كان سيكون فشلًا تامًا."
قال الفتى، وهو يتمتم شاحب الوجه، يمشي جيئةً وذهابًا في الغرفة: "أعتقد أنه كان كذلك... لكنني ظننت أنه واجبي. لكن إنه ليس خطئي... ... هذه المأساة المروعة منعتني من فعل ما هو صواب. ، كنت انوي حقا الزواج والاعتذار من سيبيل ."
صاح دوريان وهو يجلس بجانبه: "هنري، لماذا لا أستطيع أن أشعر بهذه المأساة كما أريد؟ لا أظن أنني بلا قلب. وأنت؟"
أجاب اللورد هنري بابتسامته الحلوة الحزينة: "لقد ارتكبت الكثير من الحماقات في الأسبوعين الماضيين، بحيث لا يحق لك أن تصف نفسك بذلك يا دوريان."
تقطّب وجه دوريان وقال: "لا تعجبني هذه الإجابة يا هنري. لكنني سعيد لأنك لا تظنني بلا قلب. فأنا لست كذلك. أعلم أنني لست كذلك. ومع ذلك، يجب أن أعترف أن ما حدث لا يؤثر فيّ كما ينبغي. يبدو لي وكأنه نهاية رائعة لمسرحية رائعة. مسرحية عن الجمال الرهيب لمأساة ، مأساة شاركت فيها بدورٍ كبير، دون أن تمسّني بجراحها."
رد اللورد هنري، مستمتعًا بلعبه على وتر أنانية الفتى غير الواعية: ". أعتقد أن التفسير الحقيقي لما تشهر به الان هو الآتي : انت لم تؤدي سيبيل ابدا يا دوريان ، صحيح انك كنت قاس معها قليلا ، لكنها هي من اختارت الموت ، كل ذلك ليس خطائك ولن الامر كان دراميا ولانك بطبيعتك تحب الفن شعرت باللذة لانك عشت تجربة مسرحية بدل ان تشاهدها فحسب... ، ما الذي حدث فعليًا؟ شخص ما قتل نفسه حبًا بك. كنتُ أتمنى لو عشت تجربة كهذه من قبل. "
تنهد دوريان وقال: "يجب أن أزرع حشائش النعمان في حديقتي."
ردّ رفيقه: "لا حاجة لذلك. الحياة تحمل دائمًا شقائق النعمان في يديها."
شقائق النعمان رمز للنسيان والتنويم في الأساطير الإغريقية
تابع هنري : " أنت أكثر حظًا مني يا دوريان، أؤكد لك أن ولا واحدة من النساء اللواتي عرفتُهن كانت ستفعل لأجلي ما فعلته سيبيل فاين من أجلك. النساء العاديات دائمًا يجدن سُبلًا سخيفة للعزاء على حبهم ."
سأله دوريان بفتور: "اتعتقد ذلك ؟"
"بطبع يا دوريان، كم كانت سيبيل فاين مختلفة عن كل النساء اللاتي نلتقيهن! هناك شيء جميل تمامًا — بالنسبة لي — في موتها. أنا سعيد لأني أعيش في قرن تحدث فيه مثل هذه العجائب. إنها تجعلنا نصدق الأشياء التي نلهو بها جميعًا، مثل الرومانسية، والشغف، والحب."
قال دوريان: " لكني كنتُ قاسيًا معها بشكل فظيع."
ردّ هنري: "أخشى أن النساء يُعجبن بالقسوة، القسوة الصريحة، أكثر من أي شيء آخر... لديهم غرائز بدائية مذهلة. لقد منحناهنّ الحرية، لكنهن ما زلنَ عبيدات يبحثن عن أسيادهن، لذلك هن مدمنات على زواج "
تابع : " على أي حال. أنا متأكد أنك كنت رائعًا. لم أرَك غاضبًا بحقّ أبدًا، لكنني أستطيع أن أتخيّل كم بدا مظهرك ممتعًا آنذاك. وبالمناسبة، قلتَ لي شيئًا أول أمس بدا لي وقتها كأنه خيال محض، لكنني الآن أراه حقيقة كاملة، ويحمل مفتاح كل شيء."
سأل دوريان: "ما الذي قلته، هنري؟"
أجاب: "قلتَ لي إن سيبيل فاين كانت تمثّل لك كل بطلات القصص الغرامية — كانت ديدمونا ليلة، وأوفيليا في ليلة أخرى؛ وإن ماتت كجولييت، فإنها عادت للحياة كاموجين."
تمتم الفتى وهو يدفن وجهه في يديه: "لن تعود للحياة أبدًا الآن."
قال اللورد هنري: "لا، لن تعود للحياة. الفتاة لم تعش أبدًا، ولذلك فهي لم تمت حقًا. بالنسبة لك على الأقل، كانت سبيل د دائمًا حلمًا، شبحًا يمرّ عبر مسرحيات شكسبير . احزن على أوفيليا إن شئت. ضع رمادًا على رأسك لأن كورديليا خُنقت. وصرخ في وجه السماء لأن ابنة برابانتيو ماتت. لكن لا تهدر دموعك على سيبيل فاين — فقد كان موتها اعطم منهن جميعًا."
ساد صمت. وظَلمَ المساء الغرفة رويدًا. تسللت الظلال بلا صوت.
وبعد لحظات، رفع دوريان غراي رأسه وقال: "لقد فسّرتني لنفسي، يا هنري..."
همس دوريان غراي، وقد تنهد كأنه تنفّس الصعداء:
"لقد شعرت بكل ما قلته، لكني لم افهمن. كم تعرفني جيدًا يا هنري! لكننا لن نتحدث مجددًا عمّا حدث. لقد كانت تجربة مذهلة... هذا كل شيء. أتساءل إن كانت الحياة ما زالت تخبّئ لي شيئًا بنفس الروعة."
أجاب اللورد هنري:
"الحياة تخبئ لك كل شيء يا دوريان. لا شيء، وأكرر لا شيء، يمكن أن يُعجزك مع مظهرك المذهل."
قال دوريان مترددًا:
"ولكن... ماذا لو أصبحتُ شاحبًا، وعجوزًا، ومُتجعدًا؟ ماذا سيحدث حينها؟"
ردّ اللورد هنري وهو ينهض ليغادر:
"حينها يا عزيزي دوريان، ستضطر لأن تُقاتل من أجل انتصاراتك. أما الآن فهي تأتي إليك. والآن، من الأفضل أن ترتدي ملابسك وتتوجّه إلى النادي. لقد تأخرنا فعلًا."
قال دوريان:
"أعتقد أنني سأنضم إليك في الأوبرا يا هنري . أشعر بالتعب، ولا رغبة لي في الطعام. ما رقم مقصورة أختك؟"
ردّ هنري:
"أظنها رقم سبعة وعشرين. إنها في الطبقة الكبرى. سترى اسمها على الباب. لكنني مستاء لأنك لن تتناول العشاء معنا."
قال دوريان بفتور:
"لا أشعر أنني قادر. لكنني ممتن للغاية لما قلته لي. أنت بالتأكيد أفضل أصدقائي. لم يفهمني أحد قط كما فعلت."
أجابه اللورد هنري وهو يصافحه:
"نحن فقط في بداية صداقتنا يا دوريان. إلى اللقاء. آمل أن أراك قبل التاسعة والنصف. تذكّر، باتي ستغني الليلة."
وبعد أن أغلق الباب خلفه، ضغط دوريان الجرس، وفي غضون دقائق، دخل فيكتور حاملاً المصابيح، وأسدل الستائر. كان دوريان ينتظر مغادرته بلهفة، فالرجل بدا وكأنه يستغرق وقتًا لا نهاية له في كل شيء.
وما إن غادر، اندفع دوريان نحو اللوحة..و سحب القماش ، لكن لا — لم يكن هناك أي تغيّر إضافي في اللوحة.
كانت اللوحة قد استقبلت نبأ وفاة سيبيل فاين قبل أن يعرفه هو نفسه. كانت واعية بالأحداث لحظة وقوعها. القسوة الشريرة التي شوّهت خطوط الفم الرقيقة لا شك أنها ظهرت في اللحظة عينها التي تناولت فيها الفتاة السم، أياً يكن نوعه. تساءل دوريان كيف تعمل هذه اللوحة ، وتمنّى في أعماقه أن يشهد ذات يوم التغيّر وهو يحدث أمام عينيه — وانتفض وهو يأمل ذلك.
سيبيل المسكينة! يا لها من قصة رومانسية كان كلّ هذا! كم جسّدت الموت على المسرح مرّات عديدة. ثم جاءه الموت فعلاً، ولمسها، وأخذها معه. كيف مثّلت ذلك المشهد الأخير الرهيب؟ هل شتمته وهي تحتضر؟ لا — لقد ماتت حبًا به، والحب سيظل دومًا طقسًا جميلا له من الآن فصاعدًا. لقد كفّرت عن كل شيء بتضحية حياتها. لن يفكّر بعد الآن في ما جعلته يمرّ به تلك الليلة المشؤومة في المسرح. عندما يتذكّرها، سيستحضرها كرمز مأساوي رائع أُرسل ليُظهر حقيقة الحب العليا. .
اما اللوحة فسيكون هنا
ك متعة حقيقية في مراقبتها. سيكون بإمكانه تتبّع عقله في أعماقه السرّية. هذه اللوحة ستكون له أكثر المرايا سحرًا. كما كشفت له جسده، ستكشف له روحه. ...
أعاد الستار إلى مكانه أمام اللوحة، مبتسمًا وهو يفعل ذلك، ثم دخل غرفة نومه، حيث كان خادمه بانتظاره بالفعل.
وبعد ساعة، كان دوريان في دار الأوبرا، بينما اللورد هنري يتمايل على كرسيه بانتظاره ...
تعليقات
إرسال تعليق