4

 في ظهيرة أحد الأيام، بعد شهر، كان دوريان غراي جالسًا باسترخاء على كرسي مريح داخل مكتبة صغيرة في بيت اللورد هنري بمنطقة مايفير. 

كانت الغرفة أنيقة بطريقتها، بجدرانها الخشبية المصقولة، وسقفها المزخرف بلون القشدة، وسجادها الأحمر الذي تنتشر فوقه سجاجيد فارسية ناعمة.  

على طاولة صغيرة، وُضع تمثال فني، وبجانبه كتاب نادر مزخرف بنقوش ذهبية. وعلى رف المدفأة، تزيّنت بعض الجرار الصينية الكبيرة وزهور التوليب الملونة، بينما انسكب ضوء نهار صيفي دافئ عبر نوافذ صغيرة.

كان اللورد هنري لم يأتِ بعد. فهو دائمًا يتأخر عمدًا، لأنه يرى أن الالتزام بالمواعيد يسرق من الوقت.  

أما دوريان، فكان يبدو متضايقًا وهو يقلب كتابًا مصورًا وجدَه في المكتبة. حتى صوت الساعة أصبح يزعجه. وفكر أكثر من مرة أن يغادر.

وأخيرًا سمع وقع خطوات خارج الغرفة، وانفتح الباب.  

قال بتذمر : "كم تأخرت يا هنري !"  

لكن صوتًا حادًا أجابه: "أخشى أنه ليس هنري، سيد غراي."  

استدار بسرعة ونهض واقفًا.  

"أرجو المعذرة... لقد ظننتُ..."

"ظننت أنه زوجي؟ لا، إنها زوجته فقط."  

ابتسمت وقالت: "دعني أعرّفك بنفسي. أعرفك من صورك — أعتقد أن زوجي يحتفظ بحوالي سبع عشرة صورة لك."

ابتسم وقال: "سبع عشرة؟ يا ليدي هنري؟"

قالت ضاحكة: "أو ثماني عشرة... رأيتك معه مؤخرًا في الأوبرا."  

ضحكت بخجل وهي تنظر إليه بعينيها الزرقاوين الباهتتين. كانت امرأة غريبة المظهر، تبدو ملابسها وكأنها اختِرت بسرعة وارتدتها وسط عاصفة !  

اسمها فيكتوريا، كانت تحاول أن تبدو مميزة، لكنها بدت فوضوية فقط. 

قال دوريان بلطف: "كان ذلك في لوهينغرين  أليس كذلك؟"

قالت: "نعم، في معرص لوهينغرين الرائع. أحب موسيقى فاغنر أكثر من أي موسيقى أخرى — إنها صاخبة لدرجة أننا نستطيع التحدث دون أن يسمعنا أحد. أليس ذلك مريحًا، سيد غراي؟"

ضحكت مجددًا بتوتر، وأخذت تعبث بسكين ورق صغير على الطاولة.

ابتسم دوريان وقال:  

"لا أعتقد ذلك، يا ليدي هنري. لا أحب التحدث أثناء الموسيقى — خصوصًا الموسيقى الجميلة. أما إذا كانت مزعجة، فربما يستحق الأمر بعض الكلام!"

ضحكت وقالت:  

"هذا بالضبط ما يقوله هنري ، أليس كذلك؟ دائمًا أسمع أفكاره من أصدقائه — فهي الطريقة الوحيدة لأعرف ما يفكر به. "

قالت:  

"بالمناسبة، لم تأتِ إلى أي من حفلاتي، أليس كذلك يا سيد غراي؟ يجب أن تأتي. لا أُمانع في دعوة الأجانب — فهم يجعلون الغرفة تبدو جميلة جدًا. "

قالت بعد ان لمحت احدا عند الباب : " آه، ها هو هنري ! جئت لأبحث عنك، لأطلب منك شيئًا… نسيت ما هو… فوجدت السيد غراي هنا. الحديث معه كان ممتعًا "

قال اللورد هنري مبتسمًا وهو يرفع حاجبيه المعقوفين:  

"سعيد بلقائك، عزيزتي، فعلاً سعيد. آسف لتأخري، يا دوريان. ذهبت لأشتري قطعة قماش قديمة من شارع ووردور، واضطررت للمساومة لساعات. الناس اليوم يعرفون ثمن كل شيء، لكنهم لا يفهمون قيمة أي شيء."

قالت الليدي هنري فجأة، لتكسر الصمت :  

"أعتقد أن عليّ الذهاب الآن. وعدتُ الدوقة أن نخرج سويًا. إلى اللقاء، سيد غراي. إلى اللقاء، هاري. ستتناول العشاء بالخارج، أليس كذلك؟ وأنا كذلك. ربما أراك في حفلة الليدي ثورنبري."

ردّ اللورد هنري وهو يغلق الباب خلفها، بعد أن غادرت الغرفة بخفة تشبه طائرًا مبتلًا خرج لتوه من عاصفة، وخلّفت وراءها عطرًا ناعمًا يشبه رائحة زهرة الفرنجيبان

"ربما، عزيزتي."

ثم أشعل سيجارة، واستلقى على الأريكة، وقال بعد أن نفث بعض الدخان:

"لا تتزوج امرأة شقراء يا دوريان."

سأله دوريان:  

"لماذا، هنري ؟"

قال:  

"لأنهن عاطفيات جدًا."

أجاب دوريان:  

"لكنني أحب الناس العاطفيين."

فقال اللورد هنري بابتسامة ساخرة:  

"لا تتزوج أبدًا، يا دوريان. الرجال يتزوجون لأنهم يشعرون بالملل، والنساء لأنهن فضوليات — وفي النهاية، الكل يشعر بالخيبة."

قال دوريان:  

"لا أظن أنني سأتزوج، يا هنري. أنا واقع في الحب بشدة. هذه واحدة من أقوالك المأثورة، وأنا أطبّقها، كما أفعل مع كل ما تقوله."

سأله اللورد هنري بعد لحظة صمت:  

"ومن هذه التي أحببتها؟"

أجاب دوريان، وقد احمرّ وجهه:  

"ممثلة."

هزّ اللورد هنري كتفيه وقال:  

"هذا بداية تقليدية جدًا."

فرد دوريان:  

"لن تقول ذلك لو رأيتها، يا هنري ."

"وما اسمها؟"

"سيبيل فاين."

قال هنري ببرود:  

"لم أسمع بها من قبل."

قال دوريان بثقة:  

"لا أحد يعرفها الآن، لكن الجميع سيعرفونها يومًا ما. إنها عبقرية."

ابتسم اللورد هنري بسخرية:  

"يا عزيزي، لا توجد امرأة عبقرية. النساء زينة فحسب. لا يقلن شيئًا مهمًا، لكنهن يملكن أسلوبًا جذابًا في قول ما لا يُقال.  

المرأة تمثّل انتصار الجسد على العقل، كما يمثّل الرجل انتصار العقل على الجسد."

قال دوريان باستياء:  

"هنري ! كيف تقول ذلك؟"

ردّ هنري بهدوء:  

"عزيزي دوريان، هذا صحيح تمامًا. أنا الآن أُجري تحليلًا للنساء، ويبدو أن الأمر ليس معقدًا كما كنت أظن.  

وجدت في النهاية أن هناك نوعين فقط من النساء: العاديات، والملوّنات.  

النساء العاديات مفيدات جدًا — إن أردت أن يبدو عليك الاحترام والاتزان.  

أما النساء اللافتات، فهن ساحرات، لكن لديهن خطأ واحد: يستعملن مساحيق التجميل ليظهرن أصغر سنًا.  

أما المحادثة — فهناك فقط خمس نساء في لندن يُجيدن الحديث، واثنتان منهن لا يصلحن لدخول المجالس الراقية.

لكن... حدّثني عن عبقريتك تلك. منذ متى تعرفها؟"

قال دوريان بهدوء:  

"آه، هنري ، آراؤك تُخيفني."

قال هنري:  

"دعك من هذا... كم مضى على معرفتك بها؟"

رد دوريان:  

"حوالي ثلاثة أسابيع."

"وأين التقيتَ بها؟"

قال دوريان:  

"سأخبرك يا هنري ، لكن لا تكن قاسيًا. كل هذا ما كان ليحدث لولا لقائي بك.  

أنت أشعلت في داخلي رغبة مجنونة في معرفة كل شيء عن الحياة.  

بعدما التقيتك، ظل شعور غريب يملأني لأيام.  

كنت أتجول في الحديقة، أو أسير في بيكاديللي، وأتأمل وجوه الناس من حولي، أتساءل في فضول: كيف يعيشون؟  

بعضهم شدّني، وبعضهم أخافني.  

كان في الجو شيء مسموم، لكن جميل... وكنت أبحث عن احساس، أي إحساس.

وفي مساء أحد الأيام، قرابة السابعة، قررت أن أخرج للبحث عن مغامرة.  

قلت في نفسي: هذه لندن الرمادية الضخمة، التي تضم آلاف البشر، والاشياء الفخمة — لا بد أن فيها شيئًا ينتظرني.  

مجرد التفكير في ذلك منحني متعة.  

تذكّرت كلماتك عن أن الجمال هو سر الحياة الحقيقي، كما قلت لي في لقائنا الأول.

لا أدري ماذا كنت أتوقّع، لكنني خرجت وسرت شرقًا، حتى تهت بين شوارع ضيقة قذرة وساحات سوداء خالية من العشب.  

وحين اقتربت الساعة من الثامنة والنصف، مررت أمام مسرح صغير مضاء بمشاعل الغاز، وتغطيه إعلانات ملونة مبهرجة.  

كان واقفًا على الباب رجل يهودي غريب المظهر، يرتدي صديريًا مبالغًا فيه، ويدخن سيجارًا ذا رائحة بشعة.  

شعره دهني ومجعّد، وتلمع ألماسة كبيرة في وسط قميصه المتّسخ. 

قال لي وهو يخلع قبعته بتصنّع:  

"مقصورة، يا سيدي؟"

كان فيه شيء أضحكني، يا هنري ، بدا لي كمخلوق غريب من قصة.  

ربما ستضحك منّي، لكنني فعلاً دخلت، ودفعت جنيهاً كاملاً لأجلس في مقصورة المسرح. "

تابع دوريان:  

"لا أعرف حتى الآن لماذا دخلت ذلك المسرح... لكن يا هنري ، لو لم أدخل، لكنتُ خسرتُ أعظم قصة حب في حياتي.  

أراك تضحك... هذا تصرّف فظيع منك!"

أجابه اللورد هنري بابتسامة خفيفة:  

"أنا لا أضحك عليك، دوريان.  

لكن لا تقل 'أعظم قصة حب في حياتي'، بل قُل 'أول قصة حب في حياتي'.  

أنت ستُحَب دائمًا، وستظل تقع في حب الحب نفسه.  

العشق الكبير عادة ما يكون من نصيب من لا يشغلهم شيء. هذا هو الدور الوحيد الذي تلعبه الطبقات الفارغة في المجتمع.  

لا تقلق، أمامك أشياء جميلة بانتظارك... هذه مجرد بداية."

قال دوريان بانفعال:  

"أتظنّني سطحيًا؟"

ردّ هنري بهدوء:  

"بالعكس، أراك عميقًا جدًا."

"وما الذي تعنيه؟"

قال هنري:  

"الناس الذين يحبون مرة واحدة فقط، هم في الحقيقة السطحيون.  

ما يسمّونه 'وفاء' و'إخلاص'، أنا أسميه إما كسل العادة، أو نقص الخيال.  

الوفاء في المشاعر يشبه الجمود في الفكر...   لكنني لا أريد أن أُقاطعك، أكمل قصتك."

قال دوريان متابعًا:  

"جلست في مقصورة صغيرة مروّعة، تُقابلني ستارة مسرح رخيصة التصميم.  

ألقيت نظرة على القاعة من خلف الستار — المكان كله كان مليئًا برسومات سخيفة لرموز الحب وأبواق الوفرة، أشبه ما تكون بكعكة زفاف متواضعة المستوى.  

المقاعد العلوية والسفلية كانت شبه ممتلئة، لكن الصفوف الأمامية كانت شبه خالية، ولم يكن هناك أحد تقريبًا في ما يُسمى 'المقاعد الفاخرة'.  

وكانت النساء يبعن البرتقال ومشروب الزنجبيل، مع استهلاك مفرط للمكسّرات في كل مكان."

قال هنري مازحًا:  

"كأنه من أيام ازدهار المسرح البريطاني، أليس كذلك؟"

ردّ دوريان:  

"ربما، لكن بشكل كئيب جدًا. بدأت أفكر: ماذا أفعل هنا؟  

ثم لمحت اسم المسرحية على الملصق.  

هل تعرف ما كانت يا هاري؟"

قال هنري باستهزاء:  

"دعني أخمّن... (الصبي الغبي، أو الأبكم البريء)؟ ."

ابتسم دوريان وقال:  

"بل  كانت *روميو وجولييت*!  

صدمتني الفكرة — كيف يقدمون شكسبير في مكان بهذه الرداءة؟ لكنني قررت أن أبقى على الأقل حتى نهاية الفصل الأول."

"كانت هناك فرقة موسيقية مزعجة، يقودها شاب يعزف على بيانو مكسور — كدت أغادر المكان بسببها.  

لكن أخيرًا، ارتفعت الستارة وبدأ العرض.  

روميو مثله رجل بدين وكبير في السن، حاجباه ملطخان باللون الأسود، صوته مجهد وجسمه كبرميل.  

أما مركوشيو، فقد لعب دوره ممثل فكاهي، أضاف نكاته الخاصة وكان يضحك مع الجمهور."

"الديكور نفسه بدا وكأنه من مسرح شعبي متنقل. كل شيء رخيص ومبتذل... حتى جاءت *جولييت*."

رواية صورة دوريان غراي الفصل الرابع

"يا هنري ، تخيّل فتاة في السابعة عشرة، بوجه ناعم مثل زهرة، رأس صغير كمنحوتة ، شعر بني غامق مفّر، وعينان بنفسجيتان كأنهما نبع شغف، وشفاه وردية كبتلات الزهر.  

كانت أجمل مخلوق رأيته في حياتي."

"تذكُر حين قلت لي إن الحزن لا يحركك، لكن الجمال وحده يقدر أن يملأ عينيك بالدموع؟  

صدقني، بالكاد كنت أراها من شدة تأثري... وصوتها؟ كان همسًا في البداية....

كانت نغمات صوتها الناعمة، تسقط على الأذن نغمةً نغمة. ثم بدأت تعلو قليلاً، وأصبحت تشبه صوت الناي أو مزمار بعيد.  

وفي مشهد الحديقة، كان لصوتها ذلك الارتجاف المليء بالنشوة، كما تسمعه قبيل الفجر حين تغني العندليب.  

وفي لحظات لاحقة، بدا صوتها مشحونًا بعاطفة شديدة، كأنها أنين كمانٍ مشتعل.

أنت تعرف كيف يمكن للصوت أن يهزّ المشاعر.  

صوتك أنت، وصوت سيبيل فاين... هما شيئان لن أنساهما ما حييت.  

حين أغمض عينيّ، أسمعهما — وكل واحد منهما يقول شيئًا مختلفًا.  

ولا أدري أيهما أتبع.  

ولِم لا أحبّها؟ يا هنري، أنا أحبّها...  

هي كل شيء في حياتي.  

ليلةً بعد أخرى، أذهب لأراها على المسرح.  

في ليلة تكون روزاليند، وفي الليلة التالية تكون إيموجين.  

رأيتها ليلة تموت في ظلمة قبر إيطالي، واخرى وهي تمتصّ السمّ من شفاه حبيبها.  

رأيتها تتجوّل في غابة أردن، متنكرةً في هيئة فتى جميل بقبعة أنيقة.  

لقد جنّت، وواجهت ملكًا مذنبًا، وأعطته نبتة الحزن ليرتديها، وأعشابًا مُرّة ليتذوقها.  

رأيتها بريئة، ثم تمزق الغيرة السوداء عنقها الرقيق كالغصن.  

رأيتها في كل عصر، وفي كل زيّ.  

النساء العاديات لا يُحرّكن الخيال.  

هنّ محصورات في زمنهنّ فقط.  

لا سحر يُغيّر ملامحهن.  

نعرف عقولهن كما نعرف قبعاتهن.  

هنّ دائمًا في المتناول، لا غموض فيهن.  

يخرجن في الصباح إلى الحديقة، ويتبادلن الأحاديث في حفلات الشاي بعد الظهر.  

لديهن نفس الابتسامة المصطنعة، والأسلوب العصري المكرّر.  

هنّ مكشوفات تمامًا.  

أما الممثلة؟ يا هنري، كم تختلف الممثلة!  

لماذا لم تخبرني أن الشيء الوحيد الذي يستحق الحب حقًا هو الممثلة؟"

أجابه هنري بهدوء:  

"لأنني أحببت الكثير منهن يا دوريان."

فقال دوريان ساخرًا:  

"أوه نعم… أولئك البشعات ذوات الشعر المصبوغ والوجوه الملطخة بالمكياج؟"

ردّ هنري:  

"لا تستخفّ بالشعر المصبوغ والوجوه المرسومة."

قال اللورد هنري:  

"في بعض الأحيان، يكون فيهن سحر غريب."

ردّ دوريان بأسف:  

"أتمنّى لو لم أُخبرك عن سيبيل فاين."

"لم يكن بإمكانك أن تُخفي الأمر، يا دوريان. طوال حياتك، ستخبرني بكل ما تفعله."

قال دوريان مبتسمًا:  

"نعم، أعتقد أنك محق. لا أستطيع أن أخفي عنك شيئًا. لك تأثير غريب عليّ، هنري. حتى لو ارتكبت جريمة، لأتيتُ إليك لأعترف بها. فأنت الوحيد الذي سيفهمني."

ابتسم هنري وقال:  

" أشكرك على مجاملتك دوريان . والآن... ناولني علبة أعواد الثقاب، ايها الفتى طيب.

 شكرًا لك.

 أخبرني الآن: ما طبيعة علاقتك الفعلية بسيبيل فاين؟"

قفز دوريان واقفًا وقد احمرّ وجهه واشتعلت عيناه:  

"هنري! سيبيل فاين شخصٌ مميز !"

قال هنري بصوت يحمل شيئًا من الحزن:  

"الأشياء المميزة وحدها تستحق أن تُلمس، يا دوريان.  

لكن لماذا تنزعج؟  

أظن أنها ستكون لك يومًا ما. فعندما يقع الإنسان في الحب، يبدأ بخداع نفسه، وينتهي بخداع الآخرين.  

وهذا ما يسمّيه الناس بالرومانسية.  

لكن على الأقل، أنت تعرفها جيدًا، أليس كذلك؟"

رد دوريان:  

"بالطبع أعرفها!  

في الليلة الأولى التي ذهبتُ فيها إلى المسرح، جاءني ذلك اليهودي العجوز المقرف إلى المقصورة بعد انتهاء العرض، وعرض أن يأخذني خلف الكواليس ليعرّفني على جولييت .  

كنت غاضبًا جدًا منه، وأخبرته أن جولييت ماتت منذ مئات السنين، وأن جثمانها يرقد في ضريح رخامي في فيرونا.  

أظن، من نظراته الفارغة والمذهولة، أنه ظنّني شربت الكثير من الشمبانيا... أو شيئًا من هذا القبيل. كان واضحا انه يقصد سيبيل "

ضحك هنري وقال:  

"لا أستغرب ذلك."

تابع دوريان:  

"ثم سألني إن كنت أكتب في الصحف. أخبرته أنني لا أقرؤها حتى."

"بدا منزعجًا جدًا من كلامي، ثم أسرّ لي بأن جميع النقّاد المسرحيين متآمرون عليه، وأن كلّ واحد منهم يمكن رشوته بسهولة ."

ضحك هنري وقال:  

"قد يكون على حق! لكن إن حكمنا من مظهرهم، فلا أظنّ أن رشوتهم قد يُكلّف الكثير."

ضحك دوريان أيضًا وقال:  

"على ما يبدو، هو يعتقد أنهم فوق استطاعته. في تلك اللحظة، كانت الأنوار تُطفأ في المسرح، فاضطررت للرحيل. عرض عليّ أن أجرّب بعض السيجار الذي يُوصي به بشدة، فرفضت.  

وفي الليلة التالية، عدتُ بالطبع إلى المكان نفسه.  

عندما رآني، انحنى باحترام مبالغ فيه، وقال لي إنني راعٍ كريم للفن.  

كان شخصًا بغيضًا، لكنه كان يملك شغفًا غريبًا بشكسبير. أخبرني ذات مرة، وبلهجة فخر، أن إفلاسه خمس مرات كان بسبب 'الشاعر' — هكذا كان يُصر على تسميته.  

وكان يتعامل مع ذلك كأنّه وسام شرف."

قال هنري مبتسمًا:  

"بل هو وسام حقيقي، يا عزيزي دوريان — وسام عظيم.  

فأغلب الناس يُفلسون لأنهم يستثمرون بشكل مفرط في نثر الحياة. أما أن تُدمّر نفسك من أجل الشعر، فذاك شرف!"

ثم سأل:  

"لكن، متى تحدّثتَ إليها لأول مرة؟ أعني الآنسة سيبيل فاين؟"

أجاب دوريان:  

"في الليلة الثالثة. كانت تؤدي دور روزاليند. لم أستطع أن أمنع نفسي من الذهاب خلف الكواليس. كنت قد ألقيتُ إليها ببعض الزهور، وظننت أنها نظرت إليّ — أو هكذا تخيّلت.  

ذلك اليهودي العجوز أصرّ على أن يصحبني خلف الستار، وكان شديد الإلحاح، فوافقت في النهاية.  

الغريب أنني لم أكن أرغب في لقائها... أليس هذا تصرّفًا عجيبًا؟"

قال هنري:  

"لا، لا أظنه كذلك."

"لكن لمَ يا هنري ؟"

"سأخبرك لاحقًا. الآن... حدّثني عن الفتاة نفسها."

أجاب دوريان بابتسامة دافئة:  

"سيبيل؟ آه، كانت خجولة جدًا، ولطيفة جدًا. فيها شيء من روح الطفولة.  

عندما أخبرتها برأيي في أدائها، فتحت عينيها بدهشة ساحرة، كأنها لا تصدّق ما تسمعه...كانت تبدو وكأنها لا تدرك تأثيرها أبدًا. 

أظن أننا كنا متوترين، كلانا.  

اليهودي العجوز كان واقفًا عند باب غرفة الكواليس المتربة، يبتسم ابتسامة عريضة، ويُلقي خطبًا مبالغًا فيها عنّا نحن الاثنين، بينما كنّا واقفين ننظر إلى بعضنا البعض كأننا طفلان.  

كان يُصرّ على مناداتي بـ 'يا سيدي النبيل'، واضطررت أن أشرح لسيبيل أنني لست كذلك.  

فقالت لي، ببساطة شديدة: 'لكن مظهرك يوحي بأنك أمير. سأدعوك "الأمير الساحر".'",

قال هنري ساخرًا:  

"والحق يُقال، آنسة سيبيل تجيد تقديم المجاملات."

ردّ دوريان بجدية:  

"أنت لا تفهمها، هنري. هي رأتني فقط كشخص من داخل المسرحية.  

هي لا تعرف شيئًا عن الحياة. تعيش مع والدتها — امرأة منهكة الملامح، باهتة، أدّت دور الليدي كابوليت في الليلة الأولى مرتدية ما يشبه روبًا بنفسجيًا، ويبدو من هيئتها أنها عرفت أيامًا أجمل."

قال هنري وهو يتفحّص خاتمه:  

"أعرف هذا النوع من النظرات... إنها تصيبني بالاكتئاب."

تابع دوريان:  

"أراد اليهودي أن يحكي لي قصة حياتها، لكنني قلت له إن ذلك لا يعنيني."

أكمل دوريان:  

"سيبيل هي كل ما يهمّني. ما شأنني بأصلها أو خلفيتها؟  

من رأسها الصغير حتى قدميها الصغيرتين، هي كائن سماوي كامل.  

كل ليلة أذهب لأراها على المسرح، وكل ليلة تبدو أروع من التي قبلها."

ردّ هنري مازحًا:  

"وهذا يفسّر، على ما أظن، لماذا توقفت عن تناول العشاء معي مؤخرًا. كنتُ متأكدًا من أن هناك قصة حب غريبة تدور في الخلفية — وها هي، لكن ليس كما توقعت."

ضحك دوريان وقال بدهشة:  

"يا عزيزي هاري، نحن نتناول الغداء أو العشاء معًا كل يوم تقريبًا، وذهبت معك إلى الأوبرا أكثر من مرة."

قال هنري بنبرة ساخرة:  

"لكنّك دائمًا تصل متأخرًا بشكل فظيع."

رد دوريان بشغف:  

"لا أستطيع التوقف عن الذهاب لرؤية سيبيل تمثّل، حتى لو لمشهد واحد فقط.  

أشتاق إليها بشدة، وعندما أفكر في الهواء دون وجودها... أشعر أنني أختنق."

قال دوريان، وقد خفت صوته بانبهار:  

"تسكن روح رائعة في هذا الجسد  الصغير...."

قال هنري:  

"ستتناول العشاء معي الليلة، أليس كذلك، يا دوريان؟"

هزّ رأسه نافيًا:  

"الليلة تمثّل دور إيموجين... وغدًا ستكون جولييت."

"ومتى تكون هي سيبيل فاين؟"

ردّ مبتسمًا:  

"أبدًا."

"أُهنئك."

قال دوريان محتدًا:  

"ما أقسى كلماتك! إنها جميع بطلات التاريخ العظماء في امرأة واحدة. هي أكثر من مجرد شخص...  

أنت تضحك، لكنني أقول لك إنها عبقرية. أنا أحبها... ويجب أن أجعلها تحبني.  

أنت، يا من تعرف أسرار الحياة، أخبرني كيف أسحر قلب سيبيل فاين حتى تحبني!  

أريد أن أجعل روميو يشعر بالغيرة.  

أريد لعشاق العالم الراحلين أن يسمعوا ضحكتنا فيقبضهم الحزن، أن تُحرّك أنفاس حبنا رمادهم الراكد، وتوقظ رمادهم بألم.  

يا إلهي، هنري ... كم اعشقها !"

كان يدور في الغرفة جيئة وذهابًا وهو يتحدّث، وقد احمرّت وجنتاه بحُمرة حادة من شدّة الانفعال.  

أما هنري، فكان يراقبه بنظرة تتداخل فيها المتعة والفضول. كم اختلف هذا الفتى عن الشاب الخجول المرتبك الذي قابله لأول مرة في مرسم مارينا  هالورد!  

لقد تفتّحت طبيعته كزهرة، وأثمرت شُعلات حمراء.  

خرجت روحه من مخبئها، وجاءت رغباته تستقبلها في الطريق.

سأله هنري أخيرًا:  

"وما الذي تنوي أن تفعله؟"

أجاب دوريان:  

"أريدك أنت وبازل أن تأتيا معي في إحدى الليالي لتروا أداءها.  

أنا واثق تمامًا من النتيجة — ستعترفان بعبقريتها دون شك.  

وبعدها، يجب أن نُحرّرها من سلطة ذلك اليهودي.  

هي مرتبطة معه بعقد لا يقل عن ثلاث سنوات... أو بالأحرى سنتين وثمانية أشهر من الآن.  

سأدفع له شيئًا بالطبع، وعندما يتم كل شيء... سأستأجر لها مسرحًا في وست إند..."

تابع دوريان:  

"وسأُظهرها للعالم كما ينبغي... ستُجنّن العالم كما جنّنتني تمامًا ! ."

ردّ هنري مبتسمًا:  

"ذلك سيكون مستحيلًا، يا عزيزي الصغير !"

"بل ستفعل. هي لا تملك فنًّا فقط — بل حدسًا فنيًا نقيًا — بل تملك شخصية أيضًا.  

وأنت كثيرًا ما قلت لي إن الشخصيات، لا المبادئ، هي التي تغيّر العصر."

"حسنًا... في أي ليلة نذهب؟"

قال دوريان مفكرًا:  

"اليوم الثلاثاء، وغدًا... نعم، غدًا تؤدي دور جولييت. لنحدّد الغد."

قال هنري:  

"جيّد، فندق بريستول، الساعة الثامنة. وسأجلب بازل ."

"لا، ليس الثامنة يا هنري ، أرجوك. السادسة والنصف. يجب أن نكون هناك قبل أن ترتفع الستارة.  

لا بدّ أن تراها في المشهد الأول، حيث تلتقي روميو."

قال هنري متذمرًا مازحًا:  

"السادسة والنصف؟ يا لها من ساعة! . لا بد أن تكون السابعة على الاقل .

لا يتعشّى رجل محترم قبل السابعة.  

هل ستقابل بازل قبل ذلك؟ أم أكتب له أنا؟"

رد دوريان:  

"أوه، عزيزي بازل ! لم أره منذ أسبوع. وهذا تصرّف سيء مني، خصوصًا أنه أرسل لي لوحتي في إطار رائع صمّمها بنفسه ..  

وبالرغم من أنّني أغار قليلاً من اللوحة لأنها أصغر مني بشهر، إلّا أنني أعترف بأنني أعشقها.  

ربما الأفضل أن تكتب له أنت. لا أريد أن أراه وحدي — فهو يقول أشياء تزعجني... نصائح جيدة، كما تعرف."

ابتسم اللورد هنري وقال:  

"الناس يعطون بسخاء ما هم في أمسّ الحاجة إليه. وهذا ما أسمّيه بالكرم العميق."

ضحك دوريان وأضاف:  

"بازل  طيّب جدًا، لكن يبدو لي أنها متحفّظ قليلاً.  

منذ أن عرفتك، يا هنري، اكتشفت ذلك فيه ."

فأجاب هنري:  

"بازل ، يا رفيقي العزيز، يسكب كل ما فيه من جمال في أعماله الفنية، ولهذا لا يتبقّى له في الحياة إلا آراؤه المسبقة، وحسّه العملي."

قال دوريان غراي وهو يسكب بعض العطر على منديله من زجاجة كبيرة مزيّنة بالذهب:  

"أترى حقًا أن الأمر كذلك، يا هاري؟  

لا بد أن يكون كذلك إن قلته أنت.  

والآن، عليّ الذهاب. إيموجين بانتظاري. لا تنسَ الغد... إلى اللقاء."

كان هنري يفكر بعدما غادر دوريان، وقد أثاره هذا الشاب أكثر من أي شخص آخر قابله من قبل. لقد أصبح دوريان، في نظره، حالة تستحق التحليل.

لطالما أحبّ هنري طريقة تفكير العلماء، لكن موضوعات العلم المعتادة بدت له مملة.  

لهذا، بدأ بدراسة نفسه أولًا... ثم انتقل لدراسة وفهم الآخرين من حوله.  

الحياة البشرية، بالنسبة له، هي الشيء الوحيد الذي يستحق الدراسة.

ان هنري اكتسب من ذلك التحليل قدرة قوية في التاثير على الاخرين . كان سعيدا  أن كلمات قالها — كلمات  ذات وقع مؤثر — هي التي جعلت روح دوريان تتوجه نحو تلك الفتاة البيضاء، وتنحني أمامها بحب ودهشة.  

بمعنى ما، كان الفتى من صُنعه. لقد جعله ينضج قبل أوانه.  

كان هنري مقتنعًا أن الطريقة الوحيدة لفهم المشاعر البشرية هي من خلال التجربة.  

ولم يكن هناك أفضل من دوريان غراي ليمثّل حالة قابلة للدراسة.  

حبّه المفاجئ والمجنون لسيبيل فاين كان حالة نفسية معقدة.  

وبينما اللورد هنري غارق في تأملاته، جاء طَرق على الباب، ودخل خادمه ليذكّره بأن وقت العشاء قد حان.  

فنهض من مقعده، ونظر من النافذة.

أشعة الغروب كانت تلوّن نوافذ البيوت المقابلة بلون ذهبي يميل إلى الأحمر، والسماء من فوقه بدت كزهرة ورد باهتة.  

فكّر في صديقه دوريان، وفي حياة الشغف التي يعيشها، وتسأل في نفسه: كيف سينتهي به المطاف؟

وعندما عاد إلى بيته قرابة الثانية عشرة والنصف ليلًا، وجد برقية على الطاولة.  

فتحها... وكانت من دوريان غراي.  

كانت تخبره بأنه خُطب رسميًا لسيبيل فاين.

تعليقات

المشاركات الشائعة