18
"لا جدوى من قولك إنك ستصبح صالحًا،" صرخ اللورد هنري وهو يغمس أصابعه في وعاء نحاسي أحمر مليء بماء الورد.
"أنت مثالي تمامًا. أرجوك، لا تتغير."
هز دوريان غراي رأسه. "لا، يا هنري، لقد ارتكبت في حياتي أمورًا مروعة كثيرة. لن أكررها. بدأت أفعالي الصالحة بالأمس."
"وأين كنت بالأمس؟"
"في الريف، يا هنري. أقمت بنزل صغير وحدي."
قال اللورد هنري مبتسمًا: "يا عزيزي، يمكن لأيٍّ كان أن يكون صالحًا في الريف. لا توجد فيه مغريات."
"المغريات ،" ردد دوريان. "لقد عرفت الكثير منها. ويبدو لي الآن أمرًا فظيعًا ان يستسلم المرء لها . لديّ مثالي الجديد، يا هنري. سأغير نفسي. أظنني تغيّرت."
"لم تخبرني بعد عن فعلتك الصالحة. أم أنك قلت إنك فعلت أكثر من واحدة؟" سأله صاحبه، بينما كان يصبّ على طبقه هرمًا من الفراولة المُنقطة …
"بإمكاني أن أخبرك، هنري. ليست قصة يمكنني روايتها لأي أحد. لقد منحت شخصًا ما رحمة. يبدو ذلك تباهيًا، لكنك تفهم ما أعنيه. التقيت بدوقة امس ، انها تشبه سبيبل فاين بشكل مدهش. أظن أنّ هذا هو أول ما جذبني إليها. هل تتذكر سبيبل؟ كم يبدو ذلك بعيدًا!"
" كنا على وشك أن نهرب سويًا هذا الصباح عند الفجر. لكن فجأة قررت أن أتركها كما وجدتها... نقيّة كزهرة."
قال اللورد هنري مقاطعًا: "أعتقد أن جدّة الشعور منحتك نشوة حقيقية، يا دوريان. لكنني أستطيع إنهاء مشهدك المثالي: أعطيتها نصيحة جيّدة، وكسرت قلبها. ذلك كان إصلاحك ؟!."
"هنري، إنك بشع! لا يجب أن تقول مثل هذه الأشياء المروعة. قلب الدوقة لم يتحطم. بالطبع، بكت، وكل ذلك. لكنها لم تُوصَم بالعار. يمكنها أن تعيش بسعادة مع زوجها ."
قال اللورد هنري ضاحكًا وهو يسترخي في كرسيه: " يا عزيزي دوريان، لديك حالات مزاجية صبيانية بشكل غريب. هل تظن أنها سترضى يومًا بزوجها ؟ ، حسنًا، حقيقة أنّها قد التقت بك وأحبّتك ستجعلها تحتقر زوجها، وستكون تعيسة. من ناحية أخلاقية... لا أظنني أقدّر ما حدث كثيرًا."
دوريان : " كان تخلي الاعظم ياهنري "
هنري : "تخلّيك العظيم؟ حتى كبداية، لا يبدو عظيمًا. ثم كيف لك أن تعرف أن الدوقة لا تطفو في هذه اللحظة على بركة رمت فيها نفسها ؟"
دوريان : "لا أستطيع تحمّل هذا، هنري! إنك تسخر من كل شيء، ثم تقترح أعظم المآسي. آسف لأنني أخبرتك أصلاً. لا يهمني ما تقول. أعلم أنني كنت محقًا في ما فعلته.. لا تتحدث عن الأمر أكثر، ولا تحاول إقناعي بأن أول عمل صالح قمتُ به منذ سنوات، أول تضحية صغيرة عرفتها، هو خطيئة من نوع ما. أريد أن أكون أفضل. سأصبح أفضل. أخبرني عن نفسك. ماذا يحدث في المدينة؟ لم أزر النادي منذ أيام."
"الناس ما زالوا يتحدثون عن اختفاء بازل، المسكين."
"كنت أظن أنهم قد سئموا من ذلك الآن،" قال دوريان وهو يصبّ لنفسه بعض الشراب ، وعلامات الامتعاض ترتسم على وجهه.
"يا فتى، لقد مضى على حديثهم ستة أسابيع فقط، والجمهور البريطاني لا يملك القدرة الذهنية لتحمّل أكثر من موضوع واحد كل ثلاثة أشهر. لكنهم كانوا محظوظين مؤخرًا. حصلوا على قضية طلاقي، وانتحار آلان كامبل. والآن لديهم لغز اختفاء فنان. الشرطة المحلية تصرّ على أن الرجل ذو المعطف الرمادي الذي غادر إلى باريس في القطار الليلي بتاريخ التاسع من نوفمبر كان باسيل، أما الشرطة الفرنسية فتؤكد أن باسيل لم يصل إلى باريس أصلًا. "
> سأل دوريان : "ماذا تعتقد انه حدث لباسيل يا هنري " وهو يرفع كأس البرغندي نحو الضوء، متعجبًا من قدرته على مناقشة الأمر بهذه الهدوء.
"ليس لدي أدنى فكرة. إن قرر باسيل أن يختبئ، فذاك لا يعنيني. وإن كان قد مات، فلا أريد التفكير فيه. الموت هو الشيء الوحيد الذي يثير رعبي حقًا. أكرهه."
"لماذا؟" قال الشاب المرهق.
>أجاب اللورد هنري، وهو يمرّر تحت أنفه مشبكًا ذهبيًا لعلبة عطر صغيرة:
"لأننا نستطيع النجاة من كل شيء هذه الأيام ما عدا ذلك."
لم يعلّق دوريان، بل نهض من المائدة، وعبر إلى الغرفة المجاورة، وجلس إلى البيانو يترك أصابعه تتجول على مفاتيحه البيضاء والسوداء. وبعد أن أُحضرت القهوة، توقف فجأة ونظر نحو اللورد هنري، قائلاً:
"هنري، هل خطر لك يومًا أن باسيل قد قُتل؟"
تثاءب اللورد هنري:
" لماذا قد يُقتل؟ ،كان باسيل محبوبًا للغاية، ، ولم يملك أعداء. بالطبع، كان لديه موهبة عظيمة في الرسم. لكنه كان مملًا نوعًا ما. لم يثر اهتمامي إلا مرة واحدة، وذلك حين أخبرني، قبل سنوات، أنه يعتبرك مثله الاعلى ، وأنك كنت الدافع الرئيس في فنه."
"كنت أحب باسيل كثيرًا..." قالها دوريان بـبنبرة يغلّفها الحزن : "ولكن، ألا يقول الناس إنه قُتل؟"
"بعض الصحف تقول ذلك، نعم. لكنني لا أراه أمرًا محتملًا. أعلم أن في باريس أماكن مريعة، لكن باسيل لم يكن من النوع الذي يذهب إليها. لم يكن لديه فضول... وكانت تلك أكبر عيوبه."
"وما الذي ستقوله، هنري، إن أخبرتك أنني قتلت باسيل؟" قال الشاب، متابعًا تعبيرات صاحبه عن كثب بعد أن نطقها.
"سأقول، يا عزيزي، إنك تحاول أن تتقمّص شخصية لا تليق بك. كل جريمة مبتذلة، تمامًا كما أن كلامك مبتذل. ليس فيك يا دوريان تلك النزعة. آسف إن جرحت غرورك بذلك، لكنه واقع."
" هل تعتقد إذًا أن من ارتكب جريمة قتل يمكنه أن يرتكبها مرة أخرى؟ لا تقل لي ذلك."
"أوه! أي شيء يتحوّل إلى متعة إن كرّرته كثيرًا،" صرخ اللورد هنري ضاحكًا.
"هذه من أعظم أسرار الحياة. لكنني أظن مع ذلك أن القتل يبقى خطأ دائمًا. لا يجب أن تفعل شيئًا لا تستطيع الحديث عنه بعد العشاء. لكن دعنا ننتقل من موضوع باسيل المسكين. أتمنى لو أصدق أنه اختتم حياته بنهاية رومانسية، لكنني لا أستطيع. أرجّح أنه سقط في نهر من فوق حافلة، وأن السائق أخفى الأمر كي لا تثار فضيحة. نعم، أظن تلك كانت نهايته. أراه الآن مستلقيًا تحت تلك المياه الخضراء الكئيبة، بينما تمر فوقه مراكب الشحن الثقيلة، وتتشابك الأعشاب الطويلة في شعره. تعلم؟ لا أعتقد أنه كان سيقدّم عملًا فنيًا جيدًا مجددًا. خلال السنوات العشر الأخيرة، بدأ فنّه يتدهور ."
تنهد دوريان بعمق، بينما تجوّل اللورد هنري عبر الغرفة وراح يربّت على رأس ببغاء غريب، رمادي الريش ذو عُرف وذيل وردي، كان يتوازن على عارضة من الخيزران. وما إن لمسته أنامل هنري الرفيعة، حتى أسدل جفنيه المجعّدين البيض فوق عينين سوداوتين كالزجاج، وبدأ يتمايل ذهابًا وإيابًا.
"نعم،" تابع وهو يستدير ويُخرج منديله من جيبه.
"رسمه تراجع تمامًا. بدا لي وكأنه فقد شيئًا... فقد مثالًا. حين انقطعت صداقتكما، فقد هو عظمته كفنان. ما الذي فرّق بينكما؟ أظن أنه صار يُشعرك بالملل. وإن كان كذلك، فهو لم يغفر لك ذلك مطلقًا. ، و ما الذي جرى لتلك اللوحة الرائعة التي رسمها لك؟ لا أظنني رأيتها بعد أن أنهى عمله عليها. أوه! أتذكر أنك أخبرتني قبل سنوات بأنك أرسلتها إلى سيلبي، وأنها ضاعت أو سُرقت في الطريق. لم تستعدها قط؟ يا للأسف! كانت تحفة بحق. أتذكر أنني رغبت في شرائها. أتمنى لو فعلت ذلك حينها. كانت تنتمي لأفضل فترات بازل الفنية. هل نشرت إعلانًا عنها؟ كان عليك أن تفعل."
"لا أذكر،" قال دوريان. "أظنني فعلت، لكنني لم أحبها أبدًا. آسف لأنني جلست من أجلها. ذاكرتها تبعث في نفسي الاشمئزاز. لماذا تتحدث عنها؟ "
قال هنري : " مجرد فضول يا دوريان ، مجرد فضول "
هزّ دوريان غراي رأسه وضرب بعض النغمات الناعمة على البيانو.
قال مكررًا: "كأنها لوحة للحزن... وجه بلا قلب."
تمدّد الرجل الأكبر سنًا في مكانه، ونظر إليه بعينين نصف مغمضتين.
وبعد فترة صمت، قال:
"بالمناسبة، يا دوريان... كيف تجري تلك المقولة؟ ، ماذا ينتفع الإنسان لو ربح العالم كله وخسر... روحه؟"
تكدرت الموسيقى، وانتفض دوريان ونظر إلى صديقه بذهول.
"لماذا تسألني ذلك، يا هنري ؟"
رفع اللورد هنري حاجبيه بدهشة قائلاً:
"يا عزيزي، سألتك لأنني ظننت أنك قد تملك جوابًا. لا أكثر."
ثم قال بنبرة رخيمة: "اعزف لي شيئًا، دوريان. اعزف لي نُوكتورن،
وفيما تعزف، أخبرني بصوتٍ خافت كيف احتفظت بشبابك. لا بد أن لديك سرًا.
أنا أكبر منك بعشر سنوات فقط، لكنني متعب، مُرهق، مصفر الوجه.
أنت مذهل يا دوريان. لم تبدُ يومًا أكثر جمالًا منك الليلة.
تُذكرني باليوم الذي رأيتك فيه أول مرة: ، خجولًا جدًا، ومثيرًا للدهشة إلى حد لا يُصدق. لقد تغيرت بالطبع، ولكن ليس في مظهرك."
"أتمنى لو تخبرني بسرّك.
كي أستعيد شبابي، لفعلت أي شيء في هذا العالم… ، إلا ممارسة الرياضة، أو الاستيقاظ مبكرًا، أو التصرّف باحترام."
قال دوريان، بصوت خافت: "أنا لست كما تطنني ، يا هنري."
نهض دوريان من أمام البيانو، ومرر يده في شعره قائلاً: "نعم، لقد كانت الحياة فاتنة...
لكنني لن أعيش نفس الحياة، يا هاري.
ولا ينبغي لك أن تقول لي مثل هذه الأشياء الباذخة.
أنت لا تعلم كل شيء... ، وأظن أنه لو علمت، حتى أنت يا هنري، ستنفر مني."
ضحك الآخر، فقال دوريان متوسلاً:
"لا تضحك... رجاءً، لا تضحك."
هنري : "لماذا توقفت عن العزف، دوريان؟
عد وأعطني النُوكتورن مرة أخرى.
لن تفعل؟
إذًا فلنذهب إلى النادي.
لقد كانت أمسية ساحرة، ويجب أن ننهيها بسحرٍ مماثل.
هناك من يتشوق بشدة للتعرّف إليك—اللورد الشاب "بول"،
نجل "بورنموث" الأكبر.
لقد قلد ربطات عنقك بالفعل، وتوسل إليّ لأقدمه إليك.
إنه لطيف جدًا، ويُذكرني بك."
أجاب دوريان، بعينين حزينتين:
"أتمنى ألا يكون كذلك. لكنني مرهق الليلة، يا هنري. لن أذهب إلى النادي. لقد اقتربت الساعة من الحادية عشر، وأريد أن أنام مبكرًا."
قال "هنري ":
"ابقَى. لم تعزف يومًا بهذه الروعة كما الليلة. كانت لمستك مذهلة. فيها تعبير لم أسمعه من قبل."
ابتسم دوريان وقال:
"ذلك لأنني قررت أن أكون طيبًا... أنا بالفعل تغيّرت قليلاً."
ردّ "اللورد هنري":
"لا يمكنك أن تتغير بالنسبة لي يا دوريان. سنبقى أصدقاء دائمًا."
تردد صوت دوريان، حزينًا:
"لكنّك سمّمتني بكتابٍ ذات يوم. ولا ينبغي لي أن أغفر ذلك. عِدني يا هنري، ألا تعيره لأي أحد... إنه يؤذي."
ضحك الآخر ضحكة عابثة، وقال:
"يا فتى، لقد بدأت تُنظّر! ، نحن كما نحن، وسنظل كذلك. أما تسمم المرء بكتاب؟ لا وجود لهذا. الفن لا يؤثر في الفعل."
اضاف هنري : " الآن. اذا كنت لن تاتي الى نادي الليلة ، فتعال غدًا. سأخرج للركوب عند الساعة الحادية عشرة ، يتخرج معي، وسآخذك لتناول الغداء .
انتبه، لا تتأخر.."
"هل عليّ حقًا أن آتي، يا هنري ؟"
هنري : "بالطبع. سيفوتك منظر الحديقة فاتنة . لا أذكر أنني رأيت زهور الليلك بهذا الجمال
منذ العام الذي عرفتك فيه."
قال دوريان: "حسنًا... سأكون هنا في الحادية عشرة. تصبح على خير، يا هنري ."
وحين بلغ الباب، توقف للحظة وكأنه على وشك قول شيءٍ آخر،
ثم تنهد... وخرج.
تعليقات
إرسال تعليق