اجنحة من ضوء النجوم ١١

 قبل دقائق من غروب الشمس، وقفت كلاريون عند الحدود، متلفّحة بمعطفها الجديد.  

حدّقت عبر المسافة ، لترى الضوء المتلاشي يلمع فوق الثلج، والظلال تتجمّع تحت أشجار التنوب، والرياح تدور في دوامات كثيفة.  

كانت أصابعها ترتجف وهي تغلق أزرار المعطف الدقيقة، ولم تكن متأكدة إن كان ذلك بسبب الحماسة أم التوتر.


"حل عملي للغاية ."


ارتجفت كلاريون من صوت ميلوري المفاجئ.  

تدحرجت أحذية الثلج المعلّقة على يديها بصوت مرتفع مع حركتها المفاجئة.  

قالت : "رجاءً، لا تفاجئني بهذه الطريقة!"

هبط ميلوري على الجسر، وفي عينيه بريق خفيف من المرح.  

قال : "أعتذر،" ، رغم أنه لم يبدُ نادمًا حقًا.


والحق يُقال، وجدت كلاريون صعوبة في أن تُشيح بنظرها عنه وهو ينظر إليها بهذه الطريقة.  

كان المرح قد تلاشى من ملامحه، وأصبح يحدّق بها بمزيج غريب من الأمل والقلق.  

هبة ريح هزّت الثلج المتراكم على الأغصان، ودفعت بشعره الأبيض إلى كتفه.  

"هل أنتِ مستعدة؟"


هل كانت مستعدة فعلًا؟

فكرة العبور أرعبتها أكثر مما كانت تود الاعتراف به.  

الجزء العاقل منها، المدفون تحت طبقات الحماسة والعزيمة، كان قلقًا من المخاطر.  

كانت تثق ببترا، لكن حتى هي لا تستطيع صنع معطف لا يتأثر بالتمزق أو الماء.  

خطأ واحد بسيط قد يكلّف كلاريون جناحيها.  

لكن في أعماقها، كانت تخشى شيئًا آخر:  

كيف سيكون شعورها حين تعبر الحدود أخيرًا؟  

هل سيظل الشتاء يحتفظ بسحره بعد أن تطأه قدماها؟


"انتظر لحظة."  

أسرعت كلاريون بارتداء حذائها وقفازاتها، ثم وضعت أحذية الثلج في مكانها.  

وحين انتهت، تراجع ميلوري خطوة وأشار لها بإبهامه، علامة الموافقة.  

نظرت إليه وهي عند الحافة، حيث أطراف حذائها لامست خيوط الصقيع الرقيقة، وقفت كلاريون مترددة. كانت تريد أن تعبر، لكنها شعرت وكأن قدميها مغروستين في الأرض.


قالت بانفعال :"لا أستطيع فعلها وأنت تراقبني!" .


" هل تريدين أن أستدير؟"


ضحكت بسخرية. "لا تكن سخيفًا."


أغمضت عينيها وحاولت أن تتجاهله. اقتربت من الحدود حتى شعرت ببرودة خفيفة تلامس طرف أنفها. كل ما عليها فعله هو أن تخطو خطوة واحدة فقط و ستكون بخير.  

تنفّست كلاريون بعمق وزفرت، لكنها أدركت بعد لحظة أنها ربما بدت غريبة جدًا.  

وحين فتحت عينيها، كان ميلوري يحدّق بها بنظرة ساخرة فضولية.


سألت ؛ "ماذا؟" .


قال : " لا شيء إطلاقًا."  

كانت عيناها تلمعان، وقلبها يخفق بخيانة عند رؤيت ابتسامته

  "هل تحتاجين مساعدة؟"


"لا، سيدي." تابعت وهي تحاول ألا تبدو منزعجة. "لا أحتاج مساعدتك."


" ربما كلمة (سحب) ستكون أدق؟"


لم تكن أفضل، لكنها تجاهلت التعليق.  

مدّ ميلوري يده نحوها، وكلاريون لم تستطع سوى التحديق به للحظات.  

"ما هذا؟"


نظر إليها بثبات. "فقط... ثقي بي."


بتردد شديد، أمسكت به، وفوجئت بأن بشرته كانت باردة بشكل لطيف.  

لم تكن تعرف ما الذي توقّعته. أن يكون مصنوعًا من الجليد؟ أن يجمّدها بمجرد لمسه، حتى من خلال القفازات؟  

لكن لا، لقد كان مثلها تمامًا: لحم ودم.


توقّفا للحظة، ويداهما أصبحتا جسرًا بين عالمين.


ثم، بسحب خفيف، أرشدها.


وحين خطت كلاريون عبر ستار الثلج، شعرت بانخفاض حاد في الحرارة، إذ احتضنها الشتاء.  

وعندما فتحت عينيها من جديد، كانت قد تركت كل ما تعرفه خلفها.  

رغماً عنها، ضحكت بخفة ونظرت إلى ميلوري.  

كان قريبًا جدًا، حتى أنها رأت اللون الحقيقي لعينيه: رمادي عاصف، وفيه لمحة زرقاء جليدية.  

رأت ملامحه تلين وهو ينظر إليها، و...


كانت لا تزال تمسك بيده.


شعرت بالحرارة تملأ وجهها، وكادت تسحب يدها بسرعة.  

"أنا آسفة... و، أم... شكرًا؟"


"لا داعي لذكر ذلك."  

حرّك أصابعه وكأنه يخفف من شدّة، ثم تراجع خطوة واحدة.  

أصدر الثلج صوتًا خفيفًا تحت قدميه.


ثلج ؟. أنا حقًا في غابة الشتاء !


وبينما بدأت تنسى إحراجها، رفعت كلاريون رأسها نحو السماء وبدأت تدور ببطء.  

كانت الغيوم تطفو فوقها كصفحة رمادية كثيفة، يضيئها وهج الغروب.  

فتحت فمها لتلتقط رقاقات الثلج المتساقطة، وذابت على لسانها فورًا.  

كان كل شيء ساحرًا بشكل غريب، ولم تكن تعرف إن كانت قد شعرت بهذا القدر من البهجة من قبل.


ميلوري : " هل هذا ما توقعتِه؟  "

كان في صوته لمحة من الدهشة.


ارتفع بخاره في الهواء، وحتى ذلك بدا رائعًا.  

"إنه جميل."


لم يردّ على الفور.  

ولو لم تكن تعرفه، لقالت إنه بدا... متوترًا.  

"هناك الكثير لتريه. اتبعيني."


قالت : "حسنًا،" ، وهي تأمل ألا يبدو صوتها قلقًا أكثر من اللازم.


وهكذا، أخذها ميلوري إلى داخل الغابة.

لم يكن هناك سوى صوت خطواتهما على الثلج، وهمسات الأغصان التي حرّكتها الرياح.  

لكن كلاريون لم تمانع هذا الصمت. لم يكن مخيفًا، بل بدا وكأنه يرحّب بها، كأن العالم بأسره نائم.  

كانت تتوقع أرضًا قاحلة، مملة، بلا حياة.  

لكن كل شيء كان مذهلًا: من نقش الصقيع على الأوراق، إلى بلورات الثلج المضيئة المعلقة على الأشجار.  

كل شيء هنا يلمع، وكأنه غبار سحري من القصص الخيالية.


بعد قليل، أصبحت الأرض أكثر وعورة وانحدارًا.  

بدأت أنفاسها تثقل، وتخرج منها على شكل سحب بيضاء صغيرة.  

الرياح هبّت من الجبل، وجعلت أطراف معطفها تتطاير خلفها.  

وفراء القبعة داعب وجهها المتجمد، وكانت متأكدة أن وجنتيها أصبحتا حمراء.  

أما ميلوري، فبقي بلون الثلج، لا يتأثر لا بالتعب ولا بالبرد.  

ورغم صعودهما، لم يطِر، بل أصرّ على السير بجانبها.


فكّرت "عنيد... لكنه نبيل"


وبعد ما بدا وكأنه ساعات، وصلا إلى قمة أحد الجبال.  

ما رآه هناك جعل أنفاسها تتقطع.  

أمامهما امتدت غابة الشتاء بكل جمالها: بياض ناصع، وخضرة عميقة، وأنهار وبحيرات صافية وزرقاء بشكل لا يُصدق.  

وفي البعيد، ظهرت بيوت الجنيات الشتوية، منحوتة من الجليد ومشكّلة من الثلج، تتلألأ تحت ضوء القمر وتضيء من الداخل بهدوء.


كيف يمكن لأحد أن يظن أن هذا المكان مخيف؟


قال ميلوري بصوت خافت : "ها هي،" .


سمعت كلاريون الاحترام في نبرته، وشعرت به أيضًا.  

لم يكن هناك ما يُقال... لم ترَ شيئًا كهذا من قبل.


وبعد لحظة، أضاف: "وجهتنا هي قاعة الشتاء. يمكنك رؤية وهجها من هنا."


وأشار بيده، فحدّقت كلاريون لترى هالة زرقاء خفيفة تلوّن جانب جبل بعيد.  

"المسافة طويلة."


ابتسم لها بخفة. "هناك طريقة أسرع للوصول."


 "إذا كنت تقترح أن تحملني..."


"بالطبع لا." بدا وكأنه شعر بالإهانة، مما جعلها تبتسم.  

"أعتقد أنكم لا تستطيعون التزلج في المواسم الدافئة ، هل تعرفين اذات التزلج ؟ "

كلاريون  :"اممممم."  

توجّه نحو قاعدة شجرة تنوب، حيث كانت هناك ألواح خشبية دائرية مستندة إلى الجذع.  

نفض الثلج عن اثنتين منها وحملها.  

حاولت كلاريون ألا تبدو مشوشة تمامًا.  

"ما هذه؟"


أسقطها عند قدميه. "زلاجات."


"أفهم،" قالت، لكنها لم تفهم شيئًا.  

"وماذا نفعل بها؟"


"نركبها وننزل من الجبل."


"نحن..." فتحت كلاريون فمها بدهشة. "ماذا؟ هذا جنون! ."


هز كتفيه وصعد على واحدة منها.  

"سنرى. لم أفعل هذا منذ وقت طويل."


قالت وهي غير مصدقة : "أنت جاد؟" .  

كل ما فكرت فيه هو كم كان الجبل مرتفعًا، وكم يبدو الثلج زلقًا تحت أقدامهم.  

انسَ الكوابيس... هذا سيكون نهايتها بلا شك.  

لكنها لم تستطع إنكار أن سخافة الفكرة جعلتها أكثر إغراءً.  

متى كانت آخر مرة خاضت فيها مغامرة حقيقية؟  

"هل هذا نشاط شائع بين جنيات الشتاء؟"


"في الأوقات السعيدة، نعم."  

نظر إليها من تحت رموشه.  

"بالطبع، إن كنتِ تفضلين، يمكننا أن نمشي..."


"لا! لا داعي لذلك."  

شعرت كلاريون أنها تبدو سخيفة وهي تتسلّق الزلاجة الأخرى.  

كانت هناك حبال خشنة تمرّ عبر ثقوب على الجانبين، وأخبرها ميلوري أنها مخصصة للإمساك باليدين.  

"وماذا الآن؟"


"هيا بنا."


" ماذا تفعل... مهلاً!"


لم ينتظر.  

ابتسم ابتسامة ساخرة، أزعجتها كثيرًا، لأنها جعلت معدتها تنقلب.  

ثم دفع نفسه من الأرض، وانطلقت زلاجته نحو جانب الجبل، ثم بدأت بالانحدار بسرعة.  

لم يكن أمامها خيار سوى أن تتبعه.  

وبتصميم، قررت ألا تفكر في مدى خطورة الأمر، وانطلقت خلفه.  

الخوف، والإثارة، جاءا فورًا.


لم يسبق لها أن طارت بهذه السرعة من قبل.


كانت الغابة تمرّ بجانبها كشرائط من الأخضر والأبيض، والثلج يصفر تحت قدميها.  

شعرت بمعدتها تهبط كلما قفزت الزلاجة فوق تلال الثلج والجليد الزلق، مهددة بالانقلاب، لكنها حافظت على توازنها.  

الرياح صفعت وجهها، وانتزعت شعرها من ضفيرته، فانتشر حول كتفيها يتطاير بجنون.  

الثلج المتساقط من الأغصان ارتطم بالأرض.


في أسفل المنحدر، كان ميلوري يخرج من زلاجته ببطء شديد، وكلاريون كانت على وشك الاصطدام به مباشرة.


صرخت : "انتبه!" .


نظر إليها، ثم طار بسرعة، متفاديًا طريقها بعناية.  

مرت بجانبه، لكنها اصطدمت بسدّ ثلجي.  

ارتفعت الزلاجة في الهواء، ثم هبطت بقوة على الأرض.  

الصدمة جعلت كلاريون تندفع من مقعدها، ومع صرخة مفاجئة، سقطت مباشرة في وسادة من الثلج العميق.


"كلاريون!"


للحظة، بقيت واقفة تحدّق في السماء، مذهولة.  

تمتمت : "أنا على قيد الحياة."  

ظهر وجه ميلوري في مجال رؤيتها.  

"هل أنتِ بخير؟"

" أعتقد ذلك."


وحين استعادت وعيها، زحفت خارجة من الحفرة التي تركتها في الأرض.  

مدّ يده نحوها، وهذه المرة، أمسكت بها دون تردد، وسمحت له أن يساعدها على الوقوف.  

كان الثلج يغطي شعرها المتطاير، ويتشبث برموشها.  

وكانت ملامحه مليئة بالقلق، حتى أنها لم تستطع إلا أن تضحك.  

يا لها من تجربة مثيرة.  

لم تتذكر آخر مرة شعرت فيها بهذا القدر من المرح، وبهذه الطريقة الطفولية.  

لدقيقة واحدة فقط، لم تكن الملكة القادمة لمملكة الجنيات.  

كانت مجرد جنية تلعب في الثلج.


نظر إليها ميلوري بنظرة غريبة.


سأل :"ما الأمر؟" .


قالت بسرعة : "لا شيء،" .  

ثم أمسك خصلة من شعرها، فتوقّف تنفّسها تمامًا.  

للحظة، ظنّت أنه سيعيدها خلف أذنها أو يزيل الثلج العالق بها.  

لكن يبدو أنه غيّر رأيه، لأن يده عادت إلى جانبه.  

ذكّرت نفسها ألا تنجرف كثيرًا.  

"فقط... تبدين مختلفة هنا. هذا المكان يليق بك."

"كيف؟"  

اقتربت كلاريون منه خطوة، وأدخلت نبرة التحدي في صوتها، فقط لتخفي ذلك الشعور المزعج بالرغبة.  

"ماذا تقصد بذلك؟"


"آه، ها أنتِ." قالها وكأنه وجد شيئًا كان يبحث عنه.


حدّقت فيه بغضب، لكنه لم يبتعد عنها.  

بل بدا وكأن المسافة بينهما تقلّ وهو يتأملها.


"أردت فقط أن أقول إنكِ تبدين سعيدة هنا."  

تحوّل صوته إلى نبرة لطيفة.  

"وهذا جميل."


وكيف لا تكون كذلك؟  

في هذا الظلام المتجمّع، ومع شخص ينظر إليها وكأنه يراها حقًا، بدا هذا المكان وكأنه ينتمي إليها.  

عالم كامل من ضوء النجوم والبريق والفضة.  

فكّرت أن لا أحد قال لها ذلك من قبل.  

هل كانت غير سعيدة في المواسم الدافئة؟  

"شكرًا لك."  

أعادت خصلة من شعرها خلف أذنها.  

"هل نتابع؟"


سار الاثنان جنبًا إلى جنب نحو قاعة الشتاء.  

كان ضوء القمر يتسلل عبر الأغصان العارية، ويغمر ميلوري بتوهج فضي.  

كانت كلاريون شاردة، وكأنها تبحث عن كلمات تكسر صمتها المتأمل.  

وأخيرًا قال:  

"يجب أن أسأل... كيف وجدت تجربة التزلج؟"


أجابت بجدية مفاجئة.  

"أحببتها."


" رغم أنك تحطّمت في النهاية؟"


"ربما لهذا السبب بالذات. شعرت أنني حيّة أكثر مما شعرت منذ وقت طويل.  أعترف، أنا..."  

توقفت.  

لو أكملت الجملة، كان سيسخر منها، أو على الأقل يظنها ساذجة.  

لكنها شعرت أنها بالفعل نزعت جزءًا من درعها تلك الليلة.  

"لم أتوقع أن يكون الشتاء بهذا القدر من... المرح؟"


رفع حاجبه.  

"ماذا، هل كنتِ تظنين أننا نقف مثل تماثيل جليدية؟"


"افتراض منطقي."  

حاولت أن تخفي نبرة الاستياء، ولم تنجح تمامًا.  

"نحن نراكم فقط أثناء تغيّر الفصول. ومن بعيد.  

وأقول لك، كنا نظن أنكم متحفظون جدًا."


ضحك بخفة.  

"الشعور متبادل، لا تقلقي."


ابتسمت رغم نفسها.  

"سألت الملكة عن غابة الشتاء، وقالت لي إنها مليئة بالوحوش."


في تلك اللحظة، هبّت رياح جديدة ورفعت الثلج من الأرض،  

غطّتهما بطبقة بيضاء، واخترقت جسدها بالبرد.  

ارتجفت كلاريون، نصفًا من البرد، ونصفًا من فكرة أن الكوابيس قد تظهر من الظلال في أي لحظة.


كرر ميلوري بدهشة : "مليئة بالوحوش،" .  

"إذن لماذا وافقتِ أن تأتي معي إلى هنا إن كنتِ تظنين ذلك؟  

كان من الممكن أن تتعرضي لهجوم. أو أنني... أخذكِ بعيدًا."


"هل كنت ستفعل؟"  

سألتها بنبرة مرحة لم تستطع إخفاءها.  

"لا أقصد الإهانة، لكنك لست مخيفًا جدًا."


"لا؟"  

أمال رأسه نحوها، وعيناه تلمعان بشيء يشبه الشقاوة.  

"وكيف ترينني إذًا؟"


احمرّ وجهها، وقلبها بدأ يخفق بقوة.  

كم هو مزعج، فكّرت، أن نظرة واحدة منه تكفي لتربكها.  

"وقح، على الأقل."


بدا ميلوري مسرورًا، قال وهو يحاول ان يخفي إبتسامته : 

"أعتذر، جلالتك."


"مغفور لك،" قالتها كلاريون بنبرة رسمية، وهي ترفع ذقنها قليلًا.  

لكن بعد لحظة، تخلّت عن التظاهر وتنهدت.  

"الحقيقة أنني لطالما أردت المجيء إلى هنا.  

أستطيع رؤية هذا الجبل من غرفتي.  

كل ليلة، أنظر إليه، ودائمًا ما فكرت... لا أعلم.  

قد يبدو الأمر سخيفًا بالنسبة لك، لكنه بدا لي حزينًا.  أنا سعيدة لأنه ليس كذلك."


"ليس حزينًا على الإطلاق."


في الواقع، كانت قريبة جدًا من القرية، حتى أن صوت الضحك وأغاني العمل وصل إليها.  

شربت كلاريون تلك الأجواء بشغف.  

ومن بين الأشجار، رأت لمحات من نهر متجمّد.  

وهنا وهناك، كانت ترى جنيات يرقصن فوق سطحه...  

وبأدوات مربوطة بأقدامهن؟  

كان الأمر غريبًا جدًا وساحرًا تمامًا.  

سألت : "ماذا يفعلن؟"


قادها ميلوري بعيدًا عنهن، واضعًا يديه على كتفيها.  

"في وقت لاحق، ربما. لقد سقطتِ بما يكفي اليوم."


بدأت الأشجار تتباعد تدريجيًا، ثم فتحت الطريق إلى ساحة عند سفح الجبل.  

توقفت كلاريون فجأة عند حافة الأشجار.  

باب ضخم مصنوع بالكامل من الجليد كان ينتصب أمامهما.  

نُقش عليه رمز ندفة الثلج، وغُمر بضوء أزرق غريب ينبعث من خلفه.  

"هذه،" قال ميلوري، "هي قاعة الشتاء."


– "واو..."  

تنهدت كلاريون بدهشة.


قادها نحو الباب.  

أعمدة ضخمة من الجليد ارتفعت من الأرض، تحيط بالطريق المؤدي من الغابة إلى المدخل.  

وعندما وصلا أمامه، مدّت كلاريون يدها لتلمس لوح الجليد، لكن ميلوري أمسك بمعصمها وأوقفها.


وقبل أن تحتج، قال:  

"قبل أن ندخل، يجب أن أحذّرك من الحارس."  

توقفت كلاريون.  

كان قد ذكر الحارس من قبل، بنبرة توحي بالاحترام، وربما بشيء من الرهبة.


تردد للحظة، ثم اكتفى بالتحذير:  

"إنه غريب الأطوار."  

لم يكن هذا ما توقعت سماعه.  

قد يعني أي شيء، لكنها قررت ألا تفكر فيه كثيرًا.  

ستراه بنفسها قريبًا.


"حسنًا، فهمت."


راضٍ، وضع ميلوري يديه على الأبواب الضخمة.  

استجابت النقوش المعقدة للمسة يده؛ أضاءت بشدة حتى غمر وجهه باللون الأزرق.  

وبصوت أنين، انفتحت الأبواب.  

حاولت كلاريون ألا تلهث من الدهشة وهي تعبر العتبة.


كان المكان قصرًا مصنوعًا بالكامل من الجليد.  

السقف ارتفع عاليًا فوقهما، مدعومًا بأعمدة جليدية، تتدلّى منها بلورات ثلجية حادة.  

تماثيل من ندف الثلج معلّقة في الأعلى، تبعث نفس التوهج الأزرق الغريب.  

حتى الأرض كانت من الجليد الصلب.  

استغرق الأمر لحظة حتى تجد توازنها ولا تنزلق مع كل خطوة.  

وحولها، كانت الجدران تصطفّ عليها رفوف خشبية داكنة، مليئة بالكتب واللفائف والألواح.


"هذا مذهل."


بدا ميلوري متفاجئًا، لأنه ابتسم قليلًا.  

"هو كذلك."


صوته، رغم هدوئه، ارتدّ في أنحاء القاعة، عميقًا وغنيًا.  

كان الضوء ينعكس على وجهه، فاضطرت كلاريون أن تُشيح بنظرها حتى لا تحدّق فيه.


وفي تلك اللحظة، سقط ظل طويل على الأرض.  

كسر صوت رهيب الصمت: زمجرة.  

ثم صوت مخالب تُجرّ بقسوة فوق الجليد.


كابوس !

تعليقات

المشاركات الشائعة