أجنحة من ضوء النجوم ١٦

 بالقرب من موعد حفل التتويج، استدعت إلفينا كلاريون إلى مكتبها. أول ما خطر في بال كلاريون كان: لقد اكتشفت الأمر.


لم تكن تعرف كيف بالضبط، لكنها شعرت أنها كان يجب أن تتوقع انهيار كل شيء في النهاية. فميلوري لم يكن سرًا سهلًا، خاصة بعد تلك الليلة على الحدود.


ربما لاحظت إلفينا شرودها، فأرسلت من يتعقبها. أو ربما كان هناك شيء مختلف تمامًا في ملامحها.

 بدافع طائش، وقفت كلاريون أمام المرآة تتأمل وجهها، تبحث عن أثر لما حدث، وكأن الذنب قد انطبع على ملامحها. 

مرّرت إصبعها على شفتها السفلى، التي ما زالت متشققة ومؤلمة من أثر قبلته. 

كانت تتذكر كل لحظة وكأنه واقف أمامها الآن: برودة بشرته، دفء نظرته، وتوهج النجوم من حولهما. لم يتغير شيء حقًا، ومع ذلك كانت تشعر وكأنها غارقة في بحر من المشاعر.


كان الأمر يوشك أن يذهب بعقلها، لكثرة ما فكرت فيه. كانت تشعر بانقباض في معدتها كلما خطر على بالها، وكأنها تسقط فجأة من ارتفاع شاهق. قلبها يرتجف لأبسط سبب. بالكاد تناولت شيئًا منذ أن افترقا، فقد كانت مشاعرها متضاربة بين التوتر والحماس، أو... أيًا كان ذلك الشعور. لم تكن تريد أن تحلل الأمر كثيرًا، لأنه رغم ما يثيره فيها من شغف، كان يخيفها أيضًا.


قررت ألا تراه حتى تُصلح ملابسها الشتوية؛ ظنّت أن بعض المسافة ستعيد إليها رشدها. لكن بترا سلّمتها المعطف المُصلح قبل ساعة فقط، ولم يعد إليها أي قدر من الحكمة.


إلا إذا... فكّرت، ربما ندم على ما حدث.


فبالتأكيد، لا بد أنه ندم. ما حدث كان اندفاعيًا وغير حكيم، خاصة في ظل الأخطار التي تهدد "مملكة الجنيات". كلاهما انجرف مع اللحظة، والليلة ستواجه كلاريون الحقيقة المُرّة: لا يمكن أن يكون بينهما شيء. يا إلهي، ماذا ستفعل الآن...؟


"جلالتك؟" سألتها أرتميس. "هل كل شيء على ما يرام؟"


انتفضت كلاريون فجأة، فاصطدمت ركبتها بأسفل المكتب. تأوهت من الألم، ثم التفتت إلى حارستها.

 كانت أرتميس واقفة عند باب غرفة النوم، وعلى وجهها تعبير غريب. حينها فقط تذكرت كلاريون أن أرتميس أخبرتها قبل دقائق باستدعاء إلفينا لها.


"نعم، بالطبع!" ابتسمت كلاريون ابتسامة مشرقة، فقط لتخفي إحراجها. "لماذا تسألين؟"


بدت أرتميس وكأنها تبحث عن طريقة مهذبة للرد. وبعد لحظة قالت: "توهّجك يا جلالتك..."


"توهّجي؟" نظرت كلاريون إلى نفسها. والآن بعد أن نبهتها أرتميس، لاحظت أن توهّجها كان أقوى من المعتاد، بل مائلًا إلى الوردي. وهل زادت كيمة الغبار الذي تنساب من جانحيها ؟ بدأت تفهم الآن لماذا كانت إلفينا تحذر دائمًا من الانجراف خلف المشاعر.


"وأيضًا..." قالت أرتميس، وكأنها على وشك إيصال خبر خطير، "شجرة غبار الجنيات بدأت تزهر."


وقفت كلاريون وتوجهت نحو أبواب الشرفة الزجاجية. وبالفعل، كانت الأغصان بالخارج مغطاة بأزهار "لا تنساني" وزهور بيضاء ناعمة. حدّقت بها بامتعاض. تلك الشجرة كانت جريئة أكثر مما ينبغي أحيانًا.


كلاريون : "لا داعي للقلق."

 سحبت الستائر، محاولة حجب ذلك المنظر. "كنت فقط شاردة في أفكاري."


أومأت أرتميس، وإن بدا عليها عدم الاقتناع. "هل أرافقك إلى الملكة؟"


لم يكن هناك جدوى من التهرب، لكنها لم تكن متحمسة لسماع ما ستقوله إلفينا. "ما رأيك، ماذا تريد مني؟"


"أعتقد أنها تريد مناقشة تقارير الكشافة"، أجابتها أرتميس، بنبرة فيها شيء من الحيرة. "أحد مساعديك الموهوبين سلّمها لكِ سابقًا. وقد راجعتِها..." توقفت، وكأنها غير واثقة تمامًا من هذه النقطة الأخيرة.


– بالطبع راجعتها.


وفقًا لتقارير الكشافة، لم تتوقف الكوابيس عن مهاجمة المكان. ليلة البارحة، طاردت كابوس على شكل قطة مجموعة كاملة من الفئران خارج "تينكرز نوك"، ولم يتبقَ من الإسطبلات والعربات سوى أنقاض. وقبلها بيومين، اجتاح كابوس على شكل سمكة ضخمة نهر المواهب، وكان كبيرًا بما يكفي لابتلاع انعكاس القمر الكامل، مما أدى إلى جرف عدة بيوت للمواهب. الجميع حاول أن يبدو متماسكًا، لكن كلاريون شعرت بالقلق ينتشر حتى في وضح النهار.


لكنها لم تكن تأمل حقًا أن إلفينا تريد رأيها.


"حسنًا"، قالت كلاريون بتنهيدة استسلام، "لنذهب."


وصلت إلى باب مكتب إلفينا،  تنفست بعمق، ثم طرقت بخفة ودخلت ،و تبعتها أرتميس  ، لتمشيا بين صفوف الصور الملكية، نحو ضوء الشمس الغامر في فترة ما بعد الظهيرة.

كانت إلفينا تجلس على أريكة طويلة، تقرأ وثيقة بين يديها. اليوم، تخلّت عن تاجها، وتركت شعرها ينسدل على كتفيها في موجات ناعمة ومسترخية. رأت كلاريون خصلات بيضاء رقيقة تتلألأ كضوء النجوم البارد. بدت إلفينا أكثر هدوءًا مما رأتها منذ زمن، وشعرت كلاريون بشيء من المودة يتسلل إليها، وكأن جزءًا من التوتر قد تلاشى. لم تدرك حقًا كم كان التاج ثقيلًا حتى هذه اللحظة.


"هل كنتِ تريدين رؤيتي؟"


وضعت إلفينا الوثيقة جانبًا، ثم ابتسمت عندما رفعت نظرها. "كلاريون."


متى كانت آخر مرة استُقبلت فيها بهذه الحفاوة؟ جلست كلاريون على الكرسي المقابل، تحاول ألا تُظهر دهشتها. يبدو أن سرّها ما زال في مأمن، وأن أورليا لم تخبر الملكة عن الموعد الذي فوّته.


الحمد لله.


كان هناك إبريق شاي يتصاعد منه البخار على الطاولة بينهما، وبجانبه مرطبان صغير من العسل.

 انحنت إلفينا لتصب لهما كوبين، ثم ناولت أحدهما لكلاريون. "أعتذر عن انشغالي الشديد مؤخرًا"، قالت بلطف. "كنت سأستدعيكِ في وقت أقرب."


سكبت كلاريون بعض العسل في كوبها باستخدام مغرفة خشبية، واستنشقت رائحة زهر الجزر الترابية. "لا داعي للاعتذار. كلانا كان مشغولًا."


ارتشفت الشاي بسرعة لتخفي تعبير وجهها، وهي متأكدة أن وجهها قد احمرّ. لم تكن تكذب تمامًا؛ فقد كانت منشغلة فعلًا بالتحضيرات لحفل التتويج، لكنها قضت معظم وقتها قلقة من أنها لا تستطيع فعل الكثير حتى تُصلح بترا معطفها.


وبعد لحظة صمت قصيرة، وضعت إلفينا كوبها وقالت: "لديّ خبر سار."


انتبهت كلاريون. أخيرًا، خبر جيد وسط كل هذا التوتر. "ما هو؟"


"خطتي أصبحت شبه جاهزة للتنفيذ."


ارتكبت كلاريون خطأً فادحًا بشرب رشفة أخرى من الشاي بعد أن سألت، فكادت أن تختنق بها. "حقًا؟"


"استغرق الأمر بعض التجارب والأخطاء"، تابعت إلفينا. "الغبار الذي يربط عوالمنا قوي، لكن حتى أقوى الروابط يمكن قطعها بالأداة المناسبة والطريقة الصحيحة."


شعرت كلاريون بقشعريرة. "وما هي هذه الأداة؟"


"لا يمكن لأي أداة بسيطة أن تفعل ذلك، وغباري وحده لا يكفي."


نهضت إلفينا من مكانها وتوجهت إلى مكتبها. لم تكن كلاريون قد لاحظته من قبل، لكن على وسادة صغيرة كان هناك جسم معدني أنيق. وعندما حملته إلفينا، أدركت كلاريون ما هو: مقبض سيف بلا نصل. 

كان الجزء الخلفي منه محفورًا بدقة، على شكل أغصان متشابكة تتفتح منها أوراق، لأن بترا – بالطبع – لا يمكن أن تصنع شيئًا دون أن تحوله إلى عمل فني.

 وفي قلب المقبض، كان هناك حجر الشمس، سطحه الزجاجي يسبح بضوء برتقالي، وإذا دققت النظر، سترى شعلة مشتعلة بداخله. 

لم ترَ كلاريون حجرًا مثله من قبل، سوى حجر القمر الذي يُستخدم لتحويل ضوء القمر إلى غبار الجنيات الأزرق.


"لكن في يوم الانقلاب الصيفي، وهو يوم بالغ الأهمية للمواهب الحاكمة، ستكون قوتنا في ذروتها. بترا صنعت هذا ليكون قناة لغبارنا."

 أضاء الحجر بضوء ذهبي من غبار إلفينا، وظهر خيط من ضوء النجوم النقي.


"إذا استخدمتِ هذا السيف في يوم الانقلاب الصيفي، ستكونين قوية بما يكفي لقطع الجسور. وبعدها، لن يتمكن أحد من عبور الحدود بين الشتاء والفصول الدافئة."


بترا فعلتها. بالطبع فعلتها.


في العادة، كانت كلاريون ستشعر بالفخر بذكاء صديقتها وقدرتها العجيبة على حل المشاكل المستعصية. فهذا ما كانت بترا تطمح إليه دائمًا: أن يكون لاختراعاتها قيمة حقيقية. ومع ذلك، لم تشعر كلاريون إلا بالذعر من نتيجة ما فعلته بترا.


لكنها انتبهت فجأة إلى كلمات إلفينا تحديدًا.


تحت وهج النصل، بدت ملامح إلفينا شاحبة وصلبة. قالت : "يجب أن تكوني أنتِ من يستخدمه. سيكون بداية قوية لحكمك، وسيمنح شعبك الثقة. سيرون أنكِ ضمنتِ سلامة مملكة الجنيات من الكوابيس إلى الأبد."


فكّرت كلاريون ، لكن ليس كل مملكة الجنيات !


لم تستطع الرد. لم تستطع حتى تخيّل شيء بهذا السوء – سيف قادر على تمزيق نسيج مملكة الجنيات نفسه. رغم الأخطار التي تواجه الفصول الدافئة، لا يمكن أن يكون هذا هو الحل. ربما كانت ستتراجع في الماضي، وربما كانت ستوافق. لكن بعد كل ما مرت به مع ميلوري، وبعد قربهما، لم تستطع أن تصمت أمام خطة بهذا القدر من الخطأ.

 "لا يمكن أن يكون هذا هو الطريق الوحيد."


خفت وهج السيف النجمي، وبقيت إلفينا تمسك بمقبض فارغ. ومع اختفاء الضوء من عينيها، أصبحت ملامحها غامضة، بل باردة.


"أنتِ غير راضية ؟ "


نهضت كلاريون بسرعة، حتى أن الكرسي أصدر صوتًا حادًا على الأرضية. وإن كانت إلفينا قد تفاجأت من رد الفعل، فإنها لم تُظهر ذلك.

كلاريون :  "بالطبع! لا أفهم كيف ترضين بهذا القرار. لقد علمتِني كيف أحكم، وتعرفين جيدًا أننا نعمل على إيصال كل فصل إلى شبه الجزيرة في موعده. هذا القرار يخالف النظام الطبيعي للأشياء."


إن كانت قد تعلمت شيئًا في الأسابيع الماضية، فهو أن كل فصل له أهميته. لم يشاركها ميلوري حكمة الشتاء كما فعل الوزراء الآخرون، لكنه لم يكن بحاجة لذلك. لقد رأتها بنفسها. الشتاء علّمها كيف تصمد، كيف تتمسك بالأمل، حتى في أطول الليالي وأقساها.


نظرت إليها إلفينا بلا تعبير. "ربما كنتِ محقة عندما واجهتِني سابقًا. لم أعلّمك كل ما تحتاجين إليه."


هدوءها المفاجئ جعل غضب كلاريون يخفت. فسألت بحذر: "لا؟"


"قلتُ لكِ من قبل إن الشتاء مكتفٍ بذاته. من الأفضل أن يبقى كذلك." وضعت إلفينا المقبض على مكتبها، وشبكت يديها ثم تابعت :  "هناك قصة تتناقلها الملكات عبر الأجيال. حان الوقت لأرويها لكِ."


جلست كلاريون ببطء على كرسيها من جديد. رغم غضبها، لم تستطع مقاومة فضولها.

 بدأ كتفا إلفينا بالارتخاء، وكأنها استعادت زمام الحديث.


"كان هناك زمن، رغم صعوبة تصديقه، تعايشت فيه الفصول الدافئة وغابات الشتاء في انسجام." تغير نبرة صوت إلفينا، كما تفعل دائمًا حين تروي قصة من تاريخ مملكة الجنيات : "بالطبع، كان ذلك منذ زمن بعيد، زمن لا أحد ممن يعيش الآن يتذكره. عندما أدركت الملكة الأولى لمملكة الجنيات مدى خطورة الكوابيس، رتّبت لسجنها في أعماق غابة الشتاء، وأسندت إلى حارس الغابة مهمة مراقبة ذلك السجن. لفترة من الزمن، ساد السلام. لكن مع مرور الوقت، بدأ الحارس يشعر بالضيق من مهمته.

فجمع كشّافيه ونظّم تمردًا ضد الملكة. " 


"ماذا؟" قاطعتها كلاريون بدهشة. "لكن لماذا يفعل شيئًا كهذا؟"


ابتسمت إلفينا ابتسامة خفيفة، وقد شعرت أن كلاريون أصبحت منصتة تمامًا.

 "للأسف، تفاصيل الصراع ضاعت مع الزمن. ربما شعر بالملل، أو ربما ظن أنه يستحق حكم مملكة الحنيات بأكملها. الملكات لديهن الكثير من المسؤوليات والسلطات، وربما لم يكن راضيًا عن دوره المحدود في أرض قاحلة."


لكن أيًّا من هذه التفسيرات لم يُقنع كلاريون. لا يمكن أن تكون الممالك قد تمزقت بسبب الملل أو الطموح. لم تستطع تصديق ذلك، ليس بعد أن زارت الشتاء، وليس بعد أن أحبّته. كلمة "قاحلة" لا تصف الشتاء أبدًا. لقد كان جميلًا ومليئًا بالحياة، فصلًا يستحق الفخر.


"لكن لديّ نظرية خاصة بي"، تابعت إلفينا. "أعتقد أن الكوابيس تؤثر على جنيات الشتاء."


توقفت، وكأن كلماتها كانت سيفًا معلقًا فوق رؤوسهم. تسللت تلك الفكرة إلى داخل كلاريون كبرودة الشتاء، تملأها بشعور لاذع ومقلق. 

"تؤثر؟"


"لقد رأيتِ كيف تتسلل الكوابيس إلى عقل الجنية، كيف تغرس مخالبها فيه. من قال إنها لا تستطيع فعل ذلك حتى في اليقظة؟" 

مرّرت إلفينا يديها على تنورتها وتابعت :  "ثم، تخيّلي تأثير العيش بجانبها لسنوات. إذا كان السجن قد ضعف بما يكفي ليسمح لها بالخروج، فربما تسربت قوتها أيضًا."


شعرت كلاريون بالغثيان من هذا الاحتمال، ومن فكرة أن كل من تعرفهم قد يكونون تحت رحمة وحوش. 

"أنتِ تعتقدين أن الكوابيس هي سبب خيانة الحارس ؟ "


"هذا ممكن، نعم."

 اقتربت إلفينا من كلاريون بخطوات بطيئة ومدروسة، ثم جلست على طرف الأريكة. والآن بعد أن أصبحا على مستوى النظر، شعرت كلاريون بثقل كلماتها وكأنه لا يمكن الهروب منه. 

"إنه أمر مؤسف. يعني أن حارس غابة الشتاء لا يمكن الوثوق به تمامًا."


رفضت كلاريون تصديق ذلك. غرست أصابعها في ركبتيها، فقط كي لا تنهض وتغادر.

 "لماذا لم تخبريني بهذا من قبل؟"


"لم أرد أن أُثقل عليكِ بالكثير من المعلومات دفعة واحدة، خاصة وأنتِ بالفعل قلقة بشأن جنيات الشتاء."

 شعرت كلاريون وكأن كلماتها صفعة على وجهها. كانت تأكيدًا لمخاوفها: إلفينا لا ترى أنها قادرة على تحمّل الحقيقة أو أداء واجبها. 

انحنت إلفينا ووضعت يدها على ذراع كلاريون. كانت يدها ساخنة بشكل غريب، وكأن كل إصبع منها يحمل نارًا.

 "لكن الآن، تعرفين كل ما أعرفه. وفي يوم تتويجك، ستؤدين آخر واجبات الملكة: حماية الفصول الدافئة من تأثير الكوابيس."


لكن جرأة كلاريون، التي خفتت للحظة تحت وطأة شكوكها القديمة، عادت بقوة. لم تستطع أن تسمع كلمة أخرى من هذا الكلام. 

"إذا كان هذا صحيحًا، فعلينا أن نساعد غابة الشتاء، لا أن نقطعها!"

"لسنا في موقع يسمح لنا بمساعدتهم." قالتها إلفينا بنبرة حاسمة لا تحتمل الجدل ، تابعت "الأمر خطير جدًا. لا نعرف كيف نقاتلهم."


"وتريدين مني أن أتخلى عن جنيات الشتاء؟"

 ارتجف صوت كلاريون. "أن أسمح للكوابيس بتدمير منازلهم؟ أن تلتهمهم واحدًا تلو الآخر؟ هذا ليس منطقًا، إلفينا. هذا وحشي. ولن أفعله."


حدّقت بها إلفينا بدهشة واضحة. وعندما استعادت رباطة جأشها، شعرت كلاريون بالإعجاب من سرعة استعادتها لهيبتها الملكية، وكأنها ترتديها كدرع، وكيف جعلت من رداء بسيط زيًا ملكيًا كاملًا. وعندما تحدثت مجددًا، كان صوتها باردًا كالصقيع. 

"هذا من أجل المصلحة العامة. أعلم أنك تهتمين بجنيات غابة الشتاء، لكن عليكِ أن تخرجيهم من تفكيرك. لقد نجوا وحدهم لفترة طويلة، في أقسى الظروف. وسينجون هذه المرة أيضًا."


اكلت كلاريون لسانها واسرت لنفسها " لكنهم لا يجب أن يُتركوا وحدهم ! "


ظنّت إلفينا أن صمتها يعني الموافقة، فتنهدت وكأنها تحاول جمع ما تبقى من صبرها.

 "ستفهمين لاحقًا، كلاريون. طيبتك نعمة، لكنها أيضًا عبء ثقيل. لا يمكن للمرء أن يتحمل كل هذا الألم من أجل الآخرين."


"سأتذكر ذلك." ردّت كلاريون بهدوء. "والآن، إن سمحتِ لي... أشعر فجأة أنني لست بخير."


لم تنتظر رد إلفينا، بل غادرت مكتبها بسرعة.

 وعندما وصلت إلى غرفتها، أخرجت الصندوق الذي أرسلته لها بترا، من تحت السرير حيث كانت تخفيه. فكّت الشريط المعقود بعناية، ثم نزعت الغطاء. في الداخل كان معطفها: نظيفًا وسليمًا تمامًا. لم تستطع كلاريون إلا أن تضمه إلى صدرها. لم تهتم كيف بدا شكلها، وهي راكعة على الأرض ووجهها مدفون في القبعة المبطنة بالفرو. لم يكن هناك أحد ليراها على أي حال.


وبعد أن هدأت قليلاً، حاولت جاهدة أن ترتب أفكارها المتشابكة. لم يعد يهم إن كانت كلمات إلفينا صحيحة أم لا. كل ما تعرفه هو أن إلفينا وضعت أمامها مشكلة تكاد تكون أكبر من قدرتها على الاحتمال.


هي وميلوري أمامهما وقت محدود حتى يوم الانقلاب الصيفي لإغلاق سجن الكوابيس، وإلا فإن إلفينا ستحكم على غابة الشتاء بالعزلة الأبدية.

تعليقات

المشاركات الشائعة