أجنحة من ضوء النجوم ٢٤

 كانت كلاريون تتوقع ارتطاماً بالماء، اندفاعاً بارداً يحيط بها. لكن ما إن انزلقت تحت الجليد، حتى لم تجد سوى فراغٍ مفتوح، وظلامٍ يبتلعها. تباطأت سقطتها شيئاً فشيئاً… حتى توقفت تماماً. ورغم أن جناحيها كانا مشدودين تحت معطفها، وجدت نفسها عالقة بين السماء والأعماق ، معلّقة في عتمة كاملة. 

شعور بالقشعريرة تسلّل عبر بشرتها، كأن عيوناً مفترسة تترصّدها من بين الأشجار الخفية.


كان هناك شيء ما يراقبها.


كظمت ارتجافة تسري في جسدها، ورفعت رأسها إلى الأعلى. من هناك، بدا لها الشرخ الجليدي الذي عبرت من خلاله، وخلفه خيوط ضوءٍ باهتة تتسلل كالرماح الضبابية. 

كانت أشعة الشمس تخترق الجليد من فوق، فترسم حولها أنماطاً غريبة، فاتنة بجمالها. غير أن العالم هناك بدا ضبابياً، بعيداً، يستحيل بلوغه. وللحظةٍ قصيرة، كادت أن تفهم لماذا تسعى الكوابيس إلى الهروب بهذا القدر من اليأس. فهنا، في الأعماق، لم يكن هناك شيء على الإطلاق: لا ضوء، ولا صوت، ولا رائحة. فراغ مروّع يبعث في النفس قلقاً لا يُحتمل.


ثم جاء الصوت… قطرة… قطرة… قطرة.


توقف نَفَس كلاريون في حلقها. كان الصوت يشبه كثيراً… لكنها هزّت رأسها بعنف لتطرد الفكرة، ثم همست بصوتٍ مرتجف:

"ـ من هناك؟"


لكن لم يأتِها جواب، سوى: قطرة… قطرة… قطرة.


ارتدّ الصدى في أعماق عقلها، صاخباً حدّ الجنون. ومع كل قطرة، كان شعور بالذنب والرعب يتصاعد في حلقها كالقيء. استدارت نحو مصدر الصوت، واستدعت قوّتها.


اخدت تجمّع نور النجوم بين كفّيها، لكن ستار الظلال لم ينقشع. بل ازداد ثِقلاً، ضغطاً، وشرّاً لا يُطاق. ومع ذلك، وسط الظلام، لمحت خيطاً رفيعاً من البياض يتلألأ.


 ميلوري !


لم تلمح منه سوى خصلة شعره المتمايلة خلفه، وهو يتراجع بخطوات بطيئة مترددة. بدا لها المشهد مألوفاً بشكل موجع، تماماً كما رأته في الليلة الماضية حين كان يجرّ نفسه بصعوبة صاعداً نحو عيادة المعالجين.


صاحت : "ميلوري؟" ، وصداها يتردد بلا نهاية في الظلام.


لكنه لم يتعرف إليها.


فجأة، لامست قدماها أرضاً صلبة، فترنّحت قليلاً قبل أن تستعيد توازنها. لم يظهر شيء واضح تحتها، لكن مع كل خطوة، كان السواد يتموّج تحت قدميها، كأنها تمشي فوق سطح بركة ساكنة، مظلمة.


بدأت تركض ببطء، ثم أسرعت. لتلحق به.

ماذا يفعل هنا؟ وإلى أين يذهب؟


ـ"ميلوري!"


ركضت خلفه. لكن مهما زادت سرعتها، ومهما ابتعدت، لم يبدُ أنها تقترب منه أبداً. كان الظلام من حولهما يتلوى، يتدفق، وتزحف منه ظلال تتحرك وتغلق عليهما.


تبدّل ضغط الهواء. شيء ما اندفع نحوها.


انخفضت كلاريون فجأة، بالكاد تفادت فكين أطبقا على الفراغ حيث كان رأسها قبل لحظة. فأطلقت شعاعاً من نور النجوم من كفيها. ما كان أمامها تراجع، زفر بغضب وهمس بهسيس حاد.


قلبها بدا يخفق بعنف حتى شعرت به في حلقها، ويداها المرتجفتان تتوهجان . كيف لها أن تقاتل خصوماً بالكاد تراهم عينيها؟ لكنها لم تملك رفاهية التوقف. لا يمكن أن تفقد ميلوري في مكان كهذا.


رفعت بصرها، فرأته واقفاً على مقربة، يحدّق بها بعينيه الرماديتين النافذتين. اندفعت نحوه، وكلما اقتربت أكثر، بدأ العالم من حولها يتشكّل في ألوان رمادية متماوجة.


ظهرت ظلال أشجار من بين الظلام، والعشب أخذ ينبت متمايلاً في ريح لا تشعر بها. خطواتها كانت تعرف الطريق جيداً، تعرف العقبات، كما لو أنها حلمت بهذا المكان مرات كثيرة من قبل.


لم تكن هذه ارض الشتاء بعد الآن.


التفت ميلوري، وواصل السير بعزم، غير آبه بما قد تفعله به الحرارة… أو بالأحرى، بما كانت قد فعلته به فعلاً.

لا، لن أدع هذا يحدث مجدداً.


تجمّعت غيوم ثقيلة في السماء، يحيط بها بريق بنفسجي مشؤوم. كان الشعور تماماً مثل اللحظة التي تسبق صاعقة برق، أو هجوم كابوس. شعر رقبتها إنتصب، وجلدها قشعر بقلق غامض . ليفرغ عقلها من كل فكرة، ولم يبقَ فيه سوى إصرار: عليّ أن أوقفه.


اشتد ثقل الهواء حتى غاص في رئتيها كالحجر. رائحته عفنة… خليط كريه من العفن والنباتات المتحللة، كاد أن يقلب معدتها. 

أدركت الآن أين هي: الامتداد الأخير من الغابة قبل أن تصل إلى النهر الذي يفصل شجرة غبار الجنيات عن فصل الصيف. ومع كل خطوة إلى الأمام، كان يتهيأ لها أنها تسمع صرخات تتعالى.


انفجرت أشواك متشابكة من الأرض، لتقطع الطريق أمام كلاريون.

 دفعت بجسدها إلى الأمام، لكنها تعثرت بجذر مقلوب، وتهوت على الأرض، كاشطة جلد يديها.

 انسكب الدم من راحتَيها، واخد يتساقط على معصميها، لكن الألم كان بعيداً، بالكاد يصل إليها.


رفعت رأسها، وما رأته جمد الدم في عروقها، واقتلع أنفاسها من صدرها. غشاها رعب بارد لا يوصف.


لقد كانت شجرة غبار الجنيات تتعفّن… وتحتضر.


سائل أسود لزج كان يتقطر من أطراف الأغصان، وأوراق الشجرة غدت كلها مبللة بالعفن، زلقة كأنها تحتضر. كان تعفّنٌ خبيث قد أخذ ينهش جانبي الجذع، يغلي ويطفح في بطء. لكن الأسوأ لم يكن ذلك، بل ما أنبتته من نمو ضعيف: تجمعات هزيلة من أزاليّات ذابلة وورود سوداء بالكاد استطاعت أن تنفتح.


سمعت صوت يقول بيأس "خطر "


واخر يهمس " ساعديني."


آبار الكوابيس بدأت تتصاعد من الأرض الإسفنجية عند الجذور، متجهة نحو بئر غبار الجان. 

كان كل شيء في عالم الجنيات معلقاً على بقاء تلك الشجرة. فبدونها… لن يكون هناك غبار ، ولا بيت، ولا مكان تهبط فيه الجنيات الوليدات. سيختفي وادي الجنيات، ومع غياب جنيات الفصول ، ماذا سيصير بالقارة بأسرها؟


"لا!" شهقت كلاريون. "لا، لا، لا!"


اندفعت عبر المياه الضحلة نحو النهر بجنون يائس، والعرق يتصبب تحت معطفها الشتوي. 

لماذا ترتدي معطفاً شتوياً أصلاً؟

 

وعندما بلغت الجانب الآخر، قبضت على أول جنية صادفتها من كتفها:


 "ماذا حدث؟"


انتزعت الجنية نفسها منها باشمئزاز، وعلى وجهها تقزز لم تعرفه منه من قبل… كان في عينيها شيء لم تواجهه أبداً: كراهية. 

انكمشت ملامحها في قبح غاضب، وعيناه تلتمعان ببريق بارد.


وقع المشهد عليها كصاعقة هزّت أعماقها.


بصقت بكلمات في وجهها : "أنتِ من فعل هذا!" .


أنا؟


تراجعت مبتعده، فاستدارت لتجد مجموعة صغيرة قد احتشدت خلفها. كانوا متقاربين، يتابعون في رعب قلب مملكتهم وهو يتعفن أمامهم.

 لكن عيونهم كانت مثبتة عليها، كلها تمتلئ بالاشمئزاز. همسات خافتة، مسمومة، أخذت تنتشر بينهم. استطاعت أن تميّز بعض الكلمات:


ـباردة… قاسية… لا تستحق.


خطأ… خطأ… خطأ.


ارتدّ الصدى في رأسها كطعنة، وكأنها تأكيد لكل أسوأ مخاوفها.


لا… ما زال بإمكاني فعل شيء. جئت إلى هنا لأحميهم… لأخلّصهم.


اندفعت بجنون نحو جذع شجرة غبار الجنيات.

 كانت الجنيات مبعثرة حول الجذور، ساكنات كالجثث تحت سحر الكوابيس. بعضهن بدأ يغرق في الأرض المتعفنة. وهناك، وسط بقع العفن الأسود، لمحت شعر بيترا الأحمر مبعثراً.


ـ"بيترا!"


كانت الأرض تغلي كالوحل، تبتلعها في الأعماق. غاصت كلاريون بيديها، رغم الرائحة الخانقة، وجذبتها بكل قوتها.


 "بيترا… أرجوك، استيقظي… أنا آسفة."


اتسعت عينا بيترا، فشهقت كلاريون ببكاء مختنق. على الأقل، كان هناك بعض الرحمة في هذا العالم. بارقة صغيرة من الخير.


لكن بيترا، وهي ترفع رأسها ببطء، لم تبتسم. بل فتحت عينيها على نظرة صلبة، وفي صوتها سمّ يتقطر:


"أنتِ… أنتِ من فعل بي هذا. رفضتِ أن تصغي إليّ حين كان الأمر مهماً. أنتِ أنانية… إلى أبعد حد."


ارتدّت كلاريون إلى الوراء بسرعة، فاصطدمت بساقي شخصٍ آخر. رفعت رأسها ببطء، لتجد نفسها وجهاً لوجه أمام ملامح إلفينا الباردة الخالية من أي تعبير.


 "أنتِ خيبة أمل الجميع." قالتها بشفاه مشدودة بازدراء. "لماذا أرسلتك النجوم؟"


 "لا أعلم…" همست وهي تنكمش على نفسها. "لا أعلم."


تمنّت لو أن النجوم لم تفعل. فثِقل التاج كان دوماً أكبر من أن يُحتمل. كيف توهّمت أنها قادرة على حمله؟ أن تولد بموهبة الحكم لم يكن إلا خطأً فادحاً. ومهما فعلت، لن يتحسن شيء. لقد كان مصيرها منذ البداية أن ينتهي الامر هكذا:


وادي الجنيات مدمّراً. وهي وحيدة، منبوذة.


اندفع الظلام من النهر، يطوّقها مثل ضباب خانق.

 ما جدوى المقاومة إذن؟


 "كلاريون!"


عرفت الصوت فوراً… لكن من أين جاء؟ حاولت أن ترفع رأسها، لكنه كان ثقيلاً كالرصاص، وجفناها أثقل. كل ما رأته هو وجوه قاسية، لوجوهٍ أحبتها يوماً… ثم كرهتها بأشد المرارة. على الأقل كانوا يتلاشون ببطء، فيما الظلام يطبق عليها. لو استسلمت، لكان بوسعها أن تغفو… إلى الأبد.


ـ"كلاريون." الصوت صار أكثر توتراً، ممزوجاً برجفة يائسة. "هذا ليس حقيقياً. عليكِ أن تستيقظي."


همست بدهشة : "ميلوري…" ما الذي يفعله هنا؟

لم يكن بإمكانه أن يتواجد في مواسم الصيف. ومع ذلك… ألم تره منذ لحظات قليلة؟


لا… أدركت الحقيقة. لم تكن في الصيف أبداً. كانت تحت الجليد، في أعماق غابة الشتاء. الضباب قد ابتلعها تماماً، يخنق أنفاسها حتى بالكاد استطاعت أن تتنفس. ولو ركزت أكثر، لرأت بريق الضوء البنفسجي لسحر الكوابيس يتخلل المكان. لم يكن سوى وهم. مثل باقي الجنيات اللواتي علقن في أحلامهن، أُلقيت هي أيضاً في عالم الكوابيس.


عضّت باطن شفتيها بقوة، حتى باغتها الألم فأيقظها من الغشاوة. تلاشى الكابوس المروّع لوادي الجنيات، ولم يبقَ إلا العتمة الملتهمة تحت البحيرة من جديد.


تحدّت كلاريون اختناقها، واستجمعت قوتها. فانفجر من جسدها نور النجوم، متوهجاً كأشعة تمزق للظلام، يبعثره كا قماشاً يتقطع إرباً. 

سقطت على ركبتيها، وارتطمت بالماء الصافي غير المرئي تحتها. و اصطكت أسنانها من شدة الوقع. لكن الضوء المنعكس عن الجليد فوق رأسها كشف لها الحقيقة: دخان بنفسجي مريض، يتصاعد ملتفاً من منخري مخلوق هائل.

 شهقت أنفاسها المرتجفة وتراجعت خطوة.


هسيس عميق اخترق الصمت. عيون زاحفة، عاتية، انفتحت وحدّقت فيها بثأرٍ صامت. عندها فقط رأت ما كان يكمُن في أعمق زوايا السجن.


ملكة الكوابيس .


تنين.


لم تستوعب كلاريون كيف لمثل هذا الكائن أن يوجد أصلاً. ولم تعرف كيف يمكنها أن تواجهه.

 تجمدت في مكانها، و الرعب يشل أوصالها. و يداها ترتجفان بجنون، بدت الشرارة الصغيرة من نور النجوم بداخلها ضئيلة على نحو مروّع أمام هذا الجبّار. لم يكن الأمر مجرد خوف غريزي… كان شيئاً أعظم: ـاليأس.


فتح التنين فمه كاشفاً عن صفوف لا تنتهي من أسنان حادّة مسنّنة، وانبثق من بينهما ضوء كبريتي أصفر، لم يستغرق الأمر سوى لحظة لتدرك أنه كان كرة من نار تستعد للانفجار.


ـ"كلاريون!"


ارتجفت كلاريون حين سمعت صوت ميلوري يصدح من بعيد. رفعت بصرها، فرأته يضرب بكل قوته على الجليد من فوقها. لم تستطع أن ترى ملامحه بوضوح، لكن عينيه كانتا متوهجتين بإيمان يائس، يمدها بقوة لم تملكها قبل لحظة.


 "لا تنسي ما وعدتِني به!"


كلماته اخترقت سكونها، فانتزع منها ابتسامة باهتة، شبه ضاحكة. كان ذلك حلماً جميلاً… حلماً يستحق القتال لأجله.


لا، لا يمكنها أن تتراجع الآن.


في داخلها ، كانت تحمل أحلام آلاف الأشخاص الذين شهدوا سقوط نجمها في السماء. للحظة قصيرة، شعروا بالأمل، أو باليأس العميق، حتى أنهم تخلوا عن شكوكهم وألقوا بأمنياتهم إليها. ما دامت تحمل تلك الأمنيات، فلن تستسلم لليأس أبداً.


ومع تصاعد اللهيب من حنجرة التنين، شدّت كلاريون كتفيها وواجهته بثبات. كانت هي ملكة وادي الجنيات. أما هذا الوحش؟ فلم يكن سوى خوفٍ طفولي، تُرك ليتغذى وينمو حتى صار وحشاً.


لكن في نور النهار القاسي… لم يكن شيئاً على الإطلاق.


اشتعلت كلاريون مثل النجم: لا ينطفئ ولا يرحم.

 انفجر نور ذهبي من جسدها، غامرٌ ومضيء، ملأ السجن بأكمله. عوى التنين بغضب، بينما خيوط الرعب والشك الذي صاغها بدأت تتفكك.

 انحلّت خيوط الظلام واحدة تلو الأخ

رى، متحوّلة إلى رماد يتناثر في الهواء.


وفي النهاية، لم يبقَ سوى هذا: ذرات متلألئة من نور النجوم، تملأ الفراغ، وتحيله إلى وهجٍ لا متناهٍ… كاتساع السماء المضيئة بالنجوم.



تعليقات

المشاركات الشائعة