أجنحة من ضوء النجوم ٢٧ الأخير
حلَّ يوم التتويج، وكان ظهيرة صيفية مشرقة.
انتظرت كلاريون خلف ساحات الاحتفال، مخفية وسط شجيرات التوت البري.
غضتها الأغصان المثقلة بالثمار الحمراء والزهور الصغيرة المتدلية ، فيما ارتفعت أصوات الحشود المترقبة فوق خرير النهر…
ومع خفقان قلبها المتسارع. زاد شوقها مع كل لحظة، خاصةً أنها لم تستطع رؤية شيء من بين الأوراق الكثيفة.
قالت أرتيميس: "حان الوقت، جلالتك… إنهم بانتظارك."
استدارت كلاريون نحو صوتها ، فإذ بها تقف بجوارها، لا يُعلن حضورها سوى طرْقات عصاها على الأرض. ابتسمت بقلق :
"قد تكون هذه آخر مرة تناديني فيها بهذا اللقب… سأحتاج وقتًا لأتأقلم."
فأجابتها بابتسامة صغيرة: "أما أنا، فأظن الأمر سيأتي طبيعيًا."
ثم أضافت : "هل ننطلق؟"
سارا معًا نحو المخرج، حيث ارتسم قوس محفور بين الأحراش.
تحت القوس، كانت إلفينا وثلاثة وزراء الفصول بانتظارها. بدت الملكة هادئة كالعادة، لكن كلاريون لم تخطئ رؤية الفخر المشع في ملامحها.
شهقت الوزيرة إيريس قائلة : "جلالتك! إنك تبدين كالحلم."
ابتسمت لها كلاريون: "شكرًا لك."
كانت ترتدي ثوبًا ذهبيًا خالصًا يلمع، تغطيه طبقة من دانتيل شفاف من خيوط العنكبوت الممزوجة بغبار الجنيات. أما شعرها، فقد رُفع في ضفيرة التاج التقليدية، وتوِّج بإكليل من زهور الثلج رغم أنها في قلب الصيف.
مهما بلغ قلقها، لم تستطع إنكار الحقيقة: لقد بدت ملكة، وشعرت أنها ملكة بالفعل.
اقترب منها راون وهمس بمكر، وخيوط عباءته الذهبية تلمع تحت الضوء المنعكس على كتفها:
"هل أنتِ مستعدة؟"
فتدخلت أورِيليا مازحة: "فلنأمل ذلك… وإلا ستفوتها مراسم تتويجها!"
كتمت إيريس ضحكة خلف يدها.
قالت كلاريون بابتسامة واثقة:
"أنا مستعدة تمامًا… فلنرَ ما هي المعجزات التي صنعتموها."
ردت إيريس بنغمة غنائية:
"أظن أنكِ ستسعدين كثيرًا."
كانت كلاريون تثق بهم ثقة مطلقة، ومع ذلك لم تكن تعرف ما ينتظرها. فعندما أخبرَت هي وإلفينا الآخرين، قبل يومين فقط، أنه سيتم تغيير موقع الحفل، بدا على أورِيليا تعبير جامد لا يُقرأ. لم تعرف كلاريون إن كان خيبة أمل أم ذعرًا، ولم يكن لديها وقت للتفكير. أما إيريس فدارت في الهواء ضاحكة بفرح شديد وهي تصيح:
"لقد حلّ الربيع أخيرًا! لن تندمي أبدًا!"
رمقت أورِيليا وزيرة الربيع بنظرة متجهمة، لكنهما معًا أصرتا على إنجاح الأمر. أما راون، فقد بدا متسليًا بكل ذلك، كما لو أن لا مصلحة له سوى التمتع بالمشهد. وقال وهو يغمز:
"ربما هذه إحدى فوائد النوم الطويل."
تنحنحت إلفينا وضبطت اللفافة بين يديها قائلة:
"لنتركهم ينتظرون أكثر من ذلك. أتصور أنهم جميعًا متشوقون لرؤية ملكتهم الجديدة."
خرجوا من بين الأشجار عند حافة الربيع. وما إن وقعت عينا كلاريون على ساحة الاحتفال حتى حُبس أنفاسها من روعة المنظر. بجوارها تبادلت أورِيليا وإيريس نظرات رضا، وقد فاقتا التوقعات حقًا.
أشعة الشمس العسلية انسابت بين الأغصان، تنثر بقعًا ذهبية على الأرض.
قوس قزح، صنعته أورِيليا بموهبتها النورانية، امتد عبر الفضاء كأعلام ملكية.
صفوف من المقاعد رتبت على شكل نصف دائرة، تواجه الجسر الواصل بين الشتاء والربيع، حيث تجمع كل جنّيات الشتاء خلف الحدود. كما نُحتت مقاعد من الجليد بجهود مواهب الصقيع، وزُيّنت بالهدال والهوالي والزهور البيضاء الناعمة.
تأثرت كلاريون كثيرًا حين أدركت أن أورِيليا وإيريس قد نسّقتا الأمر مع ميلوري.
ارتفع صوت المنادي:
"قفوا جميعًا لاستقبال صاحبة السمو الملكي، الأميرة كلاريون!"
وقف كل جنّيات "وادي الجنيات" معًا، وأداروا أنظارهم نحوها. لم يحدث قط أن تجمعت عليها كل هذه العيون. ولم يسبق أن امتلأت هذه العيون بمثل هذا الحب والإعجاب.
لم تستطع أن تمنع ابتسامتها من التفتح، فيما دوّت همسات وصرخات فرح بين الحشود وهي تسير برفقة إلفينا نحو الجسر. وسرعان ما ابتلعت أصوات الفرح أنغام مواهب الموسيقى وهم يعزفون.
انسدل ذيل فستانها خلفها كأنه يطفو على مجرى نهر خفي.
عبرت مع إلفينا القاعة، ووقفتا على الجسر تحت قوس بديع يربط بين الفصلين. نصفه الشتوي مصنوع من خشب البتولا المتوج بالثلج وطبقات الجليد الرقيقة، ونصفه الربيعي من أغصان فتية مكسوة بالطحالب، تلتقي في المنتصف، حيث تشابكت كالأصابع المتداخلة. أزهار من كل الفصول زُرعت فيه، فازدانت بألوان وزخارف غنية.
شعرت كلاريون بالراحة في هذا الموضع الفاصل. نسيم الشتاء لامسها برفق، كلمسة صديق قديم، وذرات ثلج متناثرة علقت بشعرها قبل أن تذوب. لم يكن هناك مكان تفضله لتتوج فيه سوى هذا ..... هنا، حيث التقت بالشخص الذي أصلح قلبها… ثم كسره.
دون وعي، أخذت تبحث عنه بين الحشود، لكن لم تجد له أثرًا قبل أن تبدأ إلفينا بفتح اللفافة التي تحملها.
ارتفع صوتها في الصمت قائلة:
"الأميرة كلاريون، هل أنتِ مستعدة لأداء القسم الملكي؟"
أجابت بصوتها ثابتًا:
"نعم."
"هل تقسمين أن تحمي وادي الجنيات ولو بحياتك؟"
"أقسم."
ـ "هل ستَحكمين هؤلاء الجنّيات المجتمعين أمامك بالعدل والرحمة؟"
"سأفعل."
"هل تتعهدين بضمان تعاقب الفصول بأمانة وكفاءة؟"
"أتعهد بذلك."
هزّت إلفينا رأسها، فظهرت موهبتان مساعدتان؛ إحداهما تحمل الصولجان الملكي، والأخرى وسادة عليها التاج.
أخذت إلفينا التاج أولًا، كان طوقًا نحاسيًا مصقولًا ، أدركت كلاريون فورًا أنه من عمل بيترا. على الرغم من كل شيء، وجدت بيترا وقتًا لصنع شيء بديع من أجلها.
وضعت إلفينا التاج بعناية على شعرها، ثم سلّمتها الصولجان. عدّلت التاج مرة أخرى، وللحظة، أقسمت كلاريون أنها رأت دمعة تلمع في عينيها قبل أن تختفي. وحين بدا أن إلفينا راضية، التفتت إلى الجمع.
"إذن، حيّوا جميعًا الملكة الجديدة لـ وادي الجنيات… الملكة كلاريون!"
تعالت الهتافات والصيحات في الساحة. شعرت كلاريون بقلبها يحلق وهي تراهم يحتفون بها.
الجنّيات نثرن غبار الجنيات في الهواء، وسرب من الطيّارين السريعين انقضّ من بين الأغصان مثيرًا نسيمًا مبهجًا.
تناثرت ومضات ذهبية ودوّرت في السماء. لم تستطع كلاريون سوى التحديق بهم، والحماس يخنق صوتها. أحبتهم جميعًا بشدة.
وكان هذا الحب كافيًا ليمنحها القوة.
حين خفت الضجيج، أخذت نفسًا عميقًا ورفعت صوتها:
"إن سمحتم لي… أود أن أخاطبكم للمرة الأولى كملكتكم."
فخيم الصمت في الحال. وتساءلت في نفسها: هل ستعتاد يومًا على هذا الأثر؟ هل ستشعر يومًا أن ملء هذا المقام طبيعي بالنسبة لها؟
قالت:
"كثير منكم ربما لا يعرفني جيدًا. أبقيت نفسي بعيدة عنكم منذ أن وصلت، وهو أمر أندم عليه بصدق. لكني أود أن أغيّر ذلك، بدءًا من اليوم. لذا… اسمحوا لي أن أعرّفكم بنفسي رسميًا: أنا كلاريون.
أتطلع لأن أتعرّف إلى كل واحد منكم خلال فترة حكمي. سلامتكم وسعادتكم هما أولويتي القصوى، وآمل أن أقودكم بحكمة… وبروح من الدعابة أيضًا." ثم ابتسمت بخجل. "رجاءً لا تترددوا في القدوم وتحدث إلي ، فأنا اثدر اي فرصة لتكلم معكم "
اخدت نظرت الى ألفينا التي أومان براسها وكأنها تقول " تابعي الحديث "
"تعلمت كثيرا في الآونة الأخيرة ، خاصتاً من جيراننا ... ، لديهم الكثير ليعلّمونا إياه. لقد استقبلوني بسخاء ودفء يفوقان كل ما حلمت به. ومنهم تعلمت أن أتشبث بالأمل، حتى في أحلك الليالي وأبردها. وأتطلع بشوق إلى ما يمكن أن ننجزه معًا."
ارتفعت الهتافات من جهة مملكة الشتاء. انتظرت كلاريون حتى هدأ صداها قبل أن تواصل:
"من دون حارس غابة الشتاء، ما كنا لنقف هنا اليوم." ابتلعت غصّة في حلقها وأردفت: "أقولها بكل يقين: لم أكن لأهزم كوابيس الظلام وحدي. كان كثير منا سيقعون تحت سحرها، ومع الوقت ربما كنا جميعًا سنسقط. نحن مدينون له بامتنان عظيم."
على الأقل هي كذلك. لم تكن لتستطيع ردّ ما فعله من أجلها أبدًا.
"وبناءً عليه، فإن أول مرسوم لي هو توحيد ممالكنا." شعرت بحرارة تشتعل داخلها بثبات كاللهب. "سوف نقدّم لهم الدعم، ونُعيرهم مواهبنا لمساعدتهم على تحسين طرقهم. علاوة على ذلك، سيُعرف حارس غابة الشتاء من اليوم بلقب سيد الشتاء. لقد حكمها ممثلًا عني، ويجب الاعتراف بذلك رسميًا. وسينضم إلى مجلسي."
توقفت قليلًا، غير متأكدة من ردّ الفعل. لكن التصفيق بدأ يتصاعد ببطء، ليملأ الصمت الذي تركته. غمرها شعور بالفرح وبالارتياح العميق، وكان ذلك كافيًا ليحملها نحو إعلانها التالي.
"ومع ذلك، كما تعلمون جميعًا، فإن عالمكم الجميل ليس آمنًا للجنّيات في مواسم الدفء، تمامًا كما أن عالمنا ليس آمنًا لهن. ولذلك، أعلن اليوم حظر عبور أي جنية للحدود. صحيح أننا سنظل منفصلين جسديًا، لكننا متحدون بالروح والغاية."
رفعت رأسها قائلة:
"بشراكتنا هذه، أرحب بعصر جديد من وادي الجنيات الموحّدة. عصر الأمل. سأبذل قصارى جهدي. أعلم أنني سأخطئ، لكني أقسم أنني سأمنحكم كل ما أملك."
تلاشت كلماتها الأخيرة في هواء الربيع الدافئ. ثم جاءها صوت ميلوري:
"فلتعش الملكة كلاريون طويلًا!"
تشنّج شيء داخلها حين سمعت اسمه. وكأن رابطًا خفيًا شدّها نحوه، التقت عيناها بعينيه وسط الحشد. كم كان غريبًا أن تراه متألقًا تحت ضوء الظهيرة! الفضة في عينيه شلّتها تمامًا.
انفجر الجميع بالتصفيق والهتافات، لكن أصواتهم بدت مكتومة في أذنيها. لم يعد في العالم أحد سواه. كأنها وميلوري انزلقا معًا إلى عالم خاص، خارج الزمن، يلمع مثل الحلم. لم تستطع أن تحول بصرها عنه، ولم تستطع أن تحمي نفسها من الفخر المشعّ منه… ومن الشوق أيضًا.
لكنها أجبرت نفسها على العودة إلى الواقع، مركزتاّ على فرحة هذا اليوم. كانت فرحة ناقصة، ما دام نصفها الآخر في مكان لا تستطيع الوصول إليه. لكن في هذه اللحظة، وسط قبول شعبها لها، كان ذلك كافيًا.
--------
استمرت الاحتفالات ساعات طويلة، يعمّها البهجة.
ورغم أن جنّيات الشتاء والربيع تمسكن في البداية بجانبهن الخاص، إلا أن الفرح سرعان ما عبر الحدود.
البعض مِن مَن هم أكثر جرأة……أو على الأقل الأكثر وُدًّا بينهم، كانوا قد اتجهوا نحو ضفة النهر لكسر الجمود بين العالمين. تبادلوا الأحاديث الصاخبة، ورقصوا في الهواء مقتربين بقدر ما تسمح لهم الجرأة. تركوا الطعام لبعضهم على الجسر، دعوةً لتذوق ما يقدمه كل فصل. حتى أن موهوب من مواهب الجليد ابتكر لعبة رمي كرات الثلج، استمرت حتى ذابت الكرة الأخيرة بحزن.
لكن مع غروب الشمس وعودة الجنّيات إلى بيوتهن، وجدت كلاريون نفسها غارقة في تفكير عميق، أقرب إلى الحزن. كان لا يزال أمامها أمر أخير لتفعله… وأكثر ما كانت تهابه:
قول الوداع.
صحيح أن ممالكهم ستعمل معًا عن قرب، لكنها وميلوري لن يلتقيا ثانية كما التقيا من قبل.
وقفت كلاريون على طرف الحفل، يلفها ستار من أزهار الوستارية العطرة. ارتشفت كأسًا من الشراب الفوّار: تعرف أن طعمه حامض ومنعش، لكنها لم تتذوق منه شيئًا حقًا. كان ذهنها بعيدًا تمامًا. الأزهار المزينة في شعرها بدأت تذبل من حرارة اليوم، وفرحتها السابقة بدت بعيدة جدًا، إذ كانت تعلم ما عليها فعله. لكن أن تكون ملكة لا يعني أن تختار السهل، بل أن تختار الصواب.
وأخيرًا، وجدتها بيترا.
اقتربت منها بخطوات هادئة قائلة:
"ما الذي تفعلينه هنا؟ حزينة؟"
ضحكت كلاريون بخفة:
"أنا؟ ربما. هل جئتِ لتمنعيني؟"
كانت بيترا ترتدي فستانًا طويل الذيل من أوراق الفيلودندرون، وأساور معدنية لامعة ــ من تصميمها طبعًا ــ ترنّ على معصميها بينما تدير كأسها بين يديها. هزت كتفيها وقالت:
"إن كنتِ مصرة، فمن حقك. إنه حفلُك بعد كل شيء."
ابتسمت كلاريون بهدوء:
"صحيح. على أي حال… التاج رائع. شكرًا لكِ."
أجابت بيترا بخفة:
"لا داعي للشكر."
سادت لحظة صمت، ثم تحدثت بنبرة خالية من اللوم، مليئة بالتفهم:
"هل ستتحدثين معه؟ لقد بدا شاردًا طوال الوقت."
"أفترض أن عليّ ذلك. وأرغب به فعلًا."
ثم ترددت. هل حقاً ترغب بذلك ؟ رؤيته ستوجع قلبها أكثر، وهي قد سبّبت لنفسها ما يكفي من الألم بمرسومها. وهنا، في هذا الركن المظلم المطمئن برفقة أعز صديقاتها، بدا السؤال الذي يطاردها ملحًا أكثر من أن يُترك دون جواب.
"بيترا… هل فعلتُ الصواب؟"
أجابت بثبات:
"بالطبع. أنتِ ملكتنا." ثم ترددت قليلًا، وكأنها تنتقي كلماتها بعناية. تأملت وجه كلاريون، وما رأت فيه جعلها تحسم أمرها. "لكن… لا أظن أنك ستعرفين اليقين أبدًا."
زفرت كلاريون بمرارة، معترفة في سرها أن ذلك صحيح.
أكملت بيترا بهدوء:
"كل ما أعلمه أننا يجب أن نحمي أنفسنا بكل وسيلة ممكنة، وأنتِ عليكِ أن تعتني بحياة الكثيرين. أنتِ تفعلين أفضل ما تستطيعين." ثم دفعتها بمزاح خفيف بكتفها. "اذهبي. سأكون بخير وحدي."
قالت كلاريون بامتنان وهي تمسك بذراعها:
"شكرًا… حقًا، على كل شيء."
ابتسمت بيترا ابتسامة دافئة:
"حظًا سعيدًا."
بدأت كلاريون تشق طريقها نحو الحدود. وتلاشت خلفها أصوات الحفل: الموسيقى، الضحكات، الهتافات.
في الظلام، أضاءت اليراعات الصغيرة، ترقص من حولها وتنسج لها دربًا من الضوء، كأنها تحاول مواساتها. لم تتركها إلا حين وضعت قدميها على الجسر. كان المشهد يشبه تمامًا تلك الليلة الأولى التي تجرأت فيها على القدوم إلى هنا…
كانت عزيمتها تكبح خوفها، والكرز المتفتح يكتسي بضوء القمر الساقط.
الأرض كانت مكسوّة بطحلب طري مبتلّ بالندى، وذيل ثوبها الطويل يجر خلفها. ضباب خفيف زحف من النهر، حرّكته نسمة عليلة، يرسم ليلة كئيبة توحي بالمطر القادم مع السحب الرمادية المتراكمة.
لم يستغرق الأمر من ميلوري سوى دقيقة ليظهر، كأنه كان يراقب الجسر.
كان كما عهدته دائمًا: حاضرًا و يمكن الاعتماد عليه، وفي الوقت ذاته ساحقًا.
عيناه كانتا أوضح وأصفى ما رأت في حياتها، تنفذان مباشرة إلى قلبها بقوة هادئة مليئة باللطف. قلبها انقبض بقسوة؛ لم تكن تعرف إن كانت ستتحمّل خسارته. لكن سواء بقيا معًا أو لا، كانت ستخسره في النهاية. بطريقة أو بأخرى، النجوم لن تسمح لهما بالبقاء.
إذن، الأفضل أن تحمي قلبها من البداية.
ذلك الفراغ الرقيق بين الشتاء والربيع بدا كحاجز خفي، سميك كالثلج… وعديم الوجود في الوقت ذاته.
كان ميلوري أول من كسر الصمت:
"مبروك، جلالتك."
البرود الرسمي في صوته حبس أنفاسها. كل اللحظات التي جمعتهما تلاشت فجأة، وهو يخاطبها بجفاء، كما في أول ليلة التقيا فيها.
تطلّب منها الأمر كل قوتها لتبقى في مكانها، لكي لا تكسر المسافة بينهما، لا ترتمي بين ذراعيه، لا تتوسل إليه أن ينظر إليها كما فعل قبل أيام فقط.
وقع بصرها على خرزتين فيروزيتين تثبّتان ريشتيْن بيضاويتيْن في ردائه. أدركت أنه رداءٌ جديد، مصنوع كليًا من ريش "نكتوا"، بدا وكأنه جناحان جديدان مطويان خلفه.
أجبرت نفسها أن تلتفت إليه مجددًا.
"شكرًا، لورد ميلوري."
استخدامها للقب الرسمي كسر آخر ما تبقى من مقاومته.
"ما جدوى التظاهر؟" بدا صوته محطمًا. "لم أفكر في شيء غيرك منذ افترقنا."
هذه المرة لم تحاول كلاريون أن تنكر. عانقته، والبرودة الشتوية تتسلل إلى ذراعيها العاريتين. قلبها يخفق بجنون ملاصقًا لخده. أصابعها شدّت على كتفيه أكثر مما يجب، لكنها كانت بحاجة لشيء يمسكها بالأرض.
"ولا أنا." همست. "أنت من جعلني أؤمن أنني أستحق هذا، ومع ذلك جعلتني أشعر أنني على استعداد للتخلي عن كل شيء لأكون أي شخص آخر. لو أستطيع، لأعدت كل شيء."
"أرجوك لا تقولي هذا." قال ميلوري بخفوت. "أنت تستحقينه. ستفعلين أشياء عظيمة يا كلاريون. لقد فعلتِ بالفعل."
"ومع ذلك سأبقى وحيدة." انطلقت الكلمات من فمها قبل أن تستطيع كبحها. رفع ميلوري ذقنه لينظر في عينيها.
"سيكون لديك كل رعاياك ليحبوك. وحتى لو لم أكن بجانبك، ستظلّين تملكينني. لن يكون هناك نجم أكثر سطوعًا… سأظل أحبك دائمًا."
شهقت كلاريون بأنين مكتوم، غير لائق بملكة، لكنها لم تهتم.
"وأنا كذلك."
أخذت وجهه بين يديها وقبّلته. قبلة قصيرة، أنانية، فقط لتحفره في ذاكرتها إلى الأبد: ملمس شفتيه ، ارتباك أنفاسه رغم تكرار اللحظات، برودة جلده تحت لمستها، رائحة الهواء العابق بالجِدّة. لم يمنحها ذلك راحة، بل تركها أكثر ألمًا، لأنه بدا وكأنه الوداع الأخير… والناقص جدًا.
كانت ذلك وداعًا.
بتردّد، تراجعت قليلًا وهمست :
"تذكّر أن تكون حرًا يا ميلوري. لم يعد عليك أن تطارد هذا الحدّ كالشبح بعد الآن."
ابتسم لها بأكثر ابتسامة موجعة رأتها في حياتها:
"وأنتِ أيضًا."
مستحيل، فكرت. ما دامت على قيد الحياة، فلن تتحرر منه أبدًا. لن يكون هناك آخر. لا بأس. بصفتها ملكة "وادي الجنيات "، كان عليها أن تتحمّل هذا الألم وحدها. ذاك واجبها.
ببطء، ابتعد عنها. انزلقت يداها من ذراعيه، إلى معصميه، حتى أفلتت أصابعها منه في النهاية.
قال وهو يبتعد : "اعتني بنفسك، جلالتك." .
لم تثق بنفسها لترد.
ومع خطواته المتباعدة، هبّت نسمة رقيقة، لعبت بخصلات شعره وجعلت عباءته الجديدة ترفرف من ورائه. لمحَت جناحه للحظة، الذي بدا تحت ضوء القمر متلألأ لامعًا صافياً، كزجاج مكسور.
وقفت كلاريون على الجسر حتى انفرجت الغيوم وبدأ مطر خفيف يتساقط. ظلت وحدها في الأرض المبتلة، تحدّق في فراغ الشتاء البارد.
النهاية
تعليقات
إرسال تعليق